رومانتيكية فائضة في عالم سريع التغيّر

الحياة ميدان تسوياتٍ مستديمة

شللي
شللي
TT

رومانتيكية فائضة في عالم سريع التغيّر

شللي
شللي

لم تعُدْ مفردة «الرومانتيكية» تُذكَرُ إلّا قليلاً، وحتى عندما تذكّرُ فغالباً ما تكون في سياق استذكار تاريخ التيارات الأدبية التي سادت في بدايات القرن التاسع عشر. من الصعب نسيانُ فرسان الرومانتيكية: شيللي وشيللر وكولردج وكيتس ووردزورث. تراجعت مفاعيل الرومانتيكية كثيراً في عصرنا بفعل مؤثرات العقلنة العلمية وسطوة الثورات التقنية المتوالية التي تتطلب عقلاً منضبطاً يتحرك بخوارزميات صارمة. بالنسبة لي صارت المرات القليلة التي تُعرَضُ لي فيها مفردةُ «الرومانتيكية» أو مشتقاتها اللغوية تذكّرني بكِتاب «رومنطيقيو المشرق العربي» لحازم صاغية الذي اختار مفردة «رومنطيقيو» بدلاً من «رومانتيكيو» في عنوان كتابه. المثيرُ أنّ أغلب أساطين الرومانتيكية العربية على صعيد السياسة والأدب نشأوا في حاضنة «الجامعة الأميركية في بيروت»، ونعلم جميعاً أنّ الفلسفة المعتمدة في الحياة الأميركية هي البراغماتية التي طوّرها وأنضجها ويليام جيمس، وهي أبعد ما تكون عن الرومانتيكية ومفاعيلها المتشعبة على الصعيدين الفردي والجمعي.

تتجوهر المعضلة الرومانتيكية (التي قادت بعض كبار الرومانتيكيين إلى الانتحار) في تغليب الخاص على العام. لكلٍّ منّا منخفضاته السيكولوجية وتحليقاته المتوهّجة. أحد الموضوعات الإشكالية هو تشخيص ومعرفة مناطق الاشتباك بين الخاص والعام: هل ما نعانيه نتاجُ توعّكاتنا الشخصية أم هو ردّة فعل لما يحصل في العالم، ولو حصل الاشتباك بين الخاص والعام (وهو حاصل بالتأكيد حدّ الصراع القاسي المفضي لنتائج مؤلمة) فكم هو حجمُ منطقة الاشتباك؟ هذه التشخيصات ليست يسيرة، وقد يحصل أن يتداخل الخاص والعام بطريقة مؤذية، وربما نكون نحنُ أحد الأطراف الساعية للنفخ في هذا الاشتباك على طريقة رومانتيكيي القرن التاسع عشر الذين تلذّذوا بمعاناتهم كلّما رأوها تتضخّم ككرة نار جهنّمية. ما أتمنّاه أولاً وقبل كل شيء أن لا يغرق أي شخص ذي ضمير حي في لجّة منطقة الاشتباك بين العام والخاص، وسواء حصل هذا الغرق بطريقة قصدية أو مُتوهّمة. لا يمكن فصل الأوهام عن كثير من ألوان معاناتنا النفسية لأنّ سلوكنا اليومي ليس سوى تمثّل ذهني شديد الخصوصية لما نراه في العالم وعن العالم، وهذه الرؤية مطبوعة ببصماتنا الذهنية والنفسية المتفرّدة كفرادة بصمات أصابعنا.

الحياة عملٌ شاق. ليست هذه العبارة محض عنوان يصلح لكتاب - مثل كتاب البروفسورة كيران سيتيا (Kieran Setiya) المنشور عام 2022 - بل هي قناعة تعززها الخبرة اليومية المتواترة. العالم مكان شديد الخطورة للعيش فيه والتعامل معه. هذه ليست تخريجة رومانتيكية أنتجتها حسّاسية أخلاقية مترفّعة. في العادة أتساءل، وكنوعٍ من التجارب الفكرية المثيرة: لو أنّ إنساناً رفيع الأخلاقيات، معروفاً بصرامة اعتباراته السلوكية، تركناه يتعامل مع البشر لساعة من الزمن - ليس أكثر- هل سيعود بعد هذه التجربة بالمواصفات الرفيعة التي كان عليها؟ لا أظنُّ ذلك.

الحياة عمل شاق، والعالمُ مكان يطفحُ بالسيئين أكثر بكثير من نظائرهم المخالفين لهم في الصفات. هذا ليس اكتشافاً جديداً، إنّه حقيقة أزلية. قد تدفعنا هذه الحقيقة إلى الخراب النفسي والظلام العقلي والشعور بالخواء المطبق؛ لكنّ أحد الامتيازات الكبرى التي تُحسَبُ لنا هي معرفتنا بهذه الحقيقة؛ ومع هذا نبقى محافظين على مخزوننا الاستراتيجي من الطاقة الروحية النشيطة والفاعلة والمؤثرة.

كيتس

ليس من المروءة أو الإنصاف تحميلُ أنفسنا عبء المعضلة الأخلاقية في هذا العالم. من الواجب أن نعرف أفاعيل الشر في العالم؛ لكن من السذاجة - فضلاً عن عدم الجدوى - أن نتعامل مع هذه الأفاعيل بالطريقة الرومانتيكية المعهودة التي قرأنا عنها. يجب وضعُ حدود صارمة قدر الاستطاعة بين الخاص والعام. المعضلات العالمية أو حتى الإقليمية ليست حكاية حب على شاكلة روميو وجولييت. ما هو ألعنُ من العبء الأخلاقي هو التصارع بين العقل - الضمير: هذه الثنائية التصارعية لا تقلّ شأناً في مترتباتها الأخلاقية والفلسفية عن معضلة الثنائية الديكارتية العقل - الجسد التي ظلّت أحد الأعمدة الجوهرية في المقاربات الفلسفية منذ عصر النهضة الأوروبية وحتى اليوم. لماذا نحمّلُ أنفسنا هذا العبء الأخلاقي باهض التكاليف؟ لا أقول هذا من باب تسكين الروح القلقة المحمّلة بالنزوع الإنساني الفائق؛ لكنّ واقع الحال ينبئنا أنّ خسارة أرواحنا لن تضيف شيئاً ولن تصنع فارقاً سوى زيادة مناسيب القباحة في هذا العالم، وليس هذا بالأمر المقبول في سياق المحاججة المنطقية الباردة أو في سياق مواجهة الشر وما تستلزمه من تفكّر وتسبيب للنتائج المتوقّعة. التعامل برومانتيكية فائضة في موضوعات ساخنة عالمية النطاق من حيث المؤثرات والنتائج مَهْلَكَةٌ مؤكدة. ربما سمعنا بمتلازمة القلب الكسير (Broken Heart Syndrome). الحَزَنُ الشديد والمفاجئ قد يدمّرُ قلب المرء ويورده موارد الموت المحتّم. هذا ما حصل لرومانتيكيي القرن التاسع عشر، وهو ما يمكن أن يحصل لأي فرد منّا عندما لا تتوازن الجرعة البراغماتية المطلوبة لديه في التعامل السلوكي اليومي مع حجم ردة الفعل الأخلاقية.

