«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

امتزجت شخصيته بالبحر وعاش الفن كحالة خاصة

الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)
الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)
TT
20

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)
الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)

في كتاب «حياتي كما عشتها» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يروي الفنان المصري محمود ياسين قبل رحيله طرفاً من مذكراته وتجربته في الفن والحياة من خلال حديث مطول أدلى به لمحرر المذكرات ومؤلف الكتاب الصحافي سيد محمود سلام. ورغم أن حديث الذكريات هنا يشمل محطات مختلفة، فإن الكتاب يركز بشكل خاص على مرحلة النشأة والطفولة وما اكتنفها من اكتشاف الفنان في سنوات التكوين الأولى لعالم الأدب وخصوصية مدينته بورسعيد، مسقط رأسه.

ويشير محمود ياسين إلى أن الطفولة مفتاح كل بوابات العمر، وقد عاش طفولته في أسرة محافظة مثقفة محبة للفن ولتراب الوطن حيث أثرت كثرة الحروب التي خاضتها المدينة على تعميق الحس الوطني لأبنائها. ويرى أنه كان طفلاً محظوظاً لأنه نشأ في أسرة تعد الثقافة جزءاً مهماً من تكوين أبنائها، وكان ترتيبه السادس بين أشقائه العشرة، وقد تأثر في طفولته بشقيقه الأكبر فاروق: «إذ فتح عيني على شيء اسمه الكتاب بمعناه الواسع. كان يتسلم الكتب ويذهب إلى المدرسة، لكن فاروق كانت له في البيت مكتبة خاصة عبارة عن خزانة كبيرة في الحائط صُممت على الطراز الفرنسي تضع فيها الوالدة الفخار وقطع الخزف الصيني وكؤوس الزجاج وأشياءها الخاصة، فصنع منها مكتبة بعرض الحائط بعد أن أقنعها بذلك حيث كانوا يقطنون في فيلا من دورين تابعة لشركة قناة السويس التي كان يعمل بها والده، وعاشوا فيها ما يزيد على 25 عاماً».

ظل فاروق يشتري الكتب باستمرار مثل سلسلة «اقرأ» التي كانت تصدر ملخصات لعيون الأدب العربي والعالمي والسير الذاتية مثل السيرة الذاتية لطه حسين ودوستويفسكي ومكسيم غوركي وأنطون تشيخوف، فضلاً عن عيون الأدب الفرنسي مثل مؤلفات غي دي موباسان. كانت السلسلة تصدر كتيبات لكل كتّاب ومفكّري العالم، فالتراث الإنساني كله أنتجته سلسلة «اقرأ»، وقد جمعه فاروق في مكتبته وأيضاً سلسلة أخرى بعنوان «كتابي» جمعها أيضاً في المكتبة.

قرأ محمود ياسين في صغره معظم دواوين الشعراء العرب وعبقريات العقاد في مكتبة شقيقه، فضلاً عن كتب سلسلة «الكتاب الذهبي» التي تعرّف فيها على محمد عبد الحليم عبد الله ونجيب محفوظ ويوسف إدريس ويوسف السباعي. كما كان الشقيق الأكبر فاروق شغوفاً باقتناء الكتب والمطبوعات الثقافية مثل مجلة «الهلال» حتى إنه يشتري الكتب بمصروفه الشخصي المحدود. ولم يكن الطفل محمود يشغل نفسه بشراء الكتب، لكن يده بدأت تمتد إلى مكتبة شقيقه، فغضب بشدة من استعارته كتبه؛ وذلك خوفاً من ألا تلقى الاحترام ذاته الذي تلقاه عنده تلك المكتبة التي كوّنها واشتراها من مصروفه. لكن عندما اطمأن لشقيقه، بدأ يشجعه مع بعض النصائح خوفاً على هذه الكتب. وبدأ الشقيق الأصغر في متابعة المسرحيات المترجمة بشكل خاص، لا سيما أعمال وليام شكسبير وهو ما أثار دهشة وإعجاب فاروق حين رأى شقيقه لا يفوّت نصاً للكاتب العالمي، سواء في سلسلة «كتابي» أو نظيرتها «اقرأ».

