«باب الدروازة» توازن بين نمو شخصية البطل وصعود نجم صدام حسين

علي لفتة سعيد في رواية عن وضع سياسي متفجّر نهاية السبعينات

«باب الدروازة» توازن بين نمو شخصية البطل وصعود نجم صدام حسين
TT

«باب الدروازة» توازن بين نمو شخصية البطل وصعود نجم صدام حسين

«باب الدروازة» توازن بين نمو شخصية البطل وصعود نجم صدام حسين

رواية «باب الدروازة» للروائي علي لفتة سعيد هي سيرة روائية أو رواية سيرية لاكتشاف الذات والعالم، ولبناء وعي شخصية روائية تواجه الحياة بحذر وخوف وتردّد. فبطل الرواية وراويها المركزي «خلاوي» يقدم لنا ما يشبه السيرة الذاتية «الأوتو بيوغرافية» عن حياته وتجربة انتقاله مكانياً من بلدةٍ صغيرة وبسيطة ذات طابع ريفي، هي سوق الشيوخ في محافظة ذي قار، إلى مدينة كبيرة ومعقدة، هي بغداد. ويقدم لنا الراوي سرده على شكل مونولوجات داخلية، أو لحظات استرجاع الذاكرة، فضلاً عن بعض المدونات والمخطوطات التي كان يدونها في دفتره الصغير، الذي يكشف عن منحى ميتا سردي واضح، كما سنأتي على ذلك لاحقاً.

والرواية هي أيضاً كشف لصدمة التعرّف والانبهار بالعالم الجديد لبطل الرواية، الذي لم يكن قد اجتاز سنته الـ16 بعد، ولذا بدت له الأشياء والمرئيات والأماكن وكأنها تولد للمرة الأولى. فكلّ شيء يثير دهشته واستغرابه. فالسيارة الكبيرة الحمراء ذات الطابقين أفزعته، كما أن كثيراً من الناس والغرباء كانوا يبدون له مثل كلاب تريد أن تنهش لحمه. ولذا بدت له مدينة بغداد، وبشكل خاص حي «الدروازة» في مدينة الكاظمية ببغداد مثل عالم متوحّش يريد ابتلاعه.

وتتزامن تجربة تعرّف بطل الرواية على العالم الجديد بوضع سياسي متفجّر، ومعرّض للانفجار في أيّ لحظة. فعام 1978 في العراق، الذي وطئت قدماه مدينة بغداد، هو العام الذي شهد صعود نجم الديكتاتور صدام حسين، الذي كان حضوره يمثل كابوساً مخيفاً لمعظم الشخصيات الروائية، وبشكل خاص «سعيد» زوج خالته وصديقه «هادي» بائع السبح، خاصة اقتران هذا الصعود بانتصار الثورة الإيرانية وبزوغ نجم آية الله خميني، وتأثيره على المجتمع العراقي. ولذا فقد كان الناس يتوقّعون أن تشتعل الحرب بين الطرفين في أي لحظة، وكانت شخصية البطل تنمو داخل هذا الفضاء المطلق، الذي يؤشّر أفق توقّع أسود ودموي للبلاد. وما كان يقلق البطل وشقيقه الأكبر «سليم»، طالب الدكتوراه في كلية الإدارة والاقتصاد، احتمال دعوة مواليد «خلاوي»عند اندلاع الحرب، لأنه سيكمل الثامنة عشرة من عمره آنذاك، ما يجعله مؤهّلاً للالتحاق بخدمة العلم، وهو ما حدث فعلاً في نهاية الرواية، وقطع الطريق على أحلام البطل، وخطّته لإكمال دراسته في إعدادية الكاظمية، حالما يحصل شقيقه الأكبر على شهادة الدكتوراه. ولذا يمكن أن نلاحظ وجود توازنٍ بين نمو شخصية البطل من جهة، وصعود نجم الديكتاتور صدام حسين، الذي كان «سعيد» زوج خالته يقارنه بالإله الجديد الذي سوف يتسيّد المشهد السياسي بسرعة، ويمارس أبشع أساليب العنف ضد الناس. فالعالم الخارجي المتفجّر سياسياً كان يتحكّم إلى درجةٍ كبيرةٍ بعملية تشكّل شخصية البطل واصطدامه بالواقع الجديد.

