«موسيقى الرفض»... شخصيات سودانية في قبضة الحروب

القاص عثمان خاطر موسى يرسم ملامحها في مجموعته القصصية

«موسيقى الرفض»... شخصيات سودانية في قبضة الحروب
TT

«موسيقى الرفض»... شخصيات سودانية في قبضة الحروب

«موسيقى الرفض»... شخصيات سودانية في قبضة الحروب

يخلط الأديب السوداني عثمان خاطر موسى في مجموعته القصصية «موسيقى الرفض»، الصادرة حديثاً عن دار الرحمة للنشر والتوزيع السودانية التي تتخذ من القاهرة مقراً لها، بين الحكي بضمير المتكلم، وبين الحديث بصوت راوٍ عليم عن شخصيات عرفها وتتبع خطاها، كما يتجاور خطابه ولحظاته القصصية المتشظية مع حكاياته عن أشخاص عرفهم، وآخرين متخيلين متشابهين في الضعف والوهن والاستسلام لمصير لا يقوى أحدهم على مواجهته أو تغييره.

عبر عشرة قصص، منها «رصاصة طائشة»، و«مغترب سيمفونيات الشهقة الأخيرة»، و«رومانسية المغادرة»، و«فردة حذاء ممزقة» و«التلاعب بنتائج الحب»، يوقعنا الكاتب في أجواء ممضة، ويرصد تفاصيل حياة شخصياته وأبطال قصصه، مازجاً بين العام والخاص، ويختار لمحات إنسانية بعناية تجعل القارئ ينحاز لأصحابها، ويأسى لأحوالهم، ويكشف من خلالها أزماتهم النفسية وتأثير الحروب المستمرة والمواقف المأساوية التي مروا بها على أرواحهم، متتبعاً ما هم فيه من بؤس ووهن، وحيرة تدفعهم دائماً للبحث في ماهية الحياة والوجود الإنساني كله. ففي قصته «رصاصة طائشة» يرتكز السرد وبضمير المتكلم على فاجعة فقد الأب، كاشفاً عما يرتبط بذلك الحدث المأساوي في ميثولوجيا سكان قطاع من البشر في السودان، ونظرتهم لرحيل الإنسان إلى العالم الآخر. لا يقوى البطل على تحمل اختفاء أبيه فجأة من الوجود، فيقول لحظة معرفته بموته، إنها «ضربة قاسية من الحياة»، وحين تقابله جدته وهو يذرف الدموع تنهره، وتدفعه لأن يكف عن البكاء، وتُذَكِّرَه بـ«أن الموت فلسفة الحياة الشقية» وأن الإنسان لا يبكي على مَن مات؛ بل على نفسه حين لا يسلك الطريق الذي سلكه الأسلاف.

يختار الراوي لحظة فقد الأب لتكون محركاً أساسياً من محركات السرد في القصة، ومن خلالها يمزج بين شعوره باليتم، ومأساة بلاده، وما تقاسي من نكبات، وما تعانيه بسبب ما يجري على أرضها من حروب بين أبنائها. يفتش في الأشياء البعيدة في ذاكرته التي استحوذت عليها الآلام والمصائب، والحزن العميق الذي يعيش في داخله، ويحكي عن صديقه الذي مات بطلقة طائشة، في تلك اللحظة يعلن الراوي أن الأشياء التي تحدث تعيد نفسها بنفسها، وبطرق أكثر غباء عن سابقتها، وأن الطبيعة تتحالف معها وتأخذ طابعاً تدميرياً، يتنافى مع كونها هِبة الرّب لمخلوقاته، فهي دائماً ما تضغط على أرواح البشر الذين يعانون الجوع والمرض دون أن تترك حتى الحيوانات.

وفي قصة «موسيقى الرفض» التي تتخذها المجموعة عنواناً لها يتحرك السرد بلسان راوٍ عليم، ويتتبع بطلتها «منال بنت محمود»، التي أحبت طبيباً لم تظفر به، وكانت ترى في عينيه أولادها، ويسرد حكايته مع صديقه إبراهيم، الذي راح ضحية لحادث سير، وترك له طفلاً ليرعاه. وفي القصة يبدو السرد متشظياً، فلا رابط بين الشخصيات، سوى ما يعانونه من آلام فقد وفراق وفقر واضطهاد وعنصرية، يرى الراوي أنها نتجت بفعل الانقلابات وفساد السياسة وتحالفاتها منذ ما سمَّاه «انقلاب البشير»، وما تبعه من حروب انتشرت هنا وهناك.

في هذه القصة تظهر الشخصيات كما لو كانت تعيش على الحافة، لا تقترب أبداً من تحقيق شيء يذكر، بدءاً من منال التي صارت تمتلك محل «كوافير» لتجهيز العرائس، ومع انشغالها بحبيبها الطبيب تترك مهمة إداراته لصديقتها. يتشابه مع منال في المصير نفسه، الراوي الذي لم ير تأثيراً يذكر لمكتبته في عقول أبناء مدينته، وتركها في النهاية عندما بلغ سن الشيخوخة لابن صديقه الراحل. كل هؤلاء الأشخاص الذين يحركون بين ثنايا لحظات القصة لا رابط بينهم إلا المعاناة وعدم التحقق والضياع.

وتتمحور قصة «مغترب سيمفونيات الشهقة الأخيرة» حول التهجير القسري والحروب والأزمات التي خلقها انفصال شمال السودان عن جنوبه، واضطرار البعض لمغادرة بلاد عاشوا فيها وسكنت أرواحهم بتفاصيلها وأجوائها وذكرياتها. يأتي السرد بضمير المتكلم، يحكي البطل عن معاناته بعد انتقاله من الخرطوم عاصمة الