تتطور المنتجات الصوتية بشكل غير مسبوق، بفضل الذكاء الاصطناعي، الذي بات يوفّر آلياً ساعات من النصوص المسموعة، بكلفة منخفضة. وهو ما سمح، في السنوات الخمس الأخيرة، بتسريع إنتاج الكتب الصوتية بأعداد كبيرة وجودة عالية.
تدل الأرقام على أن الكتب الصوتية الرقمية هي أسرع القطاعات نمواً. ففي عام 2023، ارتفعت إيراداتها في الولايات المتحدة بنسبة 9 في المائة، وحققت 2 مليار دولار. فيما ارتفعت الإيرادات بما نسبته 24 في المائة خلال الفترة نفسها في بريطانيا، وهذا يحصى من خلال عمليات تنزيل الكتب، التي ارتفعت في المملكة المتحدة بنسبة 17 في المائة، بين عامي 2022 و2023.
يبقى أن رصد نمو الكتب الصوتية العربية أكثر صعوبة، لكن القيمين عليها يؤكدون أن الإقبال يتزايد، لكن الغالبية الساحقة تستفيد من الكتب المجانية والمقرصنة، التي تنتشر كالنار في الهشيم، مما يجعل فهم مدى الإقبال أكثر صعوبة. وهي مشكلة تطول المنتجات الرقمية الصوتية، لا سيما الكتب في مختلف اللغات، مما يعيد أزمة حقوق المؤلف إلى نقطة الصفر، مضافاً إليها هذه المرة حقوق الناشر، الذي يرى كتابه الذي صرف عليه أمواله، يوزَّع صوتياً، بعد أن كان يُقرصَن إلكترونياً وورقياً، دون أي اعتبار. كما أن شكوى الناشرين تتصاعد؛ بسبب عدم شفافية المنصات التي لا سبيل للتأكد من حساباتها، أو مراقبة عدد مرات التنزيل عليها.
الترويج على قدم وساق
وتقدّر منصة «سبوتيفاي» أن نمو صناعة الكتب الصوتية يمكن احتسابه بـ20 في المائة سنوياً بدءاً من سنة 2022. لكن الظاهرة ليس متروكة للظروف. فهناك عمل حثيث على الترويج للكتب الصوتية بلغات أجنبية عديدة، من خلال إقناع القارئ بأنها وسيلة أخرى للمعرفة من خلال القراءة بالأذنين، التي لا تختلف كثيراً في فائدتها، عن القراءة بالعينين.
ويستعان من أجل دعم هذه الأفكار بدراسات متتالية تظهر جدوى أن تستمع للكتب إن كنت لا تقرأها، أو أن تقوم بالأمرين معاً. فثمة دراسة نشرت مؤخراً تبين أن الاستماع لا يقل أهمية وتأثيراً على الشخص من القراءة نفسها. وثمة ترويج للكتب الصوتية، من خلال دراسات أخرى حول العلاقة الجدلية بين الاستماع للكتب وتحفيز بعض السلوكيات. ثمة دراسة بينت أن الاستماع لكتاب يعين على النوم، والاستغراق السريع، مع توصية باعتماد السير الذاتية، والقصص البوليسية حين لا تكون عنيفة، باعتبارها من بين الأفضل لجلب النعاس. ولتسويق أكبر تربط إعلانات بعض المنصات الأميركية، وبينها «أوديبل»، بين رياضة الركض والاستماع إلى نصوص الكتب المقروءة، وكذلك اقترحت المنصة عناوين معينة، اعتبرت أنها تحفّز على النشاط وتزيد من متعة الذين يمارسون هذا النوع من الرياضة.
أساليب تسويقية تتزامن مع ظهور دراسات تدعمها وتمنحها المصداقية، علماً بأنه من الصعب معرفة مدى دقة المعلومات في كل مرة، أو جدّية هذه الدراسات.
كل هذا يأتي بعد أن أصبح إنتاج الكتاب الصوتي متاحاً بسرعة مذهلة، بفضل الذكاء الاصطناعي التوليدي. وإن كانت الشركات المنتجة لا تتحدث بصراحة ووضوح عن استغلالها لبيانات أصوات موجودة لديها لإنتاج كتب جديدة، فمن المرجّح، حسب التقديرات، أن آلاف الكتب أصبحت موجودة، في الأسواق عبر استخدام الذكاء الاصطناعي، باستغلال أصوات بشرية دون أن يُدفَع لأصحابها أي مقابل.
ومؤخراً أعلنت «أمازون» عن وجود 40 ألف كتاب صوتي على منصتها «أوديبل» المتخصصة بالبودكاست والكتب الصوتية، التي تم إنتاجها بواسطة الذكاء الاصطناعي.
وقد أطلقت في نوفمبر (تشرين الثاني) 2023 خدمة تتيح للكتّاب نشر أعمالهم صوتياً، عبر الذكاء الاصطناعي. وهو ما سمح لكثير من المؤلفين تحويل كتبهم إلى صيغة جديدة بتكلفة وجهد مغريين.
وكان تسجيل الكتاب يحتاج لأيام وأسابيع وجهود كبيرة، وتكاليف عالية، إذا ما لجأ الكاتب لمن يقوم عنه بهذه المهمة. أما اليوم، فيتحدث المؤلفون الذين قاموا بتسجيل كتبهم عبر القراءة الآلية، عن حاجتهم إلى ساعة واحدة فقط لإتمام المهمة. وتقدم «أمازون» للمؤلف 40 في المائة من مدخول ما تسوقه، وإن كان بعض المؤلفين يشككون في صدقية تعاطي المنصات معهم، نظراً للمداخيل المتواضعة التي يجنونها.
