الإقطاعية التقنية: هل هي بديل الرأسمالية؟

الإقطاع المعاصر يتسلّح برأس المال السحابي والمنصّات الرقمية

الإقطاعية التقنية: هل هي بديل الرأسمالية؟
TT

الإقطاعية التقنية: هل هي بديل الرأسمالية؟

الإقطاعية التقنية: هل هي بديل الرأسمالية؟

أسئلة الصغار غالباً ما تكون شديدة الخطورة والأهمية رغم بساطتها الخادعة. الصغار لا يناورون ولا يعرفون أفانين المراوغة. يسألون عن كلّ شيء وأي شيء. قد لا نعير الكثير من الأهمية لأسئلتهم، وقد نحاول الاحتيال عليها والتملّص منها؛ لكننا أحياناً قليلة قد نجتهدُ في تقديم إجابات مناسبة لها. ليس هذا بالأمر اليسير أبداً؛ لكنّ يانيس فاروفاكيس (Yanis Varoufakis)، وزير المالية اليوناني الأسبق وأستاذ الاقتصاد بجامعة أثينا، هو أحد القلّة الذين لم يشاؤوا التفلّت من سؤال ابنته الصغيرة: (لماذا يا أبي يوجد هذا القدر من اللامساواة في العالم؟). اجتهد الرجل بقدر ما استطاع، وكانت النتيجة كتاباً ممتازاً عنوانه (الحديث مع ابنتي: تاريخ موجز للرأسمالية Talking to My Daughter: A Brief History of Capitalism). تُرْجِم الكتاب إلى لغات عديدة (منها العربية). واصل فاروفاكيس مهمته في الكتابة، فنشر عديداً من الكتب المهمّة أحدثُها هو الكتاب المعنون (الإقطاعية التقنية: ما الذي قتل الرأسمالية؟ TechnoFeudalism: What Killed Capitalism). الكتاب منشور عام 2023.

يقدّمُ فاروفاكيس في هذا الكتاب رؤية استشرافية أقلُّ ما يقال عنها إنها جريئة وليست منقادة بدوافع آيديولوجية محضة. جوهرُ رؤية فاروفاكيس أنّ الرأسمالية المعاصرة (النظام النيوليبرالي على وجه التخصيص) هي في طريقها إلى الاندثار، وأنّ معالم هذا الاندثار ليست إحدى الأزمات الدورية الكلاسيكية التي وسمت الرأسمالية منذ نشوئها، ويؤكّدُ أنّ عصر ما بعد أزمة «كوفيد-19» بات يقدّمُ المصاديق لحتمية هذا الاندثار. الرأسمالية تموت.. هذا ما يراه فاروفاكيس، هي الآن تحتضر، وليس موتها سوى مسألة وقت لن يطول كثيراً.

تتأسّسُ رؤية فاروفاكيس على افتراض أساسي: الرأسمالية المعاصرة صارت عاجزة من حيث إنّ ديناميات اشتغالها المعروفة في الأدبيات الاقتصادية لم تعد تعمل مع الاقتصاديات المعاصرة. المسألة ليست شكلية بقدر ما هي تحوّل جوهري تاريخي. الرأسمالية بأكملها (وليس جزءاً منها فحسب) بات يستبدلها نظام آخر مختلف كلياً عنها، هو الإقطاعية التقنية (TechnoFeudalism). في قلب هذا الافتراض تكمن مفارقة ساخرة مُرْبِكة وغير متوقّعة: العنصر الذي قتل الرأسمالية هو رأس المال (Capital)!!، وهو ليس رأس المال التقليدي الذي عرفناه في فجر الثورة الصناعية، بل هو نمط جديد من رأس المال الذي نشأ خلال العقدين الماضيين. الأمر أشبه بأن ينقلب السحر على الساحر: يمكن تشبيه الأمر بأنّ الرأسمالية نمّت داخلها فيروساً غبياً واهناً طيّعاً لها، ثمّ حصل أن تغوّل ذلك الفيروس حتى قتل مُضيفَهُ الذي رعاه عقوداً كثيرة. يوضّحُ فاروفاكيس أنّ تطوّريْن جوهريين ساهما في تغوّل الإقطاعية التقنية وانطفاء الرأسمالية النيوليبرالية: خصخصة الشبكة العالمية (الإنترنت) والسيطرة عليها من قِبل عمالقة التقنية الرقمية من الأمريكيين والصينيين، والكيفية التي تعاملت بها الحكومات الغربية والبنوك المركزية مع الأزمة المالية الكبرى عام 2008.