حتى لا أبقى في نطاق الأعالي التنظيرية سأتناول مثالاً مؤثراً على كامل مساحة العالم ولكل البشر بعيداً عن اعتبارات الزمان والمكان والجغرافية المحلية: الأغذية المعدّلة وراثياً (Genetically Modified Crops). لماذا لجأ العالمُ لهذه التقنية الثورية في زيادة غلّة المحاصيل والحفاظ عليها من التلف؟ لكي يستطيع إطعام المليارات المتزايدة من البشر، ولولا هذه التقنية لحلّت بالبشرية مجاعة كارثية رهيبة. صحيحٌ أنّ مذاقات الأطعمة لم تعد مثلما كانت. صارت الطماطم والقرنبيط وسواهما من الفواكه والخضراوات أشكالاً هندسية بديعة لكنها تفتقدُ إلى المذاق الأصيل للثمار غير المعاملة وراثياً. هذا جزء من التضحية التي يجب أن نقبل بها حتى لا يجوع مليارات البشر في العالم. إنها موازنة براغماتية دقيقة بين اللذة الشخصية والمصلحة الجمعية. لا تخلو كل فعالية عالمية النطاق من تحقيق مصالح لبعض الأطراف (شركات، حكومات، أفراداً أثرياء...)؛ لكنّ الحقيقة البيّنة أنّ الأغذية المعدلة وراثياً أنقذت البشر من مجاعة مهلكة. من الأفضل دوماً أن نؤكّد الحقيقة المركزية ولا نتغافل عنها بالتركيز على موضوعات جانبية سلبية مقترنة بكلّ فعالية بشرية. هكذا هي بعض حقائق الحياة التي نعيش. من هذه الموضوعات السلبية - مثلاً - أنّ الأغذية المعدّلة وراثياً قد تتسبب ببعض العلل وأنواع من السرطانات عقب عشرين سنة من تناولها المفرط. لنفترض صحة هذا الرأي. كم هي نسبة الإصابة؟ يقولون إنها لن تتعدى الواحد بالألف. أتساءل: لو امتلكتَ مصباح علي بابا السحري وعرفتَ أنّ «فلاناً» من البشر سيصابُ بالسرطان بعد عشرين سنة، ولو خيّرتَه بين السرطان أو الموت جوعاً، أيهما تظنُّ سيختار؟ أظنّ أنّ موتاً بعد عشرين سنة بمعدة ممتلئة أفضل من موت آني بشع بمعدة جائعة. برغم هذا ثمة فائض من الرفاهية ما زلنا نمتلكها، إذ يمكن لمن يريد أن يتبضّع أغذية عضوية بتكاليف تبلغ في العادة أربعة أضعاف تكاليف الأغذية المعدلة وراثياً. هل بعد كلّ هذه الرفاهية في الخيارات المتاحة نتحسر على عصر كنّا نأكل فيه طعاماً عضوياً؟ إنها رومانتيكية فائضة من مخلفات العصر الرومانتيكي الذي رأى في الآلة تحطيماً لروح الإنسان، وتناسى أنّ الآلة (التقنيات بمعنى أعمّ) هي التي رفعته في مرتقيات أعلى مقاماً على المستويين المادي والرمزي. يبقى على المرء أن يصمّم مقاربته الشخصية لبلوغ حالة التوازن بين العام والخاص.

الحياة الشخصية منحة مباركة وهِبَةُ ثمينة يجب أن نعيشها ولا نفرّط بها تحت أي شعار إنساني أو آيديولوجي، أو تحت ضغط أثقال نفسية وعقلية رهيبة ناجمة عن التصارع بين متطلبات الفضاء الخاص واشتراطات الحياة في الفضاء العام.

لم أكنْ واعياً بوجود الشر لأنني لم أكنْ أغادرُ المنزل

بورخيس

أتمنّى ألا نكتفي بتحويل منخفضاتنا النفسية - المتوقّعة بين حين وآخر - مرتفعاتٍ تسعى للتخوم البعيدة. ما أتمنّاه هو فضّ اشتباك صارم بين الخاص والعام، وأن تستعيد أرواحنا وعقولنا المنهكة من فرط التفكير غير المنتج ألقها وتوهجها بعيداً عن مؤثرات الإجهاد والإنهاك. لن نكسب شيئاً لو خسرنا أنفسنا. سنخسر حينها أنفسنا ومن نحب وما نحب.

تبدو الرومانتيكية الفائضة خصيصة شخصية تستمدّ مغذياتها من نقص المعرفة والخبرة. عندما يصبح المرء تجسيداً للمثال البورخسي (بمعنى المثال الذي حكى عنه بورخيس) حيث المرء يفضّلُ الانكفاء على معرفته السابقة وخبرته القديمة فحينها تتفجر فيه ينابيع الرومانتيكية التي قد تدفع صاحبها للغرق، ومعها تغرق كلّ أحلامه وتطلعاته. لا أظنّ أنّ من الحكمة غضَّ الطرف عن «الشر الذي في العالم» والانكفاء في منزل لا نبارحه، ويطيب لنا فيه رسمُ صورٍ عن العالم كيفما نشاء.

الحياة ميدانُ تسوياتٍ مستديمة، وما لم ننجح في إدامة تلك التسويات بمزيج متوازن من الرغائب الشخصية والإحساس البراغماتي المتناغم مع معادلات الواقع - أو غير المتصادم معها بعنف في أقلّ تقدير- فسننتهي إلى النهاية المفجعة التي انتهى إليها «رومانتيكيو المشرق العربي» وأجاد حازم صاغية في وصف مآلاتها الحزينة.


مقالات ذات صلة

«سكك حديد مصر»... قاطرة للنهضة والتحديث

كتب «سكك حديد مصر»... قاطرة للنهضة والتحديث

«سكك حديد مصر»... قاطرة للنهضة والتحديث

عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، صدرت طبعة جديدة من كتاب «مصر والطرق الحديدية» للكاتب محمد أمين حسونة

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
يوميات الشرق مجموعة من الكتب القديمة (أرشيفية - رويترز)

خبراء الكيمياء يحذّرون: الكتب العتيقة تحتوي على صبغات سامة

أطلقت الجمعية الكيميائية الأميركية تحذيراً بشأن المخاطر الصحية المحتملة التي قد تنطوي عليها الكتب القديمة، خصوصاً تلك التي تعود إلى العصر الفيكتوري.

«الشرق الأوسط» (لندن)
ثقافة وفنون مختارات شعريّة لحسين درويش للكردية

مختارات شعريّة لحسين درويش للكردية

صدر حديثاً عن «منشورات رامينا» بلندن ديوان شعريّ باللغة الكردية يحمل عنوان «Toza Rojên Berê» للشاعر السوريّ حسين درويش، وهو من ترجمة الشاعر والمترجم ياسين حسين.

«الشرق الأوسط» (لندن)
ثقافة وفنون دانيال كلاين

«المعنى الحائر» في هوامش الفلسفة والحياة

يستعير الكاتب الأميركي دانيال كلاين مقولة الفيلسوف راينهولد نيبور: «كلما وجدت معنى الحياة يغيّرونه» ليكون عنوان كتابه الذي ينطلق فيه من تلك «الحيرة»

منى أبو النصر (القاهرة)
يوميات الشرق تتوافر لدى المكتبة صور لم تنشر من قبل للحرمين الشريفين (مكتبة الملك عبد العزيز)

كنوز من التراث العربي والإسلامي تتألق في مكتبة الملك عبد العزيز العامة

تضم مكتبة الملك عبد العزيز العامة آلاف المقتنيات من الكتب النادرة والمخطوطات والوثائق والصور والمسكوكات والمنمنمات.

«الشرق الأوسط» (الرياض)

«أوراق من سجن النساء»... يوميات مثقفات وراء الأسوار

«أوراق من سجن النساء»... يوميات مثقفات وراء الأسوار
TT

«أوراق من سجن النساء»... يوميات مثقفات وراء الأسوار

«أوراق من سجن النساء»... يوميات مثقفات وراء الأسوار

يتضمن كتاب «أوراق من سجن النساء» للأكاديمية وأستاذة الإعلام الدكتورة عواطف عبد الرحمن، تجربة فريدة تتمثل في استعادة ذكريات اعتقالات سبتمبر (أيلول) 1981 الشهيرة في مصر وكيف جمعتها زنزانة واحدة بعدد من المثقفات المصريات البارزات، مثل الكاتبة الدكتورة لطيفة الزيات، والأديبة الدكتورة نوال السعداوي، والناقدة صافيناز كاظم وأستاذة الأدب الفرنسي الدكتورة أمينة رشيد.

وتشير الدكتورة «عبد الرحمن» في كتابها الذي صدر حديثاً عن دار «العربي» بالقاهرة إلى أنها وأخريات كان نصيبهن الاعتقال والطرد من الجامعة بعد اتهامهن بالخيانة العظمى والتخابر مع الاتحاد السوفياتي، ولم تجرؤ السلطات على إبراز السبب الحقيقي لاعتقالهن، وهو اعتراضهن على معاهدة الصلح مع إسرائيل. وقد مكثن بالسجن مائة يوم إلى أن اغتيل الرئيس الراحل أنور السادات.

رحلة شاقة

تروي عواطف عبد الرحمن كيف أنها في يوم 28 أغسطس (آب) 1981 ذهبت إلى برلين الشرقية للمشاركة في المؤتمر الدولي الذي عقدته الأمم المتحدة واستطاعت بالتعاون مع بعض الأصدقاء إقناع منظمي المؤتمر بإضافة بند عن «العنصرية الصهيونية» في فلسطين، وكان يصحبها ابنها هشام لأول مرة. وبعد انتهاء المؤتمر الذي استغرق ثلاثة أيام قررت الذهاب لزيارة الأديبة رضوى عاشور وزوجها الشاعر مريد البرغوثي في بودابست التي اختاراها آنذاك منفى مؤقتاً بعد توتر العلاقة بين المثقفين العرب وبين الرئيس السادات بعد توقيع اتفاقية كامب ديفيد التي أعقبت زيارته للقدس في نوفمبر (تشرين الثاني) 1977.

تركت «عبد الرحمن» هشام لدى الصديق نبيل السلمي وزوجته كاترين في برلين واستقبلها مريد ورضوى وابنهما تميم بترحاب شديد، ومكثت ثلاثة أيام في حوارات متصلة عن الأحوال في مصر وتداعيات اتفاقية الصلح التي أبرمها السادات مع إسرائيل. ويوم 3 سبتمبر استمعا إلى خطاب السادات الذي أعلن فيه عن اعتقال 1365 مواطناً من المعارضة، فصاحت رضوى في انزعاج إنه لم يستثنِ أحداً ولم يبقَ سوى أمي وأمها والمحتمل أن يتم اعتقالهما بالفعل. قررت «عواطف» العودة إلى برلين لإحضار ابنها والسفر إلى القاهرة وتوالت اتصالات الأصدقاء الهاتفية من باريس ولندن وألمانيا، أخبروها بأن قائمة المعتقلين تضم جميع الأسماء من أصدقاء مشتركين، ويتصدرهم عبد السلام الزيات، وفؤاد مرسي ولطيفة الزيات، وكان اسمها ضمن القائمة ونصحوها بعدم السفر إلى القاهرة، لكنها رفضت.

ودّعها مريد ورضوى في المطار. وصلت إلى برلين في المساء لتجد في انتظارها نبيل السلمي وفتحي عبد الفتاح وبعض الأصدقاء الذين كانوا يلحّون على ضرورة بقائها وعدم المجازفة بسفرها إلى القاهرة. أخبرتهم بأن بقاءها هناك يعني الضياع وأنها تفضل الذهاب إلى زنزانة الوطن فقد تكون أرحم لها وسط أهلها وناسها من البقاء في الغربة. كان إصرارها على العودة إلى مصر أقوى من إلحاحهم، وهيأت نفسها لأسوأ الاحتمالات وبدأت في الطائرة تحاول أن تهيئ ابنها هشام. فأخبرته عن تجربة ابنَي صديقتها الناقدة فريدة النقاش «رشا وجاسر» اللذين تحملا بشجاعة سجن أمهما فريدة وأبيهما الكاتب الصحافي حسين عبد الرازق.

عند وصولها إلى مطار القاهرة فوجئت بممدوح طه، والد ابنها، وكانا انفصلا منذ عشر سنوات، ينتظرها على باب الطائرة ممسكاً بصحيفة «الأهرام». انتحى بها جانباً وقبل أن يتحدث سألته في انزعاج هل مات أحد من أهلها، فقد نسيت تماماً موضوع الاعتقال. أخبرها أن الموضوع أخطر من الموت، ثم أطلعها على الصحيفة التي وجدت بها صورتها تتصدر الصفحة الأولى مع صور بقية المطلوب اعتقالهم. أطلعت الضابط على صورتها بالصحيفة وأبلغته أنها مطلوبة للاعتقال، ثم اتجهت نحو ابنها وعانقته محاولة إظهار تماسكها، لكن جسدها كان ينتفض حزناً وغضباً وحيرةً فلا تدري هل ستكون هذه هي آخر مرة تلتقي فيها بنجلها الوحيد؟!

