عن دار «إضاءات» بالقاهرة صدر كتابُ «فلسفة العبث» للباحث والأكاديمي المصري د. حسن حماد، الذي يتوقف بشكل خاص عند التجليات المدهشة لتلك الفلسفة في عدد من الفنون، لا سيما المسرح والرواية. ويشير في البداية إلى أنه رغم أن موضوع العبث بمعنى «خلو الحياة من المعنى أو الهدف» يعد من الموضوعات التي فرضت نفسها على الفكر المعاصر بعد الحرب العالمية الثانية فإن الفكرة ذاتها لها تاريخ قديم جدا، حيث إن أسئلة من مثل «ماذا تعني الحياة»، «ماذا يعني الميلاد»، «ماذا يعني الموت»، «ماذا يعني الوجود» تعكس قلقاً عانى منه كثيرون قبلنا وطرحها المغامرون الفاتحون، والعاشقون المبدعون، وكذلك الشعراء والفلاسفة والمتصوفة.
يذكر المؤلف أن جون رسل تيلور في «قاموس بنغوين للمسرح» عام 1966 أشار إلى أن ما يسمى بـ«المسرح العبثي» ينطبق على مجموعة من كتاب الدراما تشكلت عام 1950 ولم يعتبروا أنفسهم مدرسة بالمعنى الدقيق للكلمة، لكن يبدو أنهم كانوا يتقاسمون عدداً من الاهتمامات والأفكار الخاصة بمأزق الإنسان في الكون، خصوصاً تلك الأفكار التي عبر عنها ألبير كامو في كتابه «أسطورة سيزيف» عام 1942. ويشخص هذا الكتاب المأزق الإنساني بوصفه انعداماً للهدف في ظل وجود إنساني غير متناغم مع كل ما يحيط به من أشياء، لافتاً إلى أن الوعي بغياب الهدف تنتج عنه حالة يمكن تسميتها بـ«الكرب الميتافيزيقي»، تلك الحالة تمثل الموضوع الرئيسي لدى أشهر كتاب مسرح العبث مثل صمويل بيكت وأوجين يونسكو وأرثر آداموف وجان جينيه وهارولد بنتر.
وفي مقالة كتبها يونسكو عن الكاتب التشيكي فرانز كافكا يحدد العبث بأنه «الشعور بأن العالم قد خلا من الهدف والمعنى». و«مسرح العبث» هو ظاهرة من ظواهر ما بعد الحرب العالمية الثانية فقد عُرضت مسرحية «الخادمتان» لجان جينيه لأول مرة في باريس عام 1947، كما عُرضت مسرحية «المغنية الصلعاء» ليونسكو لأول مرة عام 1950 وأخرجت مسرحية «في انتظار جودو» لبيكيت عام 1952. اللافت أن معظم كتاب العبث كانوا من المنفيين من بلادهم والمستوطنين باريس، فبكيت ولد عام 1906 من أصل إنجليزي آيرلندي ويكتب باللغة الفرنسية، ويونسكو ولد عام 1908 وهو روسي أرمني. وليس بين هذه المجموعة فرنسي المولد والمنشأ إلا جينيه ولكنه عاش تجربة المنفى بمعنى آخر، إنه منفي عن المجتمع نفسه إذ تركته أمه طفلاً ورباه غير أبويه فعانى من التشرد والضياع ودخل عالم اللصوص.
في مسرحية «نهاية اللعبة»، يقدم بيكيت أربع شخصيات عائلية تمثل أجيالاً مختلفةً ويجمع بينها أنها معطوبة بالعاهات الجسدية وغير الجسدية. «هام» شخص ضرير كسيح يجلس فوق كرسيه المتحرك ويتخذ له موقعاً في منتصف الحجرة، ورغم عجزه فإنه طاغية يتحكم في الأشخاص الثلاثة الآخرين ويصدر لهم أوامره. «ناج» و«نيل» والدا «هام» عجوزان كسيحان وضعهما ابنهما داخل صندوق للقمامة، أما الشخصية الرابعة فهي «كلوف» وهو صديق «هام» أو ابنه أو خادمه، لا أحد يعرف على وجه الدقة، ولكنه على أي حال هو الشخص الوحيد القادر على الحركة لكنه لا يستطيع الجلوس ويدور طوال الوقت حول «هام» ينفذ أوامره بطريقة سلبية وهو متأهب دائماً للرحيل لكنه لا يرحل، مثل معظم شخصيات بيكيت التي تبدو وكأنها مقيدة بأقدارها.
في مسرحية «الكراسي» ليوجين يونسكو، لا نجد على خشبة المسرح سوى مجموعة من الكراسي التي لا يجلس عليها أحدٌ. أما الشخصيات فهي امرأة عجوز ورجل عجوز وخطيب أصم وأبكم. العجوزان يثرثران من آن إلى آخر بكلمات مبهمة غامضة بلا معنى أقرب إلى التخريف. تلك الشخصيات توجد أمامنا ظاهرياً لكنها بدون وجود حقيقي، فهي أقرب إلى الأشباح منها إلى الشخصيات التي لا تظهر على المسرح بصورة فعلية وكأن غياب الإنسان وحضوره في هذا العالم أمران لا يختلفان.
عندما تبدأ المسرحية يوجد على المسرح كرسيان فقط ثم تبدأ زيارات أناس لا نراهم بصورة فعلية وكل زائر يوضع له كرسي جديد على المسرح والزوار الأوائل لهم ملامح واضحة ومحددة، ولكن مع مرور الوقت وكثرة الزوار نتعرف على الزائرين فقط بأسمائهم أو وظائفهم. وتزداد الكراسي مع تقدم الوقت حتى يكاد يضيق المسرح بها مما يضطر العجوزين إلى أن يبحثا لهما عن طريق بين زحام الكراسي. وينتهي يونسكو إلى الاقتناع بأن المسرح هو أفضل مكان يمكن ألا يوجد فيه أحد وألا يحدث فيه شيء.
اللافت أن معظم كتاب العبث كانوا من المنفيين من بلادهم والمستوطنين باريس
وعلى مستوى الرواية، يرى المؤلف أن رواية «ثرثرة فوق النيل» لنجيب محفوظ تقدم من وجهة نظره رؤية فلسفية متكاملة حول مفهوم «العبث» من حيث معناه ومستوياته ودلالاته المختلفة؛ كما أن محفوظ لا يكتفي بالوصف على طريقة الفلاسفة الوجوديين ولكنه يتجاوز ذلك إلى ما هو أبعد، أي إلى مناقشة كيفية الخروج من مأزق العبث، وبالتالي فإن الرواية بلا ريب ليست مجرد ثرثرة مسلية أو تافهة بل ثرثرة تحكمها قيمة الحكمة وعمق الرؤية.
وحسب د. حماد، يحدد نجيب محفوظ معنى العبث في الفصل العاشر من الرواية بقوله: «العبث هو فقدان المعنى، معنى أي شيء وانهيار الإيمان، الإيمان بأي شيء والسير في الحياة بدافع الضرورة وحدها ودون اقتناع وبلا أمل حقيقي، وينعكس ذلك على الشخصية في صورة انحلال سلبية، وتصبح البطولة خرافةً وسخريةً ويستوي الخير والشر وتموت القيم جميعاً وتنتهي الحضارة». والمعنى المقابل للعبث عند محفوظ هو «الجدية» التي تعني الإيمان ولكن الإيمان بماذا، فلا يكفي أن نعرف ما يجب أن نؤمن به، ولكن من الضروري أن يكون لإيماننا من الصدق والمصداقية ما يجعله قادراً على خلق البطولات وإلا كان نوعاً «جاداً» من العبث.
وتصور الرواية في هذا السياق مجموعة من الشخصيات العبثية، العابثة، الرافضة لكل قيمة أو معنى أو هدف، مبررين ذلك بأنهم سيتحولون بعد قليل إلى رماد وعظام وترهقهم في الوقت ذاته حقيقة أن الحياة اليومية تفرض عليهم ألواناً من الجدية الحادة التي لا معنى لها.