يمتاز عصر الإقطاعية التقنية بأنّ الرأسمال فيه شهد طفرة بات معها يوصف بِـ(الرأسمال السحابي Cloud Capital)، وتلك إشارة إلى الحوسبة السحابية التي صارت الفاعلية الأكثر شيوعاً في العالم الرقمي. هذا المال السحابي قوّض دعامتين أساسيّتين في الرأسمالية الكلاسيكية والنيوليبرالية: الأسواق والأرباح. هذا لا يعني أنّ الإقطاعية التقنية لم تعد تهتم بالأسواق والأرباح، بل إنّ ما حصل فعلاً خلال العقدين الماضيين أنّ الأسواق والأرباح تراجعتا من مكانتيهما في مركز النظام الاقتصادي والاجتماعي لعالمنا، ودُفِعتا دفعاً نحو هوامش مقصودة، ثمّ حصل استبدالهما بالكيفية التالية: الأسواق استُبدل بها المنصات التجارية الرقمية التي تبدو للوهلة الأولى أسواقاً كلاسيكية، لكنها ليست كذلك. هي أقرب لأن تكون إقطاعيات (Fiefdoms). أمّا الأرباح فتمّ استبدالها بالمعادل الإقطاعي، وهو الإيجار (Rent)، (وهو كلفة بضاعتك الرقمية في هذه المنصّات).

ما هي الحصيلة الختامية لهذا الاستبدال الجوهري؟ السطوة الحقيقية في عالمنا لم تعد متمركزة بأيدي مالكي الرأسمال الكلاسيكي من آلات ومصانع وسكك حديد وشبكات هاتف وروبوتات صناعية... إلخ، بل صارت السطوة تتمركز أكثر فأكثر بأيدي طبقة جديدة من لوردات الإقطاعية الرقمية، وهي الأخوات الست العظام (أمازون، غوغل، آبل، ميتا «أو فيسبوك»، مايكروسوفت، تسلا). صارت الأخوات النفطية السبع ذكرى منسية من ماضٍ بعيد.

يتساءل فاروفاكيس في تقديمه المهم للكتاب:

«... هل يؤثّر هذا الأمر على الطريقة التي نعيش بها ونختبر حيواتنا من خلالها؟ بالتأكيد يؤثر كثيراً. إدراكُ حقيقة أنّ عالمنا بات محكوماً بإقطاعيين تقنيين سيساعدنا في تفكيك كثير من الأحاجي - الصغيرة والكبيرة - في عالمنا: من الثورة الخضراء المخادعة وقرار إيلون ماسك شراء منصّة «تويتر»، إلى الحرب الباردة الجديدة بين الولايات المتحدة والصين، وكيف أنّ الحرب في أوكرانيا صارت تهدّد عرش السيادة الدولارية الأميركية. سنفهم كذلك حقيقة موت الكائن الليبرالي، واستحالة الديمقراطية الاجتماعية، وزيف وعود العملة الرقمية (الكريبتو Crypto)، وقبل هذا وذاك سنستكشف أبعاد التساؤل الممض الذي لم يزل يتأجج في دواخلنا: كيف السبيل لاستعادة استقلاليتنا، وربما حريتنا...».

كما ذكرتُ سابقاً، كتب فاروفاكيس كتابه الخاص بمختصر تاريخ الرأسمالية على شكل إجابة مطوّلة لتساؤل ابنته، ويبدو أنّ هذه المقاربة السردية قد استأنس لها (وأظنّ أن كثرة من القرّاء شاركوه هذا الاستئناس وأنا منهم)؛ لذا عمد إلى توصيف عصر الإقطاعية التقنية الحالية بهيئة رسالة مطوّلة كتبها إلى أبيه المتوفّى، جواباً عن سؤال كان أبوه قد طرحه عليه عام 1993. بعد مقدّمة مكثفة يأتي متن الكتاب في سبعة فصول، يشرح فاروفاكيس في الفصلين الأوّلين منها التاريخ الكلاسيكي للرأسمالية (تحوّلات الرأسمالية على وجه التحديد)، ثمّ يتناول في الفصل الثالث مفهوم رأس المال السحابي، ثمّ يعقبه في الفصل الرابع نشأة وصعود سطوة السحابيين (The Cloudists)، وخفوت مفهوم الربح الكلاسيكي، ثمّ يتناول في الفصلين الخامس والسادس التأثير العالمي المتعاظم للإقطاعيات التقنية ودورها في الحرب الباردة الجديدة، ثم يخصص الفصل الأخير (السابع) للحديث عن الوسائل المناسبة للهرب من سطوة الإقطاعيين الرقميين. يرفد فاروفاكيس كتابه بملحقات ثلاثة تثري الموضوع الرئيسي للكتاب بإضاءات إضافية.