صدمة اللحظات الأولى

تصور «عبد الرحمن» كيف كانت صدمة اللحظات الأولى في السجن، قائلة: «عندما وصلت إلى سجن النساء في القناطر وجدت بوابة حديدية هائلة وبها باب صغير، دخلت من الباب الصغير ورأيت السجّانات اللاتي نشاهدهن في السينما يعلقن المفاتيح في الحزام الجلدي، شكلهن مخيف جداً وغير مريح. وفجأة صفقت السجّانات ونادين على الست زينب سجّانة السياسيات؛ لأن هناك (إيراداً) جديداً عليه استلامه. استغربتُ جداً كيف يتحول الإنسان في لحظة مجرد شيء، خصوصاً أني قادمة من مؤتمر دولي أطالب فيه بحقوق الشعوب. كيف أتحول في نظرهم إلى (إيراد)، أي أن قيمتي انخفضت لتصيح مجرد شيء. وكان هذا الموقف أولى الصدمات وبعدها دخلت ساحة كبيرة تتوسطها شجرة علمت أنها الشجرة التي رسمتها الفنانة التشكيلية إنجي أفلاطون في لوحاتها؛ فهي سبقتنا إلى هذا السجن ومكثت فيه خمس سنوات».

لم تنم الليلة الأولى بسبب الأصوات المنبعثة من عنبر اللصوص المجاور لهن وعندما غفت عينها من الإرهاق، وجدت حشرة كبيرة وفزعت وقامت تنادي نوال السعداوي منزعجة: «يا نوال... يا نوال... إحنا في فندق إيه؟»؛ وهو ما أثار الضحك بشدة. سلمتها إدارة السجن جلبابين، واحد تغسله والآخر ترتديه. وبحكم خبرتها السابقة معتقلةً سياسية، اقترحت الدكتورة لطيفة الزيات تنظيم الحياة العامة في العنبر وتحديد مسؤولة عن نظافة المكان ومسؤولة عن الطعام، وهكذا. أيضاً لا يمكنها نسيان حملة التفتيش المفاجئة التي قلبت العنبر رأساً على عقب؛ لأنه بلغهم أن هناك أوراقاً وأقلاماً، وهي أخطر من أي سلاح!

تُعدّ المعتقلات السياسيات أخطر النزيلات في السجن... أما سجينات المخدرات فهن «وزيرات الاقتصاد» لأنهن ينفق على السجن

وزيرات اقتصاد

تُعدّ المعتقلات السياسيات أخطر النزيلات في السجن، أما سجينات المخدرات فهن «وزيرات الاقتصاد»؛ لأنهن ينفق على السجن، خصوصاً «الحاجة مناعة» التي كانت تُسجن وتخرج ثم تعود مرة أخرى، والسجن بالكامل يعرفها وكانت حجرتها مفروشة بالموكيت وبها تلفزيون. وعندما علمت بقدوم النزيلات السياسيات بعثت لهن بأقلام وورق وراديو. وكانت تبعث لهن كل يوم بالصحف في السر عن طريق إحدى السجينات التي كانت تخفيها في ملابسها. وكانت «الحاجة مناعة» تحظى بمعاملة استثنائية لتقديمها الرشى لصغار وكبار المسؤولين في السجن، بدءاً من السجاجيد وحتى السيارات.

أما أشرف العناصر في السجن، بناءً على أقوال السجانات ومأمور السجن، فهن القاتلات لأنهن «ارتكبن جرائمهن في لحظة غضب دفاعاً عن الشرف وعن الكرامة». وكان من بينهن مَن لم ترتكب أي جريمة على الإطلاق ولكنهن اعترفن بديلاً عن أزواجهن الذين ارتكبوا هذه الجرائم بالفعل، خصوصاً السجينات المنتميات إلى الصعيد. وكن يبررن تضيحاتهن بحرصهن على أن تظل بيوتهن مفتوحة، ولا يضيرهن أن يقترن أزواجهن بأخريات؛ فالمرأة الصعيدية السجينة تضحي بذاتها من أجل الجماعة ومن أجل العائلة ومن أجل التقاليد. ويأتي ترتيب اللصّات في ذيل قائمة السجينات؛ لأنهن موضع احتقار شديد داخل السجن ولا يمكن منحهن الثقة.

وتصف «عبد الرحمن» أجواء السجن، لافتة إلى أن الزنزانة لا تزيد مساحتها على متر واحد × متر ونصف المتر، أما التعذيب فلا يقتصر على العقاب الجسدي الذي يتمثل في الصعق بالكهرباء وتغطيس السجين في الماء الساخن والبارد، بل التعذيب النفسي وفرض العزلة، ومنع التواصل مع الآخرين، وهي الوسائل الأخطر تأثيراً على شخصية السجين.