فهناك إشارات كثيرة عن مراحل سيطرة صدام حسين التدريجية على الدولة، وكان «سعيد» زوج خالة «خلاوي»، وهو صاحب محل بيع الثلج الذي يعمل «خلاوي» عنده عاملاً، يقوم بإيصال طلبات الزبائن إلى بيوتهم. وكان «سعيد» كثير الكلام الموجّه ضدّ الحكومة، ويحذّر من التغيّرات التي ستحصل، والتغيّرات التي حصلت في إيران. ويصرخ ويقول؛ انتبهوا إلى الآلهة الجدد (ص 95) كما كان «سعيد» يحذر الناس من الخطر القادم:

- «أيها الناس احذروا ما سيأتي، فلا تصمتوا، فقد صمتنا وحولونا إلى مجانين». (ص 99)

وفي إشارة إلى صعود صدام حسين، قال سعيد: «سنرى الموت، سنحترق شرقاً وغرباً ومن الوسط». (ص 110).

وجسّدت الرواية حالة التوتر والقلق لدى الناس، خاصة بعد أن قام صدام حسين بإعدام أعضاء قيادة حزبه، في ما سمي بمجزرة قاعة الخلد، وتنظيم مظاهرات تأييد للحكومة، كان «خلاوي» يسمع بكلمات لم يتابعها؛ قاعة الخلد... تطهير الأعضاء... إعدامهم لأنهم خونة... (ص 113)، كما اندهش «خلاوي» لأنه صار يرى صورة الرئيس الجديد، وقد ملأت الشوارع (ص 115). وقال سعيد مؤكداً: «إن الآلهة عادوا، آلهة الحرب بدأت بطرق طبولها». (ص 116). وحاول «هادي» بائع السبح أن يوضح صورة التغيير السياسي في العراق السعيد، في إشارة إلى هيمنة صدام حسين على السلطة:

- «الزمن تغيّر، لم يعد أحمد حسن البكر في السلطة، وأنت ترى منذ فترة التغيرات كبيرة، نحن الآن في تموز 1979» (ص 156).

- وفي إشاره إلى تسلّط صدام حسين، قال سعيد:

«الآلهة الموزعون على خرائط العراق، سينتحرون، وسيكون هناك إله واحد» (ص 158).

أما من الناحية السردية في الرواية، فنلاحظ هيمنة السرد المونولوجي الداخلي، وهو سرد فني مبأّر، على بنية الرواية السردية، منذ استهلالها:

«كان ذلك في صيف عام 1978 حين وطئت قدماه أرض العاصمة بغداد. كان وقتها فرحاً سعيداً، عامراً بالبهجة، كأنه تخلّص من التصاق تجمعات الحزن في قلبه وعلى جسده» (ص 5).

لكننا نفاجأ أحياناً بتدخّل المؤلّف، وتوظيف لون من السرد الكلّي العلم، الذي يضعف وحدة السرد المونولوجي الفنية المبأّرة، كما نجد ذلك في هذا المقطع الذي يخاطب فيه المؤلف القراء:

«أعلم أنكم قد تقولون، معقولة أن هذا الشاب الذي لم يبلغ سنته الثامنة عشرة، له كل هذه القدرة على التفكير» (ص 117).

وكما نجد زيادة في كلمة هنا أوهناك، تحيل إلى السرد الكلّي العام، كما الحال في كلمة طبعاً:

«طبعاً، خلاوي لم يفهم شيئاً» (ص 38)، كما نجد ذلك في هذا النص الذي يحيلنا إلى السرد الكلي العلم، لأنها تحيلنا إلى وعي المؤلف المنطقي، كما تحيلنا إلى القارئ:

«الحقيقة التي يجب ذكرها أن أم صلاح لم تكن مرتاحة لفتحية» (ص 61).

ولكن هذه الهفوات لم تؤثّر كثيراً على المستوى الفني للسرد المبأّر.

كما تمتلك الرواية من الجانب الآخر مظاهر ميتا سردية واضحة، تتمثّل في قيام البطل «خلاوي» بتدوين مذكّراته في دفتر صغير، وقد كتب في دفتره لاحقاً: «كن كما تريد، ولا تجعل عقلك يتجه نحو غاية واحدة» (ص 214).

ويتعزّز المنحى الميتا سردي في نهاية الرواية عندما يقرّر «سعيد» إهداء مكتبته إلى «خلاوي»، في إشارة إلى أنه قد يعتقل، أو يضطر إلى الاختفاء أو الهجرة، كما ترك له صندوقاً ينطوي على مخطوطاتٍ ومذكراتٍ مهمة:

«في هذا الصندوق ثمة أوراق هي عبارة عن مذكرات أعوام سجني، أعوام من العذاب» (ص 237).

وأخبره بوجود 3 دفاتر كبيرة تغطّي تاريخ العراق من عام 1958 حتى عام 1975، وهو عام خروجه من سجن «أبو غريب»، وطلب منه أن ينشر هذه المذكّرات على شكل كتاب.

وتكمن أهمية هذه المخطوطات في أنها قد تكون جزءاً من المتن الروائي الحالي، وأعني به رواية «باب الدروازة»، ما يجعل الرواية بكاملها تحت باب المخطوطة المضمنة داخل متن سردي أوسع هو متن الرواية الراهنة.

وإذا ما كان «سعيد» زوج خالته ملتزماً ومنتمياً إلى أحد الأحزاب السياسية اليسارية، ومثله بائع السبح «هادي»، فإن «خلاوي» كان نموذجاً للامنتمي الذي يجد نفسه ضائعاً تتلاقفه الأمواج في طوفان السياسة والكتب والأفكار، لكنه كان يحاول أن يشقّ طريقه بحذرٍ وتروٍ، وهو يتأمّل هذه التناقضات في الأفكار والمواقع والممارسات، وربما كانت نقطة التحوّل في شخصيته النامية تتمثّل في انتقاله من بلدته الريفية «سوق الشيوخ» إلى مدينةٍ عملاقةٍ ومعقّدةٍ ومثيرةٍ، هي بغداد، وموقف اللامنتمي ساعد على تقديم رؤيةٍ موضوعيةٍ وبريئةٍ للأحداث وللصراعات الفكرية والسياسية.

كان فرحه كبيراً عندما وطئت قدماه مدينة بغداد لأول مرة عام 1978، وبدأ التراكم المعرفي لديه من خلال المشاهدة والمراقبة والتأمّل فقط، ولم يكن قد تعوّد على قراءة الكتب بعد، لكنه كان يلتقط ما يقوله الناس، وما يقوله شقيقه الأكبر «سليم» طالب الدكتوراه، و«سعيد» زوج خالته، و«حسن» الطالب في كلية الفنون الجميلة:

«في غرفة حسن وحسين تفتحت قريحته لمعرفة أهمية الفن في الحياة... ومرّة شاهد لوحة امرأة ساكنة، أخبره (حسن) أن هذه المرأة اسمها الموناليزا، والذي رسمها وعشقها اسمه دافنشي» (ص 37).

وهكذا راحت أفكار «خلاوي» تتغيّر تدريجياً:

«لم يكن أحد بإمكانه إدراك ما يعانيه خلاوي خلال هذا العام الذي امتد طويلاً، فكلّ شيءٍ تغيّر فيه حتى أفكاره» (ص 90).

وخلال هذا التطوّر، صار عقل «خلاوي» أكثر وعياً وقدرةً على استقبال الأفكار (ص 97)، وأدرك أن عليه التحوّل لرؤية الأشياء، مثلما يراها زوج الخالة من الأعلى، وليس كما يراها هو من الأسفل (ص 157)، كما أدرك أنه يمضي شهوره مستمعاً فقط للآخرين، لذا فأفضل طريقة لتجريب الذات، وتخليصها من لزوجة الصمت هي الحديث (ص 175). ويمكن القول إن العالم الخارجي الجديد راح يعيد صياغة شخصية البطل:

«وجد نفسه في لحظة تماهٍ، يقول مع نفسه إن المكوث في بغداد يختلف عن أيّ منطقةٍ أخرى، إنها تعني ملاحقة تفتّح العقول على معطيات جديدة» (ص 208).

ومن خلال عملية النمو التدريجي لتطوّر الوعي عند البطل «خلاوي»، وطلبه من «سعيد» السماح له بقراءة كتبه، ندرك أن خلاوي مقبلٌ على تحوّلٍ جذري أعمق، ربما تكون فيه صورة جديدة، تدمج بين شخصيات «سعيد» زوج خالته و«سليم» شقيقه و«حسن» طالب الفن في أكاديمية الفنون الجميلة، وأنه سينتقل تدريجياً من شخصية اللامنتمي إلى شخصية المنتمي، خاصة بعد أن أهداه «سعيد» المكتبة والمخطوطات، وكأنه يسلّمه راية نضالية، يجب أن يحتفظ بها ويحميها في المستقبل. ومعنى هذا أن النضال سيتواصل ضدّ أشكال العنف والاستبداد، من خلال تكامل شخصية بطل الرواية «خلاوي»، وهي إشارة متفائلة لمستقبل النضال الاجتماعي من أجل تحقيق العدالة والحرية، خاصة أن «خلاوي» سيقوم بكتابة رواية عن حياة «سعيد» ونضاله، بتوظيف الدفاتر الثلاثة.

*ناقد عراقي



كل الحروب سياسية... والاستراتيجية الرديئة تزيدها سوءاً

الحرب الكورية
الحرب الكورية
TT

كل الحروب سياسية... والاستراتيجية الرديئة تزيدها سوءاً

الحرب الكورية
الحرب الكورية

اشتهر كارل فون كلاوزفيتز، كبير فلاسفة الحرب في الغرب، بملاحظته أن الحرب امتداد للسياسة، كما أشار إلى نقطة ثانية، وهي أن الحرب تابعة للسياسة، ومن ثم فهي تتشكّل من خلالها، مما يجعل «تأثيرها ملموساً حتى في أصغر التفاصيل العملياتية».

نحن نرى هذا اليوم في الشرق الأوسط، حيث قد تسترشد محاولات إنقاذ الرهائن الفتاكة، والاغتيالات الكبرى، كتلك التي أودت بحياة حسن نصر الله زعيم «حزب الله»، بنقاط سياسية بقدر ما تسترشد بالرغبة في إنهاء الحرب بأسرع وقت ممكن. وعلى الجانب الآخر من المعادلة، يبدو أن أحدث سرب من الصواريخ الباليستية الإيرانية، التي انفجر معظمها من دون ضرر فوق إسرائيل، كان عملاً من أعمال المسرح السياسي الذي يهدف في المقام الأول إلى رفع المعنويات على الجبهة الداخلية.

من المفيد لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، وآية الله علي خامنئي من إيران، ناهيكم عن الرئيس الأميركي المقبل، أن يقرأوا كتاب جفري فافرو «حرب فيتنام: تاريخ عسكري» (652 صفحة، دار «بيسك بوكس» للنشر).

إنه يُلقي أفضل نظرة عامة على المغامرة الأميركية في جنوب شرقي آسيا، ومن المؤكد أنه سوف يصبح كتاباً معيارياً عن تلك الحرب، وبينما نتابع المعاناة الجارية في الشرق الأوسط، فإن هذا الكتاب يقدّم لنا أيضاً دروساً قوية بشأن المخاطر المترتبة على شن حرب مفتوحة من دون إستراتيجية حقيقية.

تركّز أغلب كتب التاريخ عن حرب فيتنام على الدبلوماسية والسياسة في الصراع، بالعودة إلى العمليات العسكرية للأحداث الرئيسية فقط، مثل هجوم «تيت» ومعركة مدينة «هوي»؛ إذ يتبع واورو، المؤرخ في جامعة نورث تكساس، نهجاً أكثر تنويراً.

ووفقاً لرأي فافرو، كان التدخل الأميركي في فيتنام بمثابة درس كبير في كيفية تجنّب شنّ الحرب، وقد أدى الاعتقاد الطائش في فاعلية القوة النارية المحضة، إلى حملات القصف الأميركية المدمِّرة التي كما يقول واورو: «أدّت إلى إحراق سُبع أراضي جنوب فيتنام» و«خلقت خمسة ملايين لاجئ داخلي»، على أمل دفع قوات «فيت كونغ» الفيتنامية إلى العراء، ورفض الخصم الشيوعي القتال بهذه الطريقة، بل كانوا يشتبكون سريعاً، ثم ينسحبون عندما يردّ الأميركيون بوابل عنيف من نيران المدفعية والغارات الجوية. في الأثناء ذاتها، كلما حاول الرئيس ليندون جونسون - الذي لم يدرس مبادئ كلاوزفيتز - فصل الحرب عن السياسة، بالكذب بشأن تكاليفها ورفض تعبئة الاحتياطي العسكري؛ صارت الحرب أكثر سياسية، وهيمنت على الخطاب الأميركي، ثم عصفت به خارج الرئاسة.

لم يكن أداء أميركا أفضل مع الهجمات المستهدفة، وكما هو الحال مع أجهزة البيجر المتفجرة التي استخدمتها إسرائيل، فإن برنامج «فينكس» من إعداد وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية لاغتيال أعضاء «فيت كونغ» قد «ركّز على (القبض أو القتل)»، كما كتب واورو، وأدى إلى سقوط ضحايا أبرياء، كما أنه لم يؤدِّ إلى الاقتراب من نهاية الحرب؛ لأن البرنامج بأكمله كان مبنياً على «أرقام ملفقة»، كما يوضح المؤلف، «وليس على الواقع الحقيقي»، وكان البرنامج عبارة عن طريقة أخرى لقتل الناس من دون فهم الحرب.

جعلتني قراءة التاريخ الرائع الذي كتبه فافرو أفكّر في نتيجة لازمة جديدة لنظريات كلاوزفيتز: كلما كانت الاستراتيجية أقل تماسكاً في الحرب، أصبحت أكثر تسييساً، دخلت الولايات المتحدة الحرب لأسباب سياسية ودبلوماسية غامضة (الظهور بمظهر الصرامة أمام خصوم الحرب الباردة ليس نهاية المطاف). بعد عقدين من الزمان كان الغزو القصير والفوضوي لجنوب «لاوس» من قِبل القوات البرّية الفيتنامية الجنوبية والقوة الجوية الأميركية بمثابة «مسرحية سياسية، وليس حرباً»، ومع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية عام 1972، لم تكن هناك نهاية في الأفق، وكان الدافع وراء الهجوم هو رغبة الرئيس ريتشارد نيكسون في جعل الأمر يبدو وكأن فيتنام الجنوبية تتولّى زمام الأمور في القتال، وبدلاً من ذلك، زاد من زعزعة استقرار المنطقة، ولم يفعل شيئاً يُذكر لقطع خطوط إمداد العدو.

لحسن الحظ، خلال الحرب العالمية الثانية استخدمت الولايات المتحدة السياسة لخدمة المجهود الحربي بدلاً من العكس، وإن لم يكن الجميع يرَون الأمر على هذا النحو. في كتاب «أميركا أولاً: روزفلت ضد ليندبيرغ في ظل الحرب» (444 صفحة، دار «دوبلداي للنشر»)، يُصوّر إتش دبليو براندز، نجم الطيران الشهير تشارلز ليندبيرغ، الذي تحدث عن النزعة الانعزالية في البث الإذاعي الوطني، بوصفها أمراً ساذجاً، ولكن صادقاً، في حين يُصوّر الرئيس فرانكلين روزفلت بأنه مخادع بشكل ملحوظ في جهوده لدفع الولايات المتحدة إلى الحرب.

لكن في الواقع، كان فرانكلين روزفلت هدفاً كبيراً لهذه التهمة؛ إذ تعهد الرئيس أثناء حملته الانتخابية للفوز بولاية ثالثة غير مسبوقة، قائلاً: «لن يُرسَل أبناؤكم إلى أي حروب خارجية»، وكان جيمس، نجل روزفلت، يتساءل عن سبب اتخاذ والده هذا الموقف، فقال والده موضحاً: «جيمي، كنت أعلم أننا ذاهبون إلى الحرب، كنت متأكداً من أنه لا يوجد مخرج من ذلك، كان لزاماً أن أثقّف الناس بشأن الحتمية تدريجياً، خطوة بخطوة»، ربما يكون هذا مخادِعاً، لكن هذه السياسة ساعدت الأميركيين على المشاركة في المجهود الحربي، كان كلاوزفيتز ليفخر بذلك.

في الوقت نفسه، عندما يرفض ليندبيرغ الدعوة إلى هزيمة ألمانيا في أواخر يناير (كانون الثاني) 1941، يُعيد إلى الأذهان رفض دونالد ترمب دعم المعركة الأوكرانية ضد العدوان الروسي، ويلاحظ براندز، وهو مؤرخ في جامعة تكساس فرع أوستن، ليونةَ ليندبيرغ إزاء ألمانيا النازية، ولكن - في رسم صورة متعاطفة للرجل - يستبعد عديداً من التفاصيل التي تظهر في كتب أخرى، مثل السيرة الذاتية تأليف «إيه سكوت بيرغ»، الفائزة بجائزة بوليتزر لعام 1998.

لا يذكر براندز، على سبيل المثال، أن ليندبيرغ رفض في مايو (أيار) 1940 الحديث عن مخاطر انتصار النازية، بوصفه «ثرثرة هستيرية»، أو أنه، في العام نفسه، ألّفت زوجة الطيار آن مورو ليندبيرغ كتاب «موجة المستقبل»، وفيه جادلت بأن العهد الجديد ينتمي إلى أنظمة استبدادية، وكان ذلك الرجل يحمل مثل هذه الولاءات المُرِيبة حتى بعد بيرل هاربر، كما قال ليندبيرغ (في تصريحات أغفلها براندز أيضاً): «إن بريطانيا هي السبب الحقيقي وراء كل المتاعب في العالم اليوم».