أهمّ ما نتعلّمه من أطروحة فاروفاكيس هو أنّ النظم الاقتصادية العالمية ما عادت صناعة آيديولوجية خالصة، بل إنّ التقنيات صارت هي العنصر الحاسم في تشكيلها

لن أخفي إعجابي بكتابات فاروفاكيس، وأظنّه يستحقّ هذا الإعجاب، خاصة أنّه يقدّمُ الموضوعات الاقتصادية في سياق تاريخي - اجتماعي - سياسي مركّب، وليس كتلةً معلوماتية/تقنية صلدة، لكنّ هذا الإعجاب ينبغي ألا يتحوّل إلى قناعة راسخة بكلّ أطروحات فاروفاكيس. نحن في النهاية نقرأ ونتساءل ونستكشف ونقارن ونتعلّم. كثيرون يرون أنّ فاروفاكيس يكتب من واقع تجربته المرّة مع الاتحاد الأوروبي الذي يرى أنه سعى لإذلال اليونان ودفعها لتطبيق شروط تقشف صارمة، وآخرون يرون أنّ فاروفاكيس يظل تلميذاً مخلصاً لنزوعه السياسي الماركسي الملطّف بنكهة عقلانية عملية، لكن القارئ الحيادي سيتعلّم كثيراً من أطروحات فاروفاكيس. هي في النهاية ليست آيديولوجيا ملزمة لأحد منّا. أهمّ ما نتعلّمه من أطروحة فاروفاكيس هو أنّ النظم الاقتصادية العالمية ما عادت صناعة آيديولوجية خالصة، بل إنّ التقنيات صارت هي العنصر الحاسم في تشكيلها. هذا ما يجب أن ننتبه إليه في عالمنا العربي بخاصة.

 

الإقطاعية التقنية: ما الذي قتل الرأسمالية؟

(TechnoFeudalism: What Killed Capitalism).

تأليف: يانيس فاروفاكيس Yanis Varoufakis

دار النشر: بودلي هيد

Bodley Head

2023.


مقالات ذات صلة

كُتب المؤثرين بين الرواج وغياب الشرعية الأدبية

كتب كُتب المؤثرين بين الرواج وغياب الشرعية الأدبية

كُتب المؤثرين بين الرواج وغياب الشرعية الأدبية

صانع محتوى شاب يحتل بروايته الجديدة قائمة الكتب الأكثر مبيعاً في فرنسا، الخبر شغل مساحات واسعة من وسائل الإعلام

أنيسة مخالدي (باريس)
كتب «حكايات من العراق القديم» و«ملوك الوركاء الثلاثة»

«حكايات من العراق القديم» و«ملوك الوركاء الثلاثة»

صدر عن دار «السرد» ببغداد كتابان مترجمان عن الإنجليزية للباحثة والحكواتية الإنجليزية فران هزلتون.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
كتب كتاب جديد يكشف خبايا حملة نابليون على مصر

كتاب جديد يكشف خبايا حملة نابليون على مصر

يتناول كتاب «حكايات في تاريخ مصر الحديث» الصادر في القاهرة عن دار «الشروق» للباحث الأكاديمي، الدكتور أحمد عبد ربه، بعض الفصول والمحطات من تاريخ مصر الحديث

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
يوميات الشرق «جدة تقرأ» عنوان معرض الكتاب 2024 (المركز الإعلامي)

الكتاب الورقي ينتصر على الأجهزة الرقمية في معرض جدة

في ظل التطور التقني والاعتماد المتزايد على الكتب الإلكترونية، حسم زوار معرض جدة للكتاب 2024 الجدل لصالح الكتاب الورقي

أسماء الغابري (جدة)
يوميات الشرق دور النشر شهدت إقبالاً كبيراً من الزوار من مختلف الأعمار (هيئة الأدب والنشر والترجمة)

«جدة للكتاب»... مزيج غني بالمعرفة والإبداع بأحدث الإصدارات الأدبية

يعايش الزائر لـ«معرض جدة للكتاب 2024» مزيجاً غنياً من المعرفة والإبداع يستكشف عبره أحدث الإصدارات الأدبية، ويشهد العديد من الندوات وورش العمل والجلسات الحوارية.