انخفاض بالتكاليف والجهد
وبفضل الذكاء الاصطناعي أمكن خفض تكلفة إنتاج كتاب صوتي من 2500 دولار إلى 400 دولار تقريباً.
وقبل «أمازون» بأشهر كانت «غوغل» قد أعلنت عن الخدمة نفسها، عارضة عشرات الأصوات، بعدة لغات؛ بحيث أصبح بإمكان المؤلف أن يستخدم أكثر من صوت، وباللغة التي يختارها. وهذه التقنيات التوليدية، أتاحت إنتاج عشرات آلاف الكتب المسموعة، التي تسوّق ويروّج لها، وتجد بشكل متزايد طلباً عليها، خاصة بين الشباب الذين هم دون الـ35 من العمر.
ورغم التطمينات التي تنشرها المنصات، مؤكدة أن هذه الخدمة السحرية ليست موجودة لتحل مكان المؤدين المحترفين، أو تستغني عن القراءة البشرية التي تبقى مهمة وأساسية، وإنما هي تسعى فقط لتوسيع الإمكانات، ولا تريد للآلة أن تحل محل الإنسان، إلا أن الاعتراضات تتسع بين محترفي الأداء الصوتي.
محترفو الصوت في خطر
هذه التبريرات باتت تتكرر باستمرار، لكنها لا تُطمْئن أصحاب المهن المتضررة، مثل الممثلين ودور النشر وأصحاب استوديوهات الإنتاج. بل على العكس، تتعالى اعتراضات هؤلاء، ويعتبرون أن الذكاء الاصطناعي إنما ينطق بأصوات سبق لهذه المنصات أن استخدمتها لأناس من لحم ودم، وها هي تستفيد مما لديها من بيانات. ويكفي أن يتم التلاعب قليلاً بالصوت، عند إعادة استخدامه كي يتم التمويه، ولا تطلب موافقة من صاحبه الأصلي أو يتقاضى أجراً. وبات بالإمكان مزج عدة أصوات آلياً للحصول على صوت جديد، مختلف عنها جميعاً. فالآلة لا يمكنها خلق صوت من العدم.
لكن تبقى لأصوات كبار المؤدين والنجوم أهمية معنوية في تسويق الكتب المسموعة، ورفع سعرها. وإذا كان الحصول على أصوات مشاهير أحياء، مكلف إلى حد يجعل شركات الإنتاج تفكّر تكراراً في الجدوى قبل التعاقد معهم، فمما لا يخطر على بال أن ثمة لجوءاً إلى إعادة استعمال أصوات المشاهير الموتى. وقد تم بالفعل التواصل مع ورثة نجوم للحصول على موافقتهم لاستخدام أصواتهم في الذكاء الاصطناعي التوليدي، ليس لقراءة الكتب فقط، بل لأغراض قد تكون إعلانية أو تعليقات وما أشبه. فإعادة استخدام الصوت المسجل يتساوى فيه الأحياء كما الأموات، فلمَ لا يكون اللجوء إلى صوت، يأنسه المستمع وقد ألف بحّته، بأقل تكلفة ممكنة.
توظيف أصوات الموتى
لا تزال الأصوات المعروفة ذات النبرة المألوفة قادرة على اجتذاب المستمعين، كما أن الصوت البشري أقوى تأثيراً وحيوية واحترافية من الصوت المعالج رقمياً. لهذا حين يكون تسجيل كتاب مأمون الربح، لا تبخل المنصات في السخاء، حتى ولو كبرت التكاليف؛ لأن كتاباً «بست سيلر» بصوت أحد المشاهير، على منصة معروفة قد يتحول إلى مصيدة لاجتذاب القراء المستمعين، ليطّلعوا على مزيد من الكتب ويكتشفوا الرغبة في تنزيلها.
فبدءاً من العام المقبل، سيكون في متناول المستمعين المجلدات الـ7 من سلسلة هاري بوتر يؤديها 100 ممثل بأصواتهم. وهذا إنتاج ضخم ومكلف، يستغرق وقتاً وجهداً، ويحتاج لتنفيذه تقنيات عالية، من أجل ضمان إصدار مميز يستحق دفع مقابله للاستماع إليه.
بات بالإمكان مزج عدة أصوات آلياً للحصول على صوت جديد، مختلف عنها جميعاً. فالآلة لا يمكنها خلق صوت من العدم.
هاري بوتر بصوت 100 فنان
وقد ترددت الكاتبة جي كي رولينغ طويلاً قبل إعطاء موافقتها على هذا المشروع، نظراً لأن كتبها متوفرة صوتياً، مقرصنة ومنتشرة على نطاق واسع، بالمجان وكذلك على المنصات. كان لا بد من عرض مميز جداً، كي يستحق الجهد المبذول من أجله.
مما يؤسف له أن من فاتتهم متعة القراءة من العرب لا يبدو أنهم يحاولون تعويض النقص المعرفي لديهم، باللجوء إلى الاستماع. فالكتاب الصوتي لا يُروَّج له بالقدر الكافي، ويبدو غائباً عن الساحة، مع أن ثمة من وجد فيه حلاً لنقص الوقت، أو متعة أثناء القيام ببعض النشاطات، وهؤلاء لا يزالون قلة. بعض الهيئات الرسمية قامت بجهد في هذا المجال، غير أن باقي التسجيلات المتوافرة، في كثير منها، تتم على أيدي هواة، وتفتقد للقراءة السليمة، أو النبرة الجذابة، وربما الصوت الجميل والوضوح الكافي. أكثر من ذلك، نحن بحاجة لرصد سلوك المستمعين الفعليين، لمعرفة أعدادهم، ومتطلباتهم، خصوصاً أن غالبيتهم يعتمدون تسجيلات مقرصنة، يتم تبادلها على مجموعات خاصة من وسائل التواصل الاجتماعي.