ويشير محمود ياسين إلى أن أبناء بورسعيد يتشابهون في ملامحهم وتكوينهم؛ لأن هذه المدينة تترك بصماتها على أبنائها، فهي بلد مفتوح على الدنيا ويُطل على أوروبا، فهناك شاطئ بحر وفي الأفق عالم آخر يجب أن تحلم به. إنها مدينة وسط جزر من المياه، فتأثر بهذه الخصوصية الجغرافية وما أكسبته لسكانها من حس حضاري لافت.

يقول محمود ياسين في مذكراته إن الطفولة مفتاح كل بوابات العمر وقد عاش طفولته في أسرة محافظة مثقفة محبة للفن ولتراب الوطن حيث أثرت كثرة الحروب التي خاضتها المدينة على تعميق الحس الوطني لأبنائها.

امتزجت شخصية محمود ياسين بالبحر المتوسط الذي تطل عليه مدينته، فهو مثله تراه شديد الهدوء تارة، شديد الصخب تارة أخرى. يقول: «إن أخلاقي كأخلاق البحر وطبيعتي تشبهه، فأنا في شهري سبتمبر وأكتوبر أكون هادئاً هدوءاً غريباً وعندما تنظر إليّ تشاهد ما في أعماقي، وإذا تحدثت إليّ يمكنك أن تكتشف كل شيء. أما الشخص الصاخب العصبي فهو أيضاً أنا ولكن في شهر يناير، وكذلك البحر بـ(نواته) وأمواجه المتلاطمة. لا أحب شهر يناير، قد يكون لأنه بداية عام لا أعلم ما يخبئه، وحين راقبت نفسي وجدت أنني في مواسم أكون هادئاً وأخرى أكون صاخباً وهذا هو حال البحر».

كانت حياة الصبي محمود ياسين قبل التمثيل غير مستقرة، كأنه يبحث عن شيء يسعده. كان يراقب شقيقه فاروق، الممثل العظيم بقصور الثقافة، وتعلم منه كيف يحب الريحاني. يشاهده فيشعر بأنه يمتلك عالم التمثيل بين عينيه، نظراته، تأمله، صوته حتى وهو يغني بصوتٍ أجش تستسيغ غناءه من هذه الحالة التي لاحظها وتأثر بها. أحبَّ التمثيل وشعر بأنه الشيء الذي يبحث عنه، إنه عالمه المفقود، به ستكتمل حياته.

اللافت أن التمثيل منذ البدايات الأولى بالنسبة لمحمود ياسين «حالة»، إنه بمثابة «عفريت» يتجسد في الشخص المحب له، فكان يسعد بالمشاهد التي يمثلها في نادٍ يسمى «نادي المريخ» ببورسعيد وهو طفل. وكوّن هو وزملاؤه فرقة مسرحية، مع عباس أحمد الذي عُرف بأشهر مخرجي الثقافة الجماهيرية، وله باع طويل وأثر في حياته كصديق ورفيق رحلة كفاح، هو والسيد طليب، وكانا أقرب صديقين له، سواء على مستوى هواية التمثيل أو الحياة.

ويروي كيف كان يقدم مسرحية على خشبة مسرح صنعوه بأنفسهم من مناضد وكراسي متراصة، وفي قاعة تسع 100 شخص، فلمح والده، وكانت المرة الأولى التي يمثل فيها ويشاهده أبوه، وإذا به يبتسم له ابتسامة هادئة، اعتبرها أول تصريح رسمي منه بموافقته على دخوله هذا المجال. ويذكر أيضاً أن من بين العمال الذين تأثر بهم محمود عزمي، مهندس الديكور العبقري، الذي لم يحصل على أي شهادات دراسية ولم يلتحق بالتعليم، لكنه كان يهوى الرسم ويصمّم ديكورات أي نصوص سواء عربية أو عالمية ببراعة مدهشة.


مقالات ذات صلة

المسكونون بشغف الأسئلة

كتب ديفيد دويتش

المسكونون بشغف الأسئلة

كتبتُ غير مرّة أنّني أعشق كتب السيرة الذاتية التي يكتبها شخوصٌ نعرف حجم تأثيرهم في العالم. السببُ واضحٌ وليس في إعادته ضيرٌ: السيرة الذاتية

لطفية الدليمي
كتب هانز كونغ

هانز كونغ والحوار مع الإسلام

كان العالم اللاهوتي الكاثوليكي السويسري هانز كونغ (1928-2021) متحمساً جداً للحوار مع الإسلام. والكثيرون يعدونه أكبر عالم دين مسيحي في القرن العشرين

هاشم صالح
ثقافة وفنون هاروكي موراكامي

هاروكي موراكامي شخصية العام الثقافية في «جائزة الشيخ زايد للكتاب»

أعلنت جائزة الشيخ زايد للكتاب في مركز أبوظبي للغة العربية، عن اختيار الكاتب الياباني العالمي هاروكي موراكامي شخصية العام الثقافية.