إبراهيم القرشي (جدة)

فهم العالم... المسعى الذي لا ينتهي

إيمانويل كانط
إيمانويل كانط
TT

فهم العالم... المسعى الذي لا ينتهي

إيمانويل كانط
إيمانويل كانط

ما حدودُ قدرتنا المتاحة والممكنة على فهم العالم؟ هل أنّ أحلامنا ببلوغ معرفة كاملة للواقع تُعد واقعية أم أن هناك حدوداً قصوى نهائية لما يمكننا بلوغه؟ يتخيّل مؤلّف كتاب منشور أواخر عام 2023 لقاءً جمع ثلاثة عقول عظيمة: الكاتب الأرجنتيني خورخي لويس بورخس، والفيزيائي الألماني فيرنر هايزنبرغ والفيلسوف الألماني إيمانويل كانط. مؤلّف الكتاب هو الدكتور ويليام إيغنتون أستاذ العلوم الإنسانية ومدير معهد ألكساندر غراس للإنسانيات في جامعة جونز هوبكنز. كتابه الأخير المشارُ إليه، صدر عن دار نشر «بانثيون» في 368 صفحة، بعنوان «صرامة الملائكة: بورخس، هايزنبرغ، كانْط، والطبيعة النهائية للواقع».

هذا الكتابُ نتاجُ عقود عدّة من القراءة والتدريس والتفكير في التداخلات المثيرة بين الأدب والفلسفة والفيزياء. يؤكّدُ المؤلّفُ أنّ نطاق تفكيره بهذه التداخلات شمل عدداً أكبر بكثير من الكّتّاب والمفكّرين غير هؤلاء الثلاثة؛ لذا يوضّحُ قائلاً: «عندما نضج الوقت لتحويل المشروع إلى كتاب ارتسمت أمامي، بقوّة طاغية لم يكن مفرٌّ من مواجهتها، أسئلة على شاكلة: كيف يتوجب علي تنظيم الكتاب؟ ومن هم أفضل الشخصيات التي يمكن عدّها تمثلاتٍ صالحة للكشف عن التداخلات بين الأدب والفلسفة والفيزياء؟ والأهمّ من هذا: كم عدد الشخصيات التي يمكن تناولها في الكتاب؟

خورخي لويس بورخس

كان طموحي المبكّر عند التفكير في تصميم هيكلة الكتاب أكثر اتساعاً مما انتهى إليه الشكل النهائي للكتاب. أغوتْني فكرة سرد حكايات عن شخوصٍ محدّدين بغية استخلاص رؤاهم من وراء تلك الحكايات؛ لكن في بداية الأمر واجهتني معضلة وجود عدد كبير من الحكايات التي يتوجب علي سردُها. خطّطتُ في بداية الأمر لتأليف كتاب يحوي إثني عشر فصلاً، مع شخصية مركزية مختلفة في كلّ فصل منها؛ أي بمعنى أنّ الكتاب سيحوي اثنتي عشرة شخصية. شعرتُ بعد تفكّر طويل أنّ الكتاب سيكون نتفاً مشتّتة تغيب معها الفكرة الأساسية التي أسعى إليها. حتى لو ظلّ يدور في مدار المشروع الفكري الذي يجولُ بعقلي. بعد ذلك استطعت السيطرة على ذلك التشتّت وكبح مفاعيله إلى حدّ ربّما يجوز لي القول معه إنّني ضيّقتُ على العدد كثيراً عندما جعلته ثلاثة وحسب. وضوحُ الفكرة أفضل من كثرة الشخصيات: هذا ما انتهيتُ إليه من قناعة».

الفكرة الأساسية التي ارتسمت أمام المؤلف طيلة حياته، وأظنّ أن كثيرين منا لهم شغف عظيم بها حتى لو لم يكونوا فلاسفة مكرّسين، هي: الكشف عن الكيفية التي يستطيع بها التفكير العميق في معضلة ما أن يقود إلى رؤى عميقة بصرف النظر عن النطاق المعرفي الخاص بالباحث. بعبارة أخرى أكثر تقنية: يمكن للمقاربات (الناعمة Soft) المعتمدة في الإنسانيات أن تقدّم استنارة عظمى للمقاربات العلمية (الصارمة Hard)، والعكس صحيح أيضاً.

