سوزانا كلارك... توّجوها واحدةً من أعظم روائيي جيلها ثم اختفت

باعت روايتها الأولى 4 ملايين نسخة

سوزانا كلارك... توّجوها واحدةً من أعظم روائيي جيلها ثم اختفت
TT

سوزانا كلارك... توّجوها واحدةً من أعظم روائيي جيلها ثم اختفت

سوزانا كلارك... توّجوها واحدةً من أعظم روائيي جيلها ثم اختفت

قبل عشرين عاماً، خاض محرر في دار «بلومزبري للنشر» مخاطرة كبيرة إزاء كتاب غير عادي للغاية. فهي رواية خيالية أولى لسوزانا كلارك، تدور أحداثها في إنجلترا بالقرن التاسع عشر، وتحكي قصة ساحرين متنازعين يحاولان إحياء فنون السحر الإنجليزي المفقود. كانت المخطوطة غير المكتملة مليئة بالهوامش المعقدة التي تشبه في بعض الحالات أطروحةً أكاديميةً حول تاريخ ونظرية السحر. وكانت مؤلفة الكتاب سوزانا كلارك محررة كتب طهي وتكتب الروايات الخيالية في وقت فراغها.

أطلقت «جوناتان سترينج والسيد نوريل»، على الفور، سوزانا كلارك واحدةً من أعظم كُتاب الروايات في جيلها. ووضعها النقاد في مصاف موازٍ لكل من سي. إس. لويس وجيه. أر. أر. تولكين، وقارن البعض ذكاءها الماكر وملاحظاتها الاجتماعية الحادة بتلك التي لدى تشارلز ديكنز وجين أوستن. التهم القراء الرواية التي بِيع منها أكثر من أربعة ملايين نسخة.

تقول ألكساندرا برينغل، المحررة السابقة في «دار بلومزبري»، التي كُلفت بطباعة أولى بلغت 250 ألف نسخة: «لم أقرأ شيئاً مثل رواية (جوناتان سترينج والسيد نوريل) في حياتي. الطريقة التي خلقت بها عالماً منفصلاً عن عالمنا ولكنه متجذر فيه تماماً كانت مقنعة تماماً ومُرسومة بدقة وحساسية شديدتين».

أعادت الرواية تشكيل مشاهد طمست الحدود مع الخيال، مما جعلها في القائمة الطويلة لجائزة «بوكر» وفازت بـ«جائزة هوغو»، وهي جائزة رئيسية للخيال العلمي والفانتازيا. وبسبب نجاح الرواية، نظمت جولات لها عبر الولايات المتحدة وأوروبا، ومنحتها «دار بلومزبري» لاحقاً عقداً ضخماً لرواية ثانية.

ثم اختفت كلارك فجأة كما ظهرت. بعد فترة قصيرة من إصدار الرواية، كانت كلارك وزوجها يتناولان العشاء مع أصدقاء بالقرب من منزلهما في ديربيشاير بإنجلترا. وفي منتصف الأمسية، شعرت كلارك بالغثيان والترنح، ونهضت من الطاولة، وانهارت.

في السنوات التالية، كافحت كلارك لكي تكتب. كانت الأعراض التي تعاني منها؛ الصداع النصفي، والإرهاق، والحساسية للضوء، والضبابية، قد جعلت العمل لفترات طويلة مستحيلاً. كتبت شذرات متناثرة غير متماسكة أبداً؛ في بعض الأحيان لم تستطع إنهاء عبارة واحدة. وفي أدنى حالاتها، كانت طريحة الفراش وغارقة في الاكتئاب.

توقفت كلارك عن اعتبار نفسها كاتبة.

نقول: «تم تشخيص إصابتي لاحقاً بمتلازمة التعب المزمن. وصار عدم تصديقي أنني لا أستطيع الكتابة بعد الآن مشكلة حقيقية. لم أعتقد أن ذلك ممكن. لقد تصورت نفسي امرأة مريضة فحسب».

الآن، بعد عقدين من ظهورها الأول، تعود كلارك إلى العالم السحري لـ«سترينج ونوريل». عملها الأخير، رواية «الغابة في منتصف الشتاء»، يُركز على امرأة شابة غامضة يمكنها التحدث إلى الحيوانات والأشجار وتختفي في الغابة. تمتد الرواية إلى 60 صفحة مصورة فقط، وتبدو مقتصدة وبسيطة بشكل مخادع، وكأنها أقصوصة من أقاصيص للأطفال. لكنها أيضاً لمحة عن عالم خيالي غني لم تتوقف كلارك عن التفكير فيه منذ كتبت رواية «سترينج ونوريل».

القصة التي ترويها كلارك في رواية «الغابة في منتصف الشتاء» هي جزء من روايتها الجديدة قيد التأليف، التي تدور أحداثها في نيوكاسل المعاصرة، التي تقوم مقام عاصمة للملك الغراب، الساحر القوي والغامض الذي وصفته كلارك بأنه «جزء من عقلي الباطن». كانت مترددة في قول المزيد عن الرواية التي تعمل عليها، وحذرة من رفع التوقعات. وقالت: «لا أعرف ما إذا كنت سوف أتمكن من الوفاء بكل هذه الوعود الضمنية. أكبر شيء أكابده الآن هو مقدار الطاقة التي سأحصل عليها للكتابة اليوم».

تكتب كلارك على طريقة «الغراب» الذي يجمع الأشياء اللامعة. وتصل الصور والمشاهد من دون سابق إنذار. تدون كلارك الشذرات المتناثرة، ثم تجمعها سوياً في سردية، أو عدة سرديات. يقول كولين غرينلاند، كاتب الخيال العلمي والفانتازيا، وزوج كلارك: «إنها دائماً ما تكتب عشرات الكتب في رأسها».

غالباً ما يشعر القارئ عند قراءة رواياتها وكأنه يرى جزءاً صغيراً من عالم أكبر بكثير. حتى كلارك نفسها غير متأكدة أحياناً من القصص التي كتبتها والتي لا توجد فقط إلا في خيالها.

تقول بصوت تعلوه علامات الحيرة: «لا أتذكر ما وضعته في رواية (سترينج ونوريل) وما لم أضعه أحب القصص التي تبدو وكأنها خلفية لقصة أخرى، وكأن هناك قصة مختلفة وراء هذه القصة، ونحن نرى مجرد لمحات من تلك القصة. بطريقة ما تعتبر رواية (جوناتان سترينج والسيد نوريل) كخلفية لقصة أخرى، لكنني لا أستطيع أن أقول إنني أعرف بالضبط ما هي تلك القصة الأخرى».

في الحوار معها، كانت كلارك، التي تبلغ من العمر 64 عاماً ولديها شعر أبيض لامع قصير، تجلس في غرفة المعيشة في كوخها الحجري الدافئ، حيث عاشت هي والسيد غرينلاند منذ ما يقرب من 20 عاماً.

ويقع منزلهما على الامتداد الرئيسي لقرية صغيرة في منطقة بيك ديستريكت في دربيشاير، على بعد خطوات قليلة من كنيسة صغيرة مبنية بالحجر، وعلى مسافة قصيرة سيراً على الأقدام من حانة القرية التي يزورونها أحياناً. ويساعد هدوء الريف - حيث لا يكسر الصمت في يوم خريفي سوى زقزقة الطيور وثغاء الأغنام بين الحين والآخر - كلارك على توجيه أي طاقة تستطيع حشدها للكتابة.

في يوم رمادي رطب قليلاً في سبتمبر (أيلول)، كانت كلارك تشعر بأنها على ما يرام إلى حد ما، وكانت قد رفعت قدميها على أريكة جلدية بنية اللون؛ المكان الذي تكتب فيه أغلب أوقات الصباح. كانت تحمل في حضنها خنزيراً محشواً، مع ثعلب محشو يجاورها؛ ويلعب كل كائن من هذه المخلوقات دوراً في رواية «الغابة في منتصف الشتاء». تحب أن تمسك حيواناتها المحشوة أثناء العمل، لمساعدتها على التفكير، وكتعويذة «لدرء شيء ما لا أعرف ما هو. يفعل بعض الناس أشياء كالأطفال، ثم مع التقدم في العمر، يتخلون عن الأشياء الطفولية. أنا لست جيدة للغاية في ذلك».

نظرت إلى الخنزير وأضافت: «لا أرى حقاً جدوى في التقدم بالعمر».

ثم استطردت: «أكبر شيء يقلقني هو كم من الطاقة سأحتاج للكتابة اليوم؟».

وُلدت سوزانا كلارك في نوتنغهام عام 1959، وكانت طفولتها غير مستقرة، إذ كان والدها، وهو قس مسيحي، يغير الكنائس كل بضع سنوات، وانتقلت عائلتها ما بين شمال إنجلترا وأسكوتلندا. في منزلهم البروتستانتي، كان إظهار العواطف غير مرغوب فيه؛ ولذلك نشأت كلارك، الكبرى من بين ثلاثة أبناء، على الاعتقاد بأن التقوى تعني أنه «ليس من المفترض أن تفعل في حياتك ما يجعل منك إنساناً مميزاً»، كما تقول.

*خدمة: «نيويورك تايمز»



إعادة اكتشاف جماليات رواية «الحرام» ليوسف إدريس

إعادة اكتشاف جماليات رواية «الحرام» ليوسف إدريس
TT

إعادة اكتشاف جماليات رواية «الحرام» ليوسف إدريس

إعادة اكتشاف جماليات رواية «الحرام» ليوسف إدريس

يولي الباحث والأكاديمي الدكتور عايدي علي جمعة، في كتابه «بناء الرواية: دراسات في الراوي والنوع» الصادر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب اهتماماً خاصاً برواية «الحرام» الصادرة عام 1959 ليوسف إدريس؛ حيث يسعى المؤلف إلى إعادة اكتشاف النص الشهير الذي تحول إلى فيلم سينمائي من إنتاج عام 1965، بطولة فاتن حمامة وإخراج هنري بركات. ويشير عايدي إلى أن البنية الكبرى للعمل تظهر من خلال عثور أحد الخفراء على شيء لفت نظره الضعيف، في أثناء عمله ذات صباح تحت شجرة وعلى جانب جسر الترعة التي كان يستحم فيها، وحينما أمعن النظر فيه مضى يصرخ: «الله حي، الله حي»، فقد كان جنيناً حديث الولادة مخنوقاً مفارقاً للحياة.

تبدأ عملية بحث كبيرة لكشف ملابسات الواقعة، خصوصاً من جانب «فكري أفندي» ناظر العزبة، عن صاحبة هذه الجريمة وشكه في عمال التراحيل الغرباء أو «الغرابوة» الذين جاءوا بنسائهم وأقاموا في العزبة الكبيرة من أجل العمل في تنقية محصول القطن مما يصيبه. وبعد عمليات بحث مضنية وشك طال الكثيرات، تبيّن أن إحدى عاملات التراحيل المتزوجات من رجل فقد صحته تماماً بسبب المرض هي من قامت بهذا الفعل؛ لأنها تخاف الفضيحة. والحكاية أن زوجها المقعد أبدى رغبته في أن يأكل ثمرة بطاطا، وعلى الفور أخذت فأسه الصدئة وذهبت إلى الحقل وحاولت أن تبحث عن «جدر بطاطا». وأثناء انهماكها في نبش التربة بالفأس بحثاً عن بغيتها، جاء «محمد بن قمرين» صاحب الحقل وحفر بدلاً منها وأعطاها بغيتها، ولكنها وقعت في حفرة من حفر الحقل، فذهب محمد بن قمرين لمساعدتها على النهوض وأثناء مساعدتها على النهوض، استيقظت فيه الرغبة فاحتضنها ليقعا في المحظور، فقد تذكرت فيه صورة زوجها حين كان بصحته. وأثمرت الخطيئة عن الحمل، وكانت النتيجة أنها فقدت حياتها بسبب ذلك.

