صفحات مجهولة من تاريخ مصر

نولة درويش ترويها في «وأجمل الذكريات ستأتي حتماً»

صفحات مجهولة من تاريخ مصر
TT

صفحات مجهولة من تاريخ مصر

صفحات مجهولة من تاريخ مصر

عن دار «الكرمة» بالقاهرة، صدرت مذكرات «وأجمل الذكريات ستأتي حتماً» للناشطة النسوية نولة درويش التي نشأت بمنتصف القرن الماضي في أسرة يهودية مصرية لأب وأم اعتنقا الإسلام، وتأثرت بوالدها المحامي الكبير يوسف درويش في انحيازه لقضايا العمال والفقراء، وسارت على دربٍ مشابه مع احتفاظها بشخصيتها المستقلة وقناعاتها النابعة منها. شاركت في العمل السياسي العام وتنقلت في شبابها بين أكثر من دولة حتى استقر بها المقام في العمل ضمن منظمات المجتمع المدني بمصر والدفاع عن قضايا النساء العربيات، وشاركت في تأسيس منظمة «المرأة الجديدة».

في البداية، تشير المؤلفة إلى أنها وُلدت في يونيو (حزيران) 1949 وكان والدها معتقلاً بتهمة انتمائه إلى تنظيم شيوعي، فأرسلت والدتها إليه برقية تلغرافية «تبلغه بمولد ابنته»، والغريب أن والدها كان مقتنعاً تماماً في أثناء فترة حمل أمها أن الطفل القادم سيكون ابنة، فهو له ابن من زواج سابق والآن جاء دور البنت. اقترح الأب لهذه الابنة اسم «ربوة»، لكن الأم استغربته فنحتت من ظلال بعض الأسماء مثل منال ونوال اسم «نولة» لترضي رغبة الأب.

سؤال الهوية

تذكر المؤلفة أنها وُلدت لأم وأب اختارا الانحياز إلى الشعب المصري، فكان أبوها منذ عودته من دراسته الجامعية في فرنسا من المدافعين عن حقوق الطبقة العاملة، وعمل على التواصل مع قياداتها؛ حتى يستطيع تقديم دعمه كاملاً وبطريقة فعالة، وكانت والدتها متضامنة معه في هذا المسعى فقررا اعتناق الإسلام قبل زواجهما بفترة وجيزة في عام 1947، ورغم أنهما لم يكونا شديدي التدين فإنهما اقتنعا بأن هذا الأمر سيقرّب إمكانيات التعامل بطريقة سلسة في ظل التوجس العام المتنامي تجاه اليهود بفعل الدعايات السائدة في تلك الفترة من تاريخ مصر. وتشير إلى أن الانتماءات الدينية لم تكن مطروحة على هذا النوع بقوة، لا سيما في اختيار نوعية التعليم ويُترك لكل أسرة اختيار الأسلوب الذي تراه مناسباً لتعليم أطفالها القيم الأخلاقية والمفاهيم التي يتضمنها دينهم، سواء كانت تتم هذه التربية الدينية في إطار الأسرة أو في دور العبادة لكل دين.

لم تتعرف نولة درويش شخصياً على جدها موسى درويش؛ لأنه توفي قبل أن تولد بفترة طويلة في عام 1940، لكنها سمعت أنه كان إنساناً شديد الطيبة، يرتدي الجلباب وفوقه الجبة والقفطان والطربوش على طريقة «أولاد البلد»، ويمتلك محال عدة في «حي الصاغة»؛ لأنه إلى جانب انخراطه في تجارة الذهب، كان «جواهرجياً» يصنع بيديه ما يعرضه للبيع. وظل أمياً لا يعرف القراءة ولا الكتابة ولا يتحدث غير العربية حتى وفاته. أما جدتها راشيل كوهين فكانت تتطلع إلى أن تبدو كامرأة إفرنجية وهي تنتمي إلى أسرة من المثقفين نوعاً ما، بها المحامي الذي ربما أثر على الاختيار المهني ليوسف درويش.

حكى لها أبوها أنه عندما كان يدرس القانون والتجارة في فرنسا وقع في غرام فتاة فرنسية من أسرة أرستقراطية وهي التي عرفته على الفكر الماركسي، فلما عاد في إحدى الإجازات إلى مصر تحدث عنها لوالده، وقال إنه يريد الارتباط بها. رحب الأب بالفكرة بكل انفتاح بينما رفضت والدته بشدة أن يرتبط بهذه المرأة لأنها أجنبية و«غريبة عن ديننا وملتنا» كما قالت. وعموماً، لم يفلح أمر مشروع الارتباط هذا لأسباب لم يفسرها لها والدها الذي ظل دائم الحرص على تجنب الحديث عن حياته الشخصية.