«الشرق الأوسط» (الدمام)
ثقافة وفنون «ملصقات بيروت» للروائي ماجد الخطيب... رحلة باتجاه واحد

«ملصقات بيروت» للروائي ماجد الخطيب... رحلة باتجاه واحد

حين يقرر الإنسان السفر، تراوده مشاعر القلق والترقب، لكنه يجد في التجربة مغامرةً وتجديداً

حمدي العطار (بغداد)
كتب تشارلي إنجلش

الكتب مهّدت لانتصار الغرب الحاسم في الحرب الباردة

يبدو اسم كتاب صحافي «الغارديان» البريطانية تشارلي إنجلش الأحدث «نادي الكتاب في وكالة المخابرات المركزية» أقرب لعنوان رواية جاسوسيّة منه لكتاب تاريخ

ندى حطيط

هانز كونغ والحوار مع الإسلام

هانز كونغ
هانز كونغ
TT
20

هانز كونغ والحوار مع الإسلام

هانز كونغ
هانز كونغ

كان العالم اللاهوتي الكاثوليكي السويسري هانز كونغ (1928-2021) متحمساً جداً للحوار مع الإسلام. والكثيرون يعدونه أكبر عالم دين مسيحي في القرن العشرين وبدايات القرن الحادي والعشرين أو من أكبرهم على الأقل. وهو ليس فقط رجل دين وإنما أحد كبار فلاسفة الدين في التاريخ. لقد جمع في شخصه بين الانفتاح الديني الواسع والتعمق الفلسفي الرائع. وهذا شيء نادر أن نراه لدى رجل دين. ولا يوازيه في الجهة العربية أو الإسلامية إلا شخصية فلسفية كبرى كمحمد أركون. لقد كان هذا العالم المسيحي منفتحاً على الإسلام انفتاحاً كبيراً وطيباً. وقد عبر عن ذلك في العديد من كتبه ومقالاته وحواراته. سوف نتوقف لحظة عند بعض الأفكار التي بلورها والآفاق التي دشنها. وقد ورد ذلك في كتابه الضخم في نحو الألف صفحة بعنوان: «الإسلام... الماضي، والحاضر، والمستقبل». وهو يفتتح الكتاب بهذا العنوان اللافت: «نحن ضد صدام الثقافات والحضارات».

يقول لنا المؤلف منذ البداية ما فحواه:

كتابي هذا عن الإسلام ليس إلا استمرارية متواصلة لكتابي عن اليهودية الصادر عام 1992، ثم كتابي الآخر الصادر عن المسيحية عام 1994. وهكذا أكون قد شملت الأديان الإبراهيمية الثلاثة بأبحاثي المطولة العويصة التي استغرقت مني عشرات السنين. وكل كتاب لا يقل عن الألف صفحة بل بعضها يزيد.

(بين قوسين ويا ليتها تترجم إلى العربية. ولكن من يتجرأ على ترجمتها؟ حتى الترجمة ممنوعة! ولو ترجمت لفهمنا معنى الديانات الإبراهيمية الثلاثة عن جد ولفهمنا أيضا ماهية القواسم الكبرى المشتركة فيما بينها وكذلك أوجه الاختلاف والخصوصية الفريدة لكل واحد منها). جميع هذه الكتب تشكل شرحاً مفصلاً للبرنامج الديني - الفلسفي الذي بلوره المؤلف بغية إحداث طفرة عقلية كبرى في الوعي الجمعي أو الجماعي الدولي والعالمي. وهي طفرة معرفية أصبحت ضرورية لكي تتعايش البشرية فيما بينها بكل سلام ووئام على الرغم من اختلاف أديانها وعقائدها ومذاهبها. وهذا البرنامج الكبير يتمثل في الشعارات التالية التي طرحها المؤلف:

أولاً: لا سلام في العالم دون سلام بين الأديان.