في المقاربات الثلاث التي اعتمدها المؤلّف في كتابه أظنّه قدّم شاهدة تطبيقية على جوهر الفكرة الأساسية أعلاه: قراءة بورخس، وتوظيفُ بعض ما استخدمه (كانط) للتفكّر ومساءلة معضلات طرحها بورخس قادت المؤلّف على مدى سنوات عديدة إلى بلوغ فهم أعمق لما اكتشفه هايزنبرغ. يؤكّد المؤلّف في هذا الشأن: «أعتقد بقناعة مؤكّدة أنّ فهمي لإنجازات هايزنبرغ كان أفضل بعد اطلاعي على أعمال بورخس وكانْط، وما كانت لتبلغ هذا المبلغ من الفهم لو اكتفيتُ بقراءة ما كتبه هايزنبرغ ذاته بشأن منجزاته الثورية!!».

فيرنر هايزنبرغ

يبدو للقارئ المتفحّص والشغوف بالمساءلات الفلسفية أن الموضوعة الأساسية في الكتاب والتي تقود كلّ الفعالية السردية فيه هي الصراع الجوهري بين رغبتنا في المعرفة والتوق لبلوغ نوع من الإجابة «النهائية» عن أعمق أسئلتنا بشأن الوجود من جانب، واستحالة بلوغ مثل هذه الإجابات قطعياً من جانب آخر. يصرّحُ المؤلّفُ بإمكانية تلمّسِ بعض العزاء في محض محاولة بلوغ هذه الإجابات حتى مع معرفتنا المسبّقة بأننا كائنات مقدّرٌ لها مواجهة نهاية وجودية مغلقة والبقاء في متاهة الأسئلة الوجودية التي لا إجابات نهائية لها. يشيرُ المؤلّف بهذا الشأن وفيما قد يبدو مفارقة مثيرة، أنّ ما نفترض فيه أن يكون الأقل حساً شعرياً بين الثلاثة (أعني هايزنبرغ) هو الذي عبّر عن هذه المعضلة بكيفية أكثر كثافة وقوّة مفاهيمية من الاثنيْن الآخرين!!. كتب هايزنبرغ في مخطوطة له عام 1942 يقول: «قدرة البشر على الفهم لا حدود لها؛ أما (الأشياء النهائية Ultimate Things) فلا نستطيع الحديث عنها». يؤكّدُ المؤلّفُ أنّ هايزنبرغ كان يقصدُ بملحوظته هذه شيئاً ما حول ما اعتبره محدّداتٍ (داخلية) أو (جوهرية) للمعرفة البشرية. سعيُنا إلى المعرفة لا يمكن أن ينتهي لمجرّد معرفتنا بوجود هذه الحدود الجوهرية لما يمكننا معرفته. إنّ معرفة العالم على نحو كامل وتام تعني القدرة على بلوغ تلك (الأشياء النهائية) التي عناها هايزنبرغ، وهذا يستلزم الوقوف خارج إطار الزمان والمكان (أي خارج كلّ حدود الوجود البشري) بطريقة مماثلة لما تصوّره القدّيس أوغسطين والأفلاطونيون الجُدُد عن الرب باعتباره قادراً على استيعاب وحدة الوجود في كليته وخلوده. من الواضح أنّ مثل هذا التوصيف للمعرفة لا يتوافق أبداً مع أي شيء يمكننا توصيفه على أنّه معرفة بشرية. الخواص المطلقة والنهائية لا تتفق مع أي معرفة بشرية. نحن عاجزون عن بلوغ المعرفة المطلقة لا لنقص أو عيب فينا، بل لأنّ هذا العجز واحد من المظاهر الحتمية المرافقة للوجود البشري.