وتشير صاحبة المذكرات إلى أن الأصول اليهودية من جانب أبويها ثم انتقال كليهما إلى الإسلام وهما ينتميان إلى ملل يهودية مختلفة، ثم زواج شقيقها من مسيحية، ثم زواج ابنة شقيقها من مسلم، كل ذلك جعل أسرتها شبيهة بـ«مجمع الأديان». والأهم من ذلك، هو أن «طبق السلاطة» التي كانت تسميه هكذا على سبيل المزاح، أنتج نوعية من الناس المنفتحين على قبول الاختلاف والرافضين بشدة أي شكل من أشكال التمييز بين البشر، فلم تسمع يوماً أن شقيقها قد تذمر من زواج ابنته بمسلم، ولا تتذكر أنها فكرت في يوم من الأيام أن تبحث عن الديانة التي ينتمي إليها الآخرون، سواء ممن تعرفهم عن قرب أو من العابرين في حياتي.

طبيب الإنسانية

وتروى المؤلفة أنه حين وقعت ثورة 23 يوليو (تموز) 1952 التي تسميها «انقلاباً»، كانت بصحبة والدتها وهما تقفان في شرفة منزلهما بشارع شامبليون بالإسكندرية، حيث تصاعدت من الطريق أصوات موسيقى عسكرية فسألتها: ما هذا؟... فردت ببساطة:

إنها الثورة.

لم تفهم معنى الكلمة، حيث كان عمرها ثلاث سنوات، لكن والدتها كانت مشغولة بالنظر لما يحدث في الشارع ولم تنتبه إلى نظرة الاستفهام في عينيها وهما يشاهدان الاحتفالات التي تدور أسفل الشرفة. شاهدتا فيلقاً من الجنود يمر وهم يرتدون زياً يختلف إلى حد ما عن بقية الجنود فسألت: ماما، من هم؟ فقالت لها: إنهم السودانيون.

لم تفهم وقتها كذلك من هم أو ما صلتهم بالحدث، فكل معلوماتها حينئذ اقتصرت على تعبير «الفول السوداني» واللب، ولكن مع القراءات اللاحقة لتاريخ مصر فهمت أن مصر والسودان كانتا دولة واحدة منذ عام 1820 وحتى عام 1956، وهو ما يفسر لها لاحقاً مشاركة الجنود السودانيين في الاحتفالات بالثورة عام 1952.

وفي القاهرة، ومن خلال وجود الأسرة في بيت شارع يوسف الجندي، ظل طبيب الأسرة هو الدكتور فريد حداد ذو الأصول اللبنانية من ناحية الأب، الاسكندنافية من ناحية الأم والتي تجلت في لون البشرة والعيون الفاتحة والشعر الكستنائي مع ميل للسلوك عميق الإنسانية الذي ورثه من ناحية الأب. كان يتميز بطيبة فطرية في تعامله مع من يعالجهم، بخاصة مع من يحتاجون أكثر من غيرهم إلى خدماته المجانية، سواء بالكشف أو بالعلاج والمتابعة. وأحياناً بشراء الدواء لهم على نفقته الخاصة، وهي الخدمات التي يقدمها في عيادته التي كانت تقع في حي شبرا بالقاهرة. ولو تراءى لصاحبة المذكرات - حسبما تروي - أنه يمكن تخيل وجه لملاك، فإنما تأتي صورته إلى ذهنها على الفور. وخلال عام 1958، نظّم والدها حفلاً في منزلهم على شرف هذا الطبيب للدور العظيم الذي كان يقوم به على المستويين الإنساني والنضالي. كما ورد الحديث عن فريد حداد في السيرة الذاتية للمفكر الفلسطيني - الأميركي إدوارد سعيد والتي حملت عنوان «خارج المكان» والتي يشير فيها إلى زواج فريد حداد بفلسطينية اسمها إيدا، وإنجابهما اثنين أو ثلاثة أطفال كما كتب سعيد، والواقع أنهما أنجبا كلاً من وديع وسامي ومنى، الذين عرفتهم نولة درويش شخصياً، كما تعرفت على والدتهم.