يرى الباحث أن حركة السرد العارمة من أجل البحث عن أم الطفل اللقيط المخنوق شكّلت فضاءات سردية كاشفة عن بنية اجتماعية خاصة في بقعة مكانية تقع في شمال الدلتا حيث المعاناة الهائلة للمهمشين من أبناء الشعب المصري، وفضاء بصرياً لافتاً مهدت له بداية الرواية بمشهد الخفير عبد المطلب وحده في الترعة الكبيرة وقد غمر الماء جسده كله، ثم ما لبث أن ظهر الرأس منه ثم خرج عارياً من الماء على شاطئ الترعة حتى ارتدى ملابسه ثم يجد اللقيط. ويتوازى مع صورة الجنين في رحم أمه وهو مغمور بماء الرحم حتى يحمله، ثم سرعان ما تبدأ عملية ستر جسده وبذلك يظهر دور اللاوعي السردي في السرد.

هناك حرام آخر على المستوى العام يتمثل في غياب العدالة الاجتماعية وتعرض شريحة من المواطنين للتهميش والقمع والاستعباد

ويؤكد الباحث أن لوجود كلمة «الحرام» في العنوان دوراً كبيراً في جعلها مركز ثقل يظهر بوضوح عبر صفحات الرواية وعلى ألسنة بعض شخصياتها حيث يتضح للقارئ أن فعل التحريم لا يقتصر على الإنجاب سفاحاً وارتكاب واقعة الزنا فقط، فهذه هو الحرام على المستوى الشخصي، وإنما هناك حرام آخر على المستوى العام يتمثل في غياب العدالة الاجتماعية، وتعرُّض شريحة من المواطنين للتهميش والقمع والاستعباد. ولم يكن الراوي في هذا العمل شخصية من شخصيات الرواية، بل كان صوتاً مفارقاً وكأنه صوت كوني يعبر عن الأحداث والشخصيات، ولذا لم تجد له اسماً أو وصفاً، وإنما يطالعنا صوته وكأننا نعرفه لأنه يبعدنا عن صوت «الأنا» المتضخمة ليجنح بالقص إلى الموضوعية.

وتعد «عزيزة» الشخصية المحورية في الرواية؛ لأن السرد يتتبعها منذ البداية، وإن كان ظهورها الحقيقي في الرواية قد جاء بعد صفحات طويلة، فقد ظهرت في الصفحة 80 من النص الذي يقع في 151 صفحة. ومع ذلك، فقد جعلتها حركة السرد في بؤرة الحدث نتيجة بحث كل الأطراف عنها منذ اللحظة الأولى. وانحاز السرد لتلك الشخصية بوصفها نموذجاً حياً للمُهمشين الذين يعانون من الفقر والعوز ويتلقّون طوال الوقت أسواط القهر اللاهبة على ظهورهم بلا رحمة.

ويخلص الدكتور جمعة إلى أن السارد العليم استطاع أن يعكس بعض مفاهيم علم النفس الحديث في هذه الرواية؛ من خلال التركيز على مفهوم العلاقة بين السلوك و«المثير» أو «الحافز»، فحركة محمد بن قمرين العفية وهو يضرب بفأسه الأرض باحثاً عن ثمرة البطاطا ظهرت كمثير حرّك الرغبة النائمة داخل عزيزة فتذكرت عرامة جسد زوجها وفحولته القديمة، وتحولت الفأس إلى مثير يستدعي صورة الذكر وهو يضرب الأرض وكأنه يناجى أنثاه. واتخذ السارد العليم من تلك الواقعة البسيطة مدخلاً لإدانة الواقع الاجتماعي والسياسي والثقافي قبل ثورة 1952، عبر كشف خطايا المجتمع كله قبل أن يكشف خطيئة امرأة ريفية بسيطة في تلك الحقبة الزمنية.