قوانين تتطور لكن نجوماً ذكورية لا يمكن المساس بهم

مجلة الفلسفة الفرنسية تعيد فتح ملف «القبول أو الصمت»

كاثرين ماكينّون
كاثرين ماكينّون
TT

قوانين تتطور لكن نجوماً ذكورية لا يمكن المساس بهم

كاثرين ماكينّون
كاثرين ماكينّون

في ظل عالمنا المعاصر الذي أصبح قرية كونية بفضل التكنولوجيا المتطورة من جهة، وبسبب ميل الإنسان نحو السيطرة على الطبيعة وعلى أخيه الإنسان من جهة أخرى، نشهد كل يوم تطورات وظواهر تجعلنا نتساءل حول مصير الإنسان والنزعة الإنسانية، وحول القيم التي تسود في المجتمعات المعاصرة والمشكلات المطروحة على الإنسان المعاصر. ومن بين هذه المشكلات التي تحدث في كافة المجتمعات المتطورة والمتخلفة، هناك مشكلة التحرش الجنسي ومحاولات الاغتصاب وكيفية التعامل قانونياً وقضائياً مع المرتكبين ومع الضحايا. ومن دون شك، فإن هذا الموضوع يحتمل الكثير من التأويلات والتحليلات القانونية والنفسية والاجتماعية، ويختلف التعامل معه بين مجتمع وآخر. وحول هذا الموضوع عرضت مجلة الفلسفة الفرنسية في عددها الجديد الصادر هذا الشهر كتاب المحامية الأميركية الراديكالية كاثرين ماكينّون (Catharine Mackinnon) تحت عنوان «le viol redéfini» (إعادة تعريف الاغتصاب)؛ إذ تنتقد مصطلح «القبول أو الصمت» بالاستناد إلى القانون الفرنسي. إذن، كيف تنظر هذه الشخصية الكبيرة المناصرة للحركة النسوية إلى حقوق النساء؟

الفصل الأول من الكتاب تخصصه حول «اللحظة الفرنسية»؛ إذ تبين فيه أنه على عكس البلاد الأنغلوسكسونية التي تضع مصطلح «القبول أو الصمت» في صلب القانون ضد الاغتصاب، فإن التشريع الفرنسي يعترف بأربعة نماذج من القوة ويعرّف الاغتصاب بأنه «كل فعل إيلاج جنسي مرتكَب تجاه الآخر بواسطة العنف أو بالجبر والتهديد أو بالمفاجأة». وقد اعترضت الحكومة الفرنسية على التوحيد الأوروبي لتعريف الاغتصاب القائم على غياب القبول، مفضلةً الإبقاء على تعريفها. أما المحامية ماكينّون المؤيدة للتعريف الفرنسي فتعدّ أن «نعَم لا تعني دائماً نعَم»؛ إذ إن الضحية «يمكن أن تقول (نعم) لتجنب عقوبات إضافية وليس رغبة في الجنس». وبالتالي، فإن الصمت أو القبول يمكن أن يستخدم سلاحاً من قبل المعتدي كي ينكر العنف والإلزام الذي مارسه تجاه الضحية. هنا تستشهد ماكينّون برواية الكاتبة الفرنسية فانيسّا سبرنغورا التي تروي قصتها تحت عنوان «القبول أو الصمت»؛ إذ كانت ضحية الكاتب الفرنسي غابريال ماتزنيف. وبالفعل، فإن ماكينّون تقتبس غالباً من الكاتبات الفرنسيات، ولاحظت أن هذه الكتابات دفعت الحكومة الفرنسية إلى تعديل القانون الفرنسي بحيث أصبح هذا القانون منذ عام 2020 يمنع العلاقات الجنسية بين قاصر عمره خمسة عشر عاماً وبين راشد يكبره بخمس سنوات. إذن، هذا الجو الفرنسي الأدبي دفع المحامية الأميركية إلى نقد مفهوم «القبول» أو «الصمت» حول هذا الموضوع. ومع ذلك، فإن البيئة الأدبية الفرنسية لم تكن مرحّبةً بالأفكار التي أطلقتها ماكينّون. على سبيل المثال، فإن أحد الناشرين الفرنسيين خاطبها بالقول: «سيدتي، كتابتك عنيفة جداً. إن النساء الفرنسيات لا تهتم بهذه المواضيع»، ولكن كاثرين ماكينّون تلاحظ أن في فرنسا عدداً مهماً من ضحايا المشاهير أشاروا إلى المفارقة المؤلمة بين قانون يتطور وبين نجوم ذكورية لا يمكن المساس بهم. وإذا كانت ماكينّون تخيف أولئك الذين يتمنون بشكل واعٍ، إلى حد ما، الحفاظ على هذا النظام المسيطر؛ فإنها تصدم أيضاً بعض المناضلات في الحركة النسوية؛ وذلك لأن هجومها على مفهوم «القبول أو الصمت» من الممكن ألا يكون مرحّباً به في أوساط المناضلات على الأرض المنتميات إلى عالم الجمعيات واللواتي تحرّكن دائماً هذا المفهوم من أجل مكافحة حالات العنف القائمة، وأيضاً للوقاية من حالات العنف المستقبلية عبر التربية على الجنس بالتراضي... ومواقفها ضد الدعارة وأفلام الجنس الإباحية لم تلقَ استحساناً في الأوساط النسوية، ولكن بعد نشر كتاب «ألم مبرح» في عام 1980 الذي يعرض مذكرات الممثلة الإباحية السابقة ليندا لوفلاك التي تعرضت للاغتصاب والمعاملة السيئة والتي أُجبرت من قبل شريكها على تمثيل فيلم «deep throat»؛ بدأت المحامية ماكينّون تخوض معركتها ضد صناعة الأفلام الإباحية إلى جانب الكاتبة والناشطة في الحركة النسوية أندريا دووركن؛ إذ خاضتا المعركة في الميدان الحقوقي وتعاونتا على تحرير إنذار قضائي ووثيقة رسمية حول الحقوق المدنية في مجال صناعة الأفلام الإباحية من أجل اعتبار هذه الصناعة بمثابة تمييز وإساءة ضد النساء. غير أن هذا الموقف أثار عاصفة لدى نصيرات الحركة النسوية الأميركية. ولكن إذا كانت مواقف المحامية ماكينّون تجاه الدعارة والأفلام الإباحية لم تحظَ بالإجماع، فمن الصعب نكران مساهمتها الأساسية في مسألة التنمر أو التحرش. ففي عام 1986 اعترفت المحكمة العليا في الولايات المتحدة الأميركية وأقرت بأن موظفة في مصرف قد تعرضت لتحرش جنسي من قبل مديرها.

يجب صياغة القانون بمفردات الضحايا ولمصلحتهن لا بمفردات المعتدي

لأول مرة في التاريخ تستند المحكمة إلى تعريف التحرش بمثابة تمييز جنسي مبتكر من قبل المحامية ماكينّون منذ عام 1979 عندما تخرجت في جامعة يال، وذلك لم يحصل في فرنسا إلّا منذ عام 2012 عندما أدان القانون الفرنسي فعل التنمر والتحرش. وبالفعل، فإن استخدام كلمة «تحرش» أو «تنمّر» في القانون أحدث ثورةً في تعريف العنف. تقول ماكينّون: «إن فعل الاعتداء الجسدي هو بشكل عام يعدّ خطيراً بما يكفي كي يشكل تحرشاً جنسياً في القانون الأميركي على الرغم من أن ذلك لم يكن مقرراً بشكل حاسم. إن كلمة (تحرش) لا تتضمن أفعال الاعتداءات الجسدية فقط، ولكن أيضاً تلك التي تنتج عن العنف اللفظي». هكذا إذن هي تبيح الحكم على العنف المحدود كما الاعتداءات المستمرة، وصولاً إلى الحاضرة بشكل دائم والتي تأتي عبر الكلام. إذن، ترفض ماكينّون أيضاً الفصل الجذري بين «الجنسانية» من جهة، وبين العنف من جهة أخرى. بالنسبة إليها، هذا الفرق يساهم في تأييد وتطبيع حالات العنف المتعلقة بالحياة الجنسية «التقليدية» والتي نعدّها بشكل خاطئ خالية من أي شكل عدواني، مستندة في ذلك إلى شهادات فتيات تعرّضن لمضايقات جنسية. وفي سبيل إثبات وجهة نظرها تلجأ المحامية في كتبها إلى الأرقام؛ إذ رصدت أن عدد ضحايا العنف الجنسي بأشكاله المختلفة والمسجلة في محاضر قوى الأمن، وذلك بحسب رسالة المرصد الوطني لحالات العنف المرتكبة بحق النساء، قد تضاعف مرتين في فرنسا منذ عام 2017. ولكن كيف يمكننا الخروج من هذا الوضع؟ وما هي المخارج والوسائل الممكنة كي لا نستسلم لليأس؟ توصي بأنه يجب أن نحاول مواجهة المشكلة ونتجنب الاستسلام للنكران؛ إذ إن لحظة الوعي ليست أبداً سهلة؛ وذلك لأن الناس يرون العالم من خلال الأوهام التي خلقوها كي يجعلوا حياتهم أكثر راحة. إذن، فإنهم يتحولون إلى ما يقال لهم عن شخصياتهم باعتباره ضرورة لنجاحهم، ثم يعودون ذات يوم ويكتشفون أن هذه الشخصيات لا تشبههم حقاً. وتدعو ماكينّون النساء للتوقف عن فعل ما يُطلب منهن، وإلى العمل على تطوير القانون كي لا يكون مصوغاً بمفردات المعتدي، بل يجب أن يصاغ بمفردات الضحايا ولمصلحتهن. وفي مقال تحت عنوان «الجنس والعنف»، تقول: «يجب المشاركة في تحديد المفردات التي تبدع المعيار وتكون الصوت الذي يشارك في تحديد الحدود». وهي تدرك أن ذلك لن يتم بشكل آلي، بل هي تؤمن بقوة بـ«مفعول الفراشة» الذي يسمح بتحويل الأفعال الصغيرة المقاومة إلى إعصار، وصولاً إلى زلزال الأرض. تقول: «ذات يوم قال لي أحدهم إنه إذا حدث أن كل سكان الصين دقوا أقدامهم اليمنى في الوقت نفسه، فإن الأرض سوف تتزحزح عن محورها». واستناداً إلى ذلك، تعدّ أن كل النساء اللواتي، كل واحدة على طريقتها، يقاومن ويقفن بوجه كل أشكال الاستغلال، يستطعن تحريك الأرض وحرفها عن مسارها. وتعدّ ماكينّون أن هذا التغيير ممكن أن يحصل من خلال الفلسفة، ومن خلال الثورة.


مقالات ذات صلة

أليخاندرا بيثارنيك... محو الحدود بين الحياة والقصيدة

ثقافة وفنون أليخاندرا بيثارنيك

أليخاندرا بيثارنيك... محو الحدود بين الحياة والقصيدة

يُقال إن أكتافيو باث طلب ذات مرة من أليخاندرا بيثارنيك أن تنشر بين مواطنيها الأرجنتينيين قصيدة له، كان قد كتبها بدافع من المجزرة التي ارتكبتها السلطات المكسيكية

ماغنوس وليام أولسون باسم المرعبي (ترجمة)
ثقافة وفنون «أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ

منى أبو النصر (القاهرة)
ثقافة وفنون مجلة «القافلة» السعودية: تراجع «القراءة العميقة» في العصر الرقمي

مجلة «القافلة» السعودية: تراجع «القراءة العميقة» في العصر الرقمي

في عددها الجديد، نشرت مجلة «القافلة» الثقافية، التي تصدرها شركة «أرامكو السعودية»، مجموعة من الموضوعات الثقافية والعلمية

«الشرق الأوسط» (الظهران)
ثقافة وفنون أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان

أسود منمنمة من موقع الدُّور في أمّ القيوين

خرجت من موقع الدُّور في إمارة أم القيوين مجموعة كبيرة من اللقى الأثرية المتنوّعة، تعود إلى حقبة تمتد من القرن الأول ما قبل الميلاد إلى القرن الثاني للميلاد.

محمود الزيباوي
ثقافة وفنون مجلة «الفيصل»: صناعة النخب في الوطن العربي

مجلة «الفيصل»: صناعة النخب في الوطن العربي

صدر العدد الجديد من مجلة «الفيصل»، وتضمن مواضيع متنوعة، وخصص الملف لصناعة النخب في الوطن العربي، شارك فيه عدد من الباحثين العرب

«الشرق الأوسط» (الرياض)

«التسامح في الإمارات»... الأبعاد والجذور التاريخية

«التسامح في الإمارات»... الأبعاد والجذور التاريخية
TT

«التسامح في الإمارات»... الأبعاد والجذور التاريخية

«التسامح في الإمارات»... الأبعاد والجذور التاريخية

فضاءات ومحاور بحث معمق، متخصصة في عوالم التعايش والتناغم المتأصلة والمؤتلِقة ضمن مجتمع دولة الإمارات العربية المتحدة، يناقشها ويقاربها كتاب «التسامح في الإمارات... سيرة جديدة وضّاءة للأخوة الإنسانية (شهادات وقصص بطلها الآخر)»، للصحافي والباحث السوري رفعت إسماعيل بوعساف، الصادر، أخيراً، عن دار «ميتافيرس برس» للنشر. ويعرض المؤلِّف أبرز شواهد تآلف وتقارب حضارات وأديان وثقافات، موضحاً أهم المقومات التي امتازت بها وعلى رأسها: تجذّر التواصل والانفتاح في المجتمع، وتمسك قادة الإمارات بالقيم الإنسانية، وسماحة أهلها واتسامهم بالوسطية والاعتدال، والمشروعات والمبادرات النوعية الكفيلة بترسيخ التسامح محلياً وعالمياً (مثل: وثيقة الأخوة الإنسانية، وبيت العائلة الإبراهيمية، ووزارة التسامح، والمعهد الدولي للتسامح، والأعمال والمبادرات الخيرية المتنوعة).

يتضمن الكتاب، الواقع في 411 صفحة، على أربعة أبواب رئيسية، وخاتمة تضم مقترحات وتوصيات. وتناقش فصوله جوانب كثيرة شاملة يُجمل فيها بوعساف، وعبر سير مشاهداته ومعايشاته في الإمارات طوال أكثر من 20 عاماً، وكذا في ضوء خلاصات أبحاثه الخاصة بالدراسة، مصادر وينابيع جدارة وتميز مجتمع الإمارات في مدارات التّسامح، مبيناً في مستهلّ إضاءاته الأبعاد والجذور التاريخية لحكاية التسامح في هذه الأرض، في المحطات والأزمان كافّة، طبقاً لأسانيد وتدوينات تاريخية جليّة، فأهلها لطالما تميزوا بكونهم يحتفون بالآخر المختلف عنهم ويرحبون به ولا يرفضونه أو يعزلون أنفسهم عنه، وهكذا ضمّوا وحضنوا بين ظهرانيهم أفراداً من أعراق ومذاهب شتّى بقوا يبادلونهم الحب ويتأثرون ويؤثّرون بهم، ثقافياً واجتماعياً واقتصادياً. ويستعرض المؤلف عقبها، حقائق فاعلية وإثمار مساعي وبرامج دولة الإمارات العربية المتحدة، الرامية إلى تعزيز التقارب بين الأديان وأطياف الإنسانية... وكذا إطفاء ألهبة أزمات الهُويات، واستئصال أسباب الصراعات المذهبية وقطع دابر التعصب. ثم يدرس ويحلل ماهيات أعمدة وتجليات التسامح والتعايش في ميادين الحياة بالإمارات: المجتمعية والصحية والتعليمية والثقافية والاقتصادية والقانونية والإعلامية. ويقدم، أيضاً، جملة شهادات وإشادات لأبرز السياسيين ورجالات الدين والبحاثة والكتّاب الأجانب حول ثراء الإمارات بقيم الانفتاح والتعايش والتواصل، ومنهم: الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ومسؤولون أمريكيون، ونجم الكرة الأرجنتيني الراحل دييغو مارادونا، والروائي البرازيلي باولو كويلو، ونجم بوليوود شاروخان، وعالم النفس والباحث الكندي البروفسور إدوارد دينر. كما يُفرد الكتاب محطات موسَّعة لشرح طبيعة وقيمة حصاد جهود الدولة ومبادراتها ورؤى قادتها، الضامنة تمكين وتقوية هياكل ومرتكزات التسامح والتآخي الإنساني في مجتمع الإمارات والعالم أجمع، التي تكللها أعمال ومشروعات عمل خيري وإنساني ترصد لها الإمارات ميزانيات ضخمة، تطول أصقاع الأرض قاطبةً ولا تميز فيها بين دين أو إثنية أو طائفة.

ويحفل الباب الرابع في الكتاب، الموسوم «حوارات وسيمفونية»، بحوارات وأحاديث مع رجال دين ومسؤولين ومثقفين وأطباء وإعلاميين ومهندسين ومبدعين، بعضهم يقيم في الدولة منذ أكثر من 60 عاماً، يروون فيها حقائق ومواقف كثيرة، بشأن التسامح وواقع انفتاح المجتمع وقبوله الآخر المختلف ورسوخ التعايش والمحبة فيه. وتضم قائمة هؤلاء المحاورين: أحمد الحَدَّاد، مفتي دبي وعضو «مجلس الإمارات للإفتاء»، وبول هيندر، أسقف الكنيسة الكاثوليكية في جنوب شبه الجزيرة العربية (2004-2022م)، وراجو شروف، رئيس معبد «سندي غورو دربار» الهندوسي، وحمّود الحناوي، شيخ عقل طائفة الموحدين الدروز في سوريا، وسوريندر سينغ كاندهاري، رئيس معبد «غورو ناناك دربار السيخي»، وعشيش بروا، مسؤول «المركز الاجتماعي البوذي» في الشارقة، وإيان فيرسرفيس، الشريك المؤسس ورئيس تحرير «موتيڤيت ميديا غروب»، وزليخة داود، أول طبيبة نسائية في الإمارات (1964م)، وبيتر هارادين، الرئيس السابق لـ«مجلس العمل السويسري»، وراميش شوكلا، أحد أقدم المصورين في الإمارات.