من المفارقات المدهشة والباعثة على التفكّر أننا نميل ككائنات بشرية، وبرغم اقتران وجودنا البشري بعدم القدرة على بلوغ الإجابات النهائية، إلى التأكّد واليقين في كلّ ما نفعله وما نتخذه من خيارات في الحياة. يؤكّدُ المؤلف أنّ هذه اليقينية أمر سيئ، وفضلاً عن سوئها فهي ليست توقّعاً واقعياً أو مرغوباً فيه. اللايقين هو الأمر الحسن؛ لأن سعينا لليقين يقود إلى الغطرسة، ومحدودية الأفق والرؤية، وإغلاق مسالك جديدة للتفكير. العلم نشاط يختص بالملاحظة والتجريب وبلوغ تفسيرات مؤقتة، وهذه التفسيرات تخضعُ لتدقيق الجماعات العلمية، وإذا دُعِمت بالأدلة فإنها تُقبلُ بوصفها أفضل تفسير لدينا حتى الآن. لكنّما العلمُ لا يرتقي في مسلكه الحثيث متى ما قلنا إنّ اللعبة انتهت وبلغ العلم حدوده النهائية: الحقيقة المطلقة.

الفكرة الأساسية التي ارتسمت أمام المؤلف هي: الكشف عن الكيفية التي يستطيع بها التفكير العميق في معضلة ما أن يقود إلى رؤى عميقة بصرف النظر عن النطاق المعرفي الخاص بالباحث

لو طُلِبَ إلى إبداءُ رأيي الشخصي في انتقاء المؤلّف لمقارباته واختياره للشخوص الممثلين لهذه المقاربات الثلاث فسأقول: مقاربة المؤلّف للواقع من بوابات الأدب والفيزياء والفلسفة هي مقاربة رائعة ومتفقة تماماً مع روح العصر الذي نعيش، ونحتاجُ تأكيداً لمثل هذه المقاربات التي تعمل على تمتين الجسور الرابطة بين الحقول المعرفية باعتبارها أنساقاً معرفية مشتبكة وليست جسوراً متناثرة. أما اختيار المؤلّف للشخوص الممثّلة لكلّ مقاربة فكان خيارُ بورخيس موفقاً للغاية. بورخيس هو الأكثر تمثيلاً للفكر الفلسفي وملاعبة الواقع بألعابه التي اتخذت تمظهرات ميتافيزيقية بدت عسيرة على القراءة والفهم أحياناً؛ لكنّه بقي البارع دوماً في طرق مفاهيم الزمان والخلود والأبدية وأشكال الواقع المخادعة، وأظنه كان فيلسوفاً بمثل ما كان مشتغلاً ماهراً بالأدب، ولو قرأنا أعماله الفلسفية الخالصة مثل (تفنيد جديد للزمن) لشهدنا مصداقية شغفه الفلسفي. يبدو بورخس أوّلَ من ابتدع في مقالته الفلسفية تلك بدائل للزمن الخطي Linear Time، كما قدم إضاءات كاشفة لمفهوم الزمن الدوري Cyclic Time الذي له تمثلات عدّة في الثقافات القديمة وفي العديد من الأدبيات التي لطالما أشار إليها بورخس فيما كتب. لاحظوا معي النبرة الفلسفية القوية التي يكتب بها بورخس في هذه الفقرة المستلّة من مقالته: «أنكر هيوم وجود فضاء مطلق يحدث فيه كل شيء (نعيشه). أنا أنكر كذلك وجود زمن واحد تتعاقب فيه الوقائع. إنكارُ التعايش ليس أقلّ مشقة من إنكار التعاقب».

الأمرُ ذاته يسري على كانط، الفيلسوف الأكثر تمثيلاً لعصر التنوير بنتاجاته التأسيسية العظيمة التي جعلت منه مثابة عليا في الفكر البشري. ربما الاختلاف هو بشأن هايزنبرغ. لن نختلف بالتأكيد حول الجهد الفلسفي الهائل الذي عرضه هايزنبرغ في كتاباته، وليس هذا بالأمر النادر أو المثير للدهشة؛ إذ كلُّ الفيزيائيين الكبار هم بالضرورة فلاسفة عظام باستثناءات قليلة (مثل هوكنغ). يكفي مثلاً أن نقرأ مؤلفات هايزنبرغ التي ترد فيها مفردة (الفلسفة) في عناوينها؛ لكنّي - وكذائقة شخصية - أظنّ أنّ «إرفن شرودنغر» هو الأكثر تمثيلاً بين فيزيائيي القرن العشرين للإسقاطات الفلسفية على الفكر العلمي والمسعى البشري الحثيث نحو فهم الواقع.

سيكون جهداً طيباً أن نتذوّق بعض جمال صرامة هؤلاء المفكّرين، وهي صرامة نابعة من عقول جميلة، وليست بصرامة لاعبي الشطرنج كما أورد بورخيس في واحدة من ملاحظاته المثيرة.