وتروى المؤلفة كيف تعرفت على الثنائي الفني المكون من الملحن والمطرب الشيخ إمام والشاعر أحمد فؤاد نجم، حيث أتيحت لها الفرصة وهي في مرحلة الشباب أن تحضر دعوة لحفل محدود العدد للشيخ إمام وكان ذلك في بيت شخص فلسطيني لم تره فيما بعد. أحضرت معها جهاز تسجيل من نوعية الكاسيت الذي لم يعد متداولاً وسجلت ليلتها كل الأغاني التي استمعت إليها والتي مثلت لها اكتشافاً حقيقياً أبهرها. تتذكر من الحضور المرحومة المناضلة شاهندة مقلد التي اشتهرت بالدفاع عن حقوق الفلاحين والتي تبنتها خلال هذه السهرة حين علمت أنها ابنه يوسف درويش. بقيت أياماً بعد الحفل تستمع إلى الشرائط التي سجلتها، وحينما لا تستمع إليها يظل صدى الأغاني يلاحقها في أذنها.

وحين أذيعت أغنية «يا مصر قومي وشدي الحيل، كل اللي تتمنيه عندي» خلال أيام ثورة يناير (كانون الثاني) 2011، سالت دموعها من التأثر. تذكرت المرة الأولى التي استمعت فيها لأغاني إمام - نجم مثل «جيفارا مات» و«رجعوا التلامذة» و«اتجمعوا العشاق في سجن القلعة». ذهبت بعد هذا اليوم إلى لقاءات كثيرة مع الشيخ إمام ونجم، منها ما كان في منازل بعض الأصدقاء والمعارف، وأخرى في مدرجات الجامعة. كما سمعت أكثر عن أخبار القبض عليهما وبقائهما بالسجن لفترات. ومع ذلك، سمعت أيضاً أنه حينما كان هذا الثنائي محظوراً، سُئل الملحن العملاق رياض السنباطي في حديث إذاعي عن «أفضل عازف عود في مصر» فرد تلقائياً بأنه الشيخ إمام عيسى.


مقالات ذات صلة

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

ثقافة وفنون «أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ

منى أبو النصر (القاهرة)
تكنولوجيا شركات الذكاء الاصطناعي تتفق مع دور النشر بما يتيح لهذه الشركات استخدام الأعمال المنشورة لتدريب نماذجها القائمة على الذكاء الاصطناعي التوليدي (رويترز)

شركات الذكاء الاصطناعي التوليدي تلجأ إلى الكتب لتطوّر برامجها

مع ازدياد احتياجات الذكاء الاصطناعي التوليدي، بدأت أوساط قطاع النشر هي الأخرى في التفاوض مع المنصات التي توفر هذه التقنية سعياً إلى حماية حقوق المؤلفين.

«الشرق الأوسط» (باريس)
يوميات الشرق كاميلا ملكة بريطانيا تحصل على الدكتوراه الفخرية في الأدب بحضور الأميرة آن (رويترز)

قدمتها لها الأميرة آن... الملكة كاميلا تحصل على دكتوراه فخرية في الأدب

حصلت الملكة البريطانية كاميلا، زوجة الملك تشارلز، على الدكتوراه الفخرية؛ تقديراً لـ«مهمتها الشخصية» في تعزيز محو الأمية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
كتب سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"

الشبحُ في الآلة

شغل موضوع أصل الأشياء The Origin مكانة مركزية في التفكير البشري منذ أن عرف البشر قيمة التفلسف والتفكّر في الكينونة الوجودية.

لطفية الدليمي
كتب سيمون سكاما

قصة اليهود... من وادي النيل حتى النفي من إسبانيا

يروي الكاتب البريطاني اليهودي «سيمون سكاما»، في كتابه «قصة اليهود»، تفاصيل حياة اليهود ابتداءً من استقرارهم في منطقة الألفنتين

سولافة الماغوط (لندن)

أسامة مسلم وسارة ريفنس وبيت الطاعة الأدبي!

توافد  العشرات في معرض الجزائر للحصول على  نسخة موقعة من رواية" خوف" لأسامة مسلم
توافد العشرات في معرض الجزائر للحصول على نسخة موقعة من رواية" خوف" لأسامة مسلم
TT

أسامة مسلم وسارة ريفنس وبيت الطاعة الأدبي!

توافد  العشرات في معرض الجزائر للحصول على  نسخة موقعة من رواية" خوف" لأسامة مسلم
توافد العشرات في معرض الجزائر للحصول على نسخة موقعة من رواية" خوف" لأسامة مسلم

أراقب باهتمام كبير عالمنا المتغير هذا. لعلك أنت أيضاً تفعل ذلك. تتمعن فيه وهو يعيد تشكيل ذاته مثل وحش أسطوري، في زمن إيلون ماسك ومارك زوكربيرغ وما لهما وما عليهما... في زمن الروبوتات المؤنسنة والعقول الذكية الاصطناعية وما لها وما عليها، تحدُث من حين لآخر هزات عنيفة تحلج بعض العقول الهانئة، ذات القناعات القانعة، فتستيقظ بغتة على أسئلة طارئة. مدوِّخة بلْ مكهرِبة.