ولا سلام بين الأديان دون حوار صريح بين الأديان.

ثانياً: ولا حوار بين الأديان دون نقد راديكالي للتطرف الديني والتعصب الأعمى. وهذا ما سيؤدي إلى تحقيق الأخوة الإنسانية بين مختلف الأقوام والشعوب (بين قوسين هذا البرنامج هو ما حققته المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة مؤخراً).

ثالثاً وأخيراً: لا مستقبل للفكر البشري دون تحقيق المصالحة التاريخية بين العلم والإيمان أو بين الدين والفلسفة العقلانية التنويرية. ولا مستقبل دون تجاوز المفهوم الطائفي والإقصائي والتكفيري للدين...

ماذا يقصد المؤلف بالطفرة المعرفية الكبرى التي ينبغي أن تحققها البشرية؟ ماذا يقصد بهذه الطفرة الفلسفية التي تنقلنا من حال إلى حال؟ إنه يقصد ضرورة الانتقال من باراديغم القرون الوسطى إلى باراديغم الحداثة: أي من الفقه القديم الطائفي التكفيري إلى الفقه الجديد المتسامح التنويري. وهو يعني بالباراديغم هنا النموذج المعرفي الأعلى الذي يهيمن على ثقافة ما في فترة معينة من فترات التاريخ البشري. فمن الواضح أن المعيار الفكري الأعلى أو لنقل السقف الفكري الأعلى الذي كان يهيمن على العصور الوسطى غير المعيار الفكري الأعلى أو السقف الفكري الأعلى الذي يهيمن على العصور الحديثة. الأول منغلق كلياً على نفسه والثاني منفتح على كلية العالم. ومشكلتنا في العالم العربي هي أننا لا نزال واقعين تحت هيمنة السقف الأول لا الثاني فيما يخص الحركات الأصولية المتشددة على الأقل. وحدها النخب المتعلمة أو المثقفة خرجت من براثن هذا التطرف الأعمى والباراديغم الظلامي القروسطي القديم. ولكن هل يمكن الخلاص من الكابوس الأصولي السابق الذي خيم علينا طوال ألف سنة متواصلة بين عشية وضحاها؟ هل يمكن التحرر من براثن الفتاوى التكفيرية التي لا تزال تحظى بالقداسة والمعصومية حتى اللحظة؟ مستحيل. هذه العملية استغرقت من أوروبا 300 سنة. فهل يمكن أن يحققها العالم العربي في ظرف 30 سنة فقط؟ هذا هو السؤال. هذه قصة أجيال. هذه معركة العرب الكبرى: أكاد أقول هذه معركة المعارك، أم المعارك. ولكننا سائرون على الطريق بإذن الله. وأكبر دليل على ذلك وثيقة الأخوة الإنسانية الموقعة في أبو ظبي من قبل شيخ الأزهر وبابا روما بتاريخ 4 فبراير (شباط) 2019. وهي وثيقة متكاملة ومفصلة تدعو إلى تحقيق السلام العالمي والعيش المشترك بين جميع الأديان والشعوب والثقافات. وهذا مطابق حرفياً لما نص عليه القرآن الكريم: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا). (الحجرات، 13). الشيء نفسه يمكن أن يقال عن وثيقة مكة المكرمة الموقعة بتاريخ 30 مايو (أيار) 2019، التي هي أيضاً وثيقة كبرى تهدف إلى تحقيق السلام بين الأمم، واتباع الوسطية والاعتدال في فهم الدين، والابتعاد عن التطرف والغلو.

كل هذا يمشي في الاتجاه الصحيح لحركة التاريخ. كل هذا يقذف بأمتنا العربية الإسلامية خطوات كبيرة إلى الأمام. كل هذا يصالحنا مع أنفسنا ومع عصرنا ومع الجماعة الدولية بأسرها. وكل هذا يشفينا من مرض التطرف الأعمى الذي لا يؤدي إلا إلى خراب الشعوب والأوطان وتفكيك الوحدة الوطنية. فمتى سيفهم المتطرفون الدمويون ذلك؟ متى سيدركون أن مشروع الإسلام السياسي بكلا شقيه الإخواني والخميني قد وصل إلى الجدار المسدود وفشل فشلاً ذريعاً؟ وذلك لأنه خاضع كلياً لباراديغم القرون الوسطى المظلمة ومضاد لحركة التاريخ، بل ومضاد لجوهر القرآن الكريم ذاته. هذا من جهة. وأما من جهة أخرى فنلاحظ أن هانز كونغ من أنصار مشروع حوار الحضارات المضاد لمشروع صدام الحضارات على طريقة صموئيل هانتنغتون. ولكنه يرى أن هانتنغتون الذي ابتدأ تنظيراته عام 1993 بمقالة واحدة كان حذراً جداً في البداية، ثم أصبح متشدداً في النهاية.

ثم يردف هانز كونغ قائلاً: من الواضح أن مستشار البنتاغون لم يلحظ الديناميكية الداخلية للثقافات البشرية. ولم ينتبه بالأخص إلى مدى حيوية الثقافة العربية الإسلامية وعظمتها التاريخية. مشكلته أنه لم يلحظ مدى تنوعها وانقسامها إلى تيارات خصبة، بل وحتى متصارعة فيما بينها. أَنَظَر إلى الصراع بين العقلانيين الوسطيين من جهة، والأصوليين المتطرفين من جهة أخرى في كل بلد عربي أو إسلامي؟ وبالتالي فخطيئة هانتنغتون تكمن في أنه نظر إلى الحضارة الإسلامية ككتلة واحدة صماء، بكماء، عمياء، ليس لها هدف سوى ضرب الغرب أو تفجيره. أطروحة صموئيل هانتنغتون صحيحة بلا شك ولكنها لا تنطبق إلا على المتطرفين فقط في العالم العربي. إنها لا تنطبق إلا على الحركات الظلامية المتعصبة داخل الثقافة العربية الإسلامية. نظرية صموئيل هانتنغتون لا تنطبق إطلاقاً على تيار نجيب محفوظ أو طه حسين أو محمد أركون أو بقية النهضويين والتنويريين العرب والمسلمين. محال. وإنما تنطبق فقط على تيار المتطرفين من أمثال حسن البنا وسيد قطب والخميني وخامنئي، إلخ. هنا يمكن القول إن موقفه مبرر تماماً، بل واستبق ضربة 11 سبتمبر (كانون الأول) الإجرامية الكبرى. وهذا مدهش فعلاً ودليل على أنه مفكر استشرافي نبوئي واسع المدى ويرى أبعد من أنفه. ولهذا السبب نال كتابه شهرة دولية وترجم إلى مختلف لغات العالم. لقد استبق حركة التاريخ وتنبأ بها قبل أن تحصل. وهذا شيء نادر عند المثقفين بل ولا يقدر عليه إلا فلاسفة التاريخ الكبار من أمثال هيغل أو جان جاك روسو أو كانط. فمقالته التي تحولت لاحقاً إلى كتاب سبقت ضربة 11 سبتمبر بسبع سنوات فقط. لقد أتت قبلها مباشرة تقريباً. لقد أرهصت بها واستبقتها. كل هذا صحيح. ولكن ماذا نفعل بالتيارات الليبرالية التحديثية داخل العالم العربي والإسلامي يا سيد هانتنغتون؟ هل نشملها أيضاً بنظرية صدام الحضارات كالمتطرفين؟ غير معقول. بل ماذا نفعل بالتيارات العقلانية الوسطية المعتدلة داخل الحركة الإسلامية ذاتها. ألم يقل القرآن الكريم: (وكذلك جعلناكم أمة وسطاً)؟ لم يقل قط: وكذلك جعلناكم أمة متطرفة!

أخيراً يرى هانز كونغ أن الإسلام شكل واحدة من أعظم الحضارات على وجه الأرض في الماضي. فلماذا لا يستطيع تشكيلها في الحاضر أو المستقبل؟ لقد أشرق هذا الدين القيّم على العالم يوماً ما إبان العصر الذهبي وكان أستاذاً للبشرية كلها علماً وفلسفة وأخلاقاً. لقد شكل حضارة كبرى قائمة على ركنين أساسيين: العقل والنقل، العلم والإيمان، الدين والفلسفة. وعندما انهار أحد هذين الركنين (أي الفلسفة العقلانية) انهارت حضارتنا وهيمنت علينا الأصولية العمياء طوال عصور الانحطاط ولا تزال!