إن مثل هذه الإغفالات تجعل كتاب براندز يبدو وكأنه مُوجَز متحيّز إلى ليندبيرغ أكثر من كونه كتاباً تاريخياً نزيهاً. كتب براندز يقول: «لقد أصاب ليندبيرغ كثيراً في حملته ضد الحداثة، لكنه أخطأ في أمر واحد كبير- فهو لم يرَ أن الأميركيين كانوا على استعداد للتدخل في الصراعات الخارجية». وأودّ أن أزعم أن ليندبيرغ كان مخطئاً أكثر من ذلك؛ فقد عبث بمعاداة السامية، وهو شيء ينتقص براندز من أهميته، وعلى نحو مفاجئ بالنسبة لطيار شهير، لم يكن يبدو أن لديه الكثير من البصيرة في دور القوة الجوية في الحرب، وحتى في القراءة الأكثر تعاطفاً، لا بد أن كلاوزفيتز كان ليحتدم غيظاً.

الجنرال البروسي العجوز هو موضوع تحليل جديد لاذع، وربما شديد التحريض من ناحية «أزار غات»، المؤرخ الفكري في جامعة تل أبيب. في كتابه «أسطورة كلاوزفيتز: أو ملابس الإمبراطور الجديدة» (228 صفحة، دار «كرونوس للنشر»)، يزعم غات أن كتاب كلاوزفيتز «عن الحرب» مؤثر بصورة رئيسية؛ لأنه مُحير للغاية. ويَخلُص إلى أن «الكثير من سمعة الكتاب تستند إلى سوء فهم دائم لما يعنيه في الواقع».

هناك في الأساس اثنان من كلاوزفيتز؛ الأول ألّف في وقت مبكر من حياته المهنية الكثير من كتب «عن الحرب»، بينما يسعى إلى فهم انتصارات نابليون السريعة والساحقة على بروسيا، والآخر كان يحاول بعد سنوات رسم مسارٍ لاستعادة بروسيا مكانتها في أوروبا، ولكن بدلاً من تأليف كتاب ثانٍ، كما يقول غات، عاد الضابط البروسي ونقّح كتاب «عن الحرب» بطرق تتناقض على نحو جَلِيّ مع بعض الأجزاء الأسبق من نفس الكتاب. بدأ كلاوزفيتز بكتابة أن النصر يعتمد على هزيمة سريعة للعدوّ في معركة كبيرة واحدة. وفي وقت لاحق أدرك أن العديد من الأطراف الفاعلة، سيما الأضعف منها، قد يكون لديها سبب لإطالة أمد القتال. وشرع في التنقيح، لكنه لم يكن لديه الوقت لعلاج هذا التضادّ قبل وفاته عام 1831.

وبينما كنت أقرأ كتاب غات، ظللتُ أفكّر في أنه لم يدرك النقطة الأكثر أهميةً؛ قد تشوب الأعمال الكلاسيكية حالة من النقص إلى حد بعيد؛ إذ تطرح أسئلة أكثر مما تقدّم من إجابات، وهو ما كان بمثابة طريق أكثر أماناً للاستمرار عبر الزمن. في الواقع، كانت واحدة من أشهر ملاحظات كلاوزفيتز تتعلّق بطرح الأسئلة، وهو يقول إنه قبل أن تتصاعد أعمال العنف يجب على القادة المفكرين أن يسألوا أنفسهم: ما نوع هذه الحرب؟ وما الذي تريد أمّتي تحقيقه؟ وهل يمكن أن تحقّق ذلك فعلاً؟

هذه اعتبارات جيدة. إن مواصلة حرب استنزاف لا نهاية لها، سواء في جنوب شرقي آسيا، أو في الشرق الأوسط، من غير المرجّح أن تؤدي إلا إلى المزيد من الفوضى والموت، وعلى نحو مماثل، لو تعامل قادة أميركا بجدّية مع نهاية المسألة قبل غزو فيتنام، ناهيكم عن العراق أو أفغانستان، ربما كانت حروبهم لتسير على نحو أفضل كثيراً، أو ربما لم تكن لتحدث على الإطلاق.

-------------------

خدمة: «نيويورك تايمز».