- ما هذا الذي يحدث؟

تماماً كما حدث في المعرض الدولي للكتاب في الجزائر، حدث ذلك منذ طبعتين في الصالون الدولي للكتاب في باريس، إذ حضر كتاب كبار ذوو شهرة عالمية، كل واحد منهم يركب أعلى ما في خيله، وحطّت رحالَها دورُ نشرٍ لا يشقّ لها غبار. لكن المنظمين والمشاركين والملاحظين والمراقبين والذين يعجبهم العجب، والذين لا يعجبهم العجب، على حين غرة وفي غفلة من أمرهم، فوجئوا بآلاف القادمين من الزوار شباباً وبالغين، كلهم يتجهون صوب طاولة، تجلس خلفها كاتبة في العشرينات، لا تعرفها السجلات العتيقة للجوائز، ولا مصاطب نقاش المؤلفين في الجامعات، أو في القنوات الشهيرة المرئية منها والمسموعة. الكاتبة تلك شابة جزائرية تفضّل أن تظلَّ حياتها الخاصة في الظِّل، اسمها سارة ريفنس، وتُعد مبيعات نسخ رواياتها بعشرات الملايين، أما عدد قرائها فبعدد كتّاب العالم أجمعين.

وكالعادة، وكما حدث منذ سنوات مع الروائية الجزائرية الشابة سارة ريفنس، أثار القدوم الضاج للكاتب السعودي أسامة مسلم ذهول جل المهتمين بالشأن الثقافي والأدبي، حين حضر إلى المعرض الدولي للكتاب في الجزائر 2024. وقبله معرض الكتاب بالمغرب ومعارض كتب عربية أخرى، وفاجأ المنظمين والزوار والكتاب فيضانُ نهر هادر من الجموع الغفيرة الشابة من «قرائه وقارئاته». اكتظ بهم المكان. جاءوا من العاصمة ومن مدن أخرى أبعد. أتوا خصيصاً للقائه هو... هو وحده من بين الكتاب الآخرين الكثر المدعوين للمعرض، الذين يجلسون خلف طاولاتهم أمام مؤلفاتهم، في انتظار أصدقاء ومعارف وربما قراء، للتوقيع لهم بقلم سائل براق حبرُه، بسعادة وتأنٍّ وتؤدة. بخط جميل مستقيم، وجمل مجنّحة منتقاة من تلافيف الذاكرة، ومما تحفظه من شذرات ذهبية لجبران خليل جبران، أو المنفلوطي أو بودلير، أو كلمة مستقاة من بيت جميل من المعلقات السبع، ظلّ عالقاً تحت اللسان منذ قرون.

لا لا... إنهم جاءوا من أجله هو... لم تأتِ تلك الجموع الغفيرة من أجل أحد منهم، بل ربما لم ترَ أحداً منهم، وأكاد أجزم أنها لم تتعرف على أحد منهم... تلك الجموع الشابة التي ملأت على حين غرة أجنحة المعرض، ومسالكَه، وسلالمَه، وبواباتِه، ومدارجَه، واكتظت بهم مساحاته الخارجية، وامتدت حتى مداخله البعيدة الشاسعة. يتدافعون ويهتفون باسم كاتبهم ومعشوقهم، هتافات مضفورة بصرخات الفرح:

- أووو... أووو... أووو أسامة...!!

يحلمون بالظفر برؤيته أخيراً عن قرب، وبلقائه هذه المرة بلحمه وعظمه، وليس شبحاً وصورة وصوتاً وإشارات خلف الشاشات الباردة لأجهزتهم الإلكترونية. يأملون بتوقيعه على الصفحة الأولى من إحدى رواياته، ولتكن روايته «خوف» مثلاً.

هكذا إذن... الأدبُ بدوْره، أضحى يرفض بيت الطاعة، بل يهدمه ويِؤسس قلعته الخاصة، التي تتماهى مع هندسة ذائقة العصر الجديدة، القابلة للنقاش. إنها الإشارة مرة أخرى ومنذ ظهور الكائن البشري من نحو ثلاثة مليارات سنة، على أن الزمن يعدو بالبشر بسرعة مدوخة، بينما هم يشاهدون - بأسف غالباً - حتف الأشياء التي تعوّدوا عليها، وهي تتلاشى نحو الخلف.

من البديهي أن الكتابة على الصخور لم تعد تستهوي أحداً منذ أمد بعيد، سوى علماء الأركيولوجيا الذين لهم الصبر والأناة، وقدرة السِّحر على إنطاقها، وقد أثبتوا ذلك بمنحنا نص جلجامش، أول نص بشري كتب على الأرض، وأما نظام الكتابة فقد تجاوز معطى الشفهية إلى الطباعة، ثم إلى الرقمية، وتكنولوجيا المعلومات، والذكاء الاصطناعي و...!

على ذِكر الذكاء، فليس من الذكاء ولا الفطنة التغاضي عن الواقع المستجد، أو التعنت أمام فكرة أن العالم في تغير مدوّ وسريع، وقد مسّ سحره كل جوانبه ومنها سوق الأدب، ولا بد من الاعتراف أن المنتِج للأدب كما المستهلك له، لم يعودا خاضعين في العرض والطلب لشروط أسواقه القديمة، وإن لم تنقرض جميعها، في ظل التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي وتوفر الـ«بلاتفورم» و«يوتيوب» و«إنستغرام» و«تيك توك» و«فيسبوك» وهاشتاغ وما جاورها.

لكن الأمر الذي لا بد من توضيحه والتأكيد عليه، أن دمغة الأدب الجيد وسمة خلود الإبداع، لا تكْمنا دوماً وبالضرورة في انتشاره السريع، مثل النار في الهشيم، وقت صدوره مباشرة، وإلا لما امتد شغف القراء عبر العالم، بالبحث عن روايات وملاحم وقصص عبرت الأزمنة، بينما لم تحظَ في وقتها باهتمام كبير، والأمثلة على ذلك عديدة ومثيرة للتساؤل. أسامة مسلم، وسارة ريفنس وآخرون، كتّاب بوهج ونفَس جديدين، على علاقة دائمة ووطيدة وحميمية ومباشرة مع قرائهم عبر وسائط التواصل الاجتماعي، فلا يحتاجون إلى وسيط. مؤلفون وأدباء شباب كثر عبر العالم، من فرنسا وأميركا وإنجلترا وكندا وغيرها مثل Mélissa Da Costa - Guillaume Musso - Laura Swan - Morgane Moncomble - Collen Hoover - Ana Huang وآخرين وأخريات ينتمون إلى عالم رقمي، تسيطر فيه عناصر جديدة تشكل صلصال الكتابة وجسر الشهرة... لم يمروا كما مر الذين من قبلهم على معابر الأدب، وتراتبية مدارسه المختلفة التي وسمت مراحل أدبية متوهجة سابقة لهم، ولم يهتموا كثيراً بالنّسَب الجيني لأجدادهم من الروائيين من القارات الخمس بمختلف لغاتهم، ولم يتخذوا منهم ملهمين، ولا مِن مقامهم هوى. كتابٌ شباب، أضحت مبيعات رواياتهم تتصدر أرقام السوق، فتسجل عشرات الملايين من النسخ، وتجتاح الترجمات عشرات اللغات العالمية، ودون سعي منهم ترصد ذلك متابعات صحافية وإعلامية جادة، وتدبج عنهم مقالات على صفحات أكبر الجرائد والمجلات العالمية، وتوجه لهم دعوات إلى معارض الكتب الدولية. كتاب لم يلجئوا في بداية طريقهم ومغامرتهم الإبداعية إلى دور النشر، كما فعلت الأجيال السابقة من الأدباء، بل إن دور النشر الكبيرة الشهيرة لجأت بنفسها إليهم، طالبة منهم نشر أعمالهم في طباعة ورقية، بعد أن تحقق نجاحهم من خلال منصات النشر العالمية وانجذب إليهم ملايين القراء. فرص سانحة في سياق طبيعي يتماهى مع أدوات العصر مثل: Wattpad - After Dark - nouvelle app - Creative Commons وغيرها.

ولأن التفاؤل الفكري يرى فرصة في كل عقبة، وليس في كل فرصة عقبة كما جاء على لسان وينستون تشرشل، ولأن الوعي بالحداثة يأتي متأخراً زمنياً، فإن ما يحدثه الكتّاب الروائيون الشباب Bests eller البستسيللر في العالم، من هزات مؤْذنة بالتغيير، ومن توهج استثنائي في عالم الكتابة، ومن حضور مُربك في معارض الكتاب، تجعلنا نطرح السؤال الوجودي التالي: هل ستتغير شروط الكتابة وتتبدل مقاييسها التقليدية، وهل ستنتفي معارض الكتاب أم تتغير. وكيف ستكون عليه إذن في الأزمنة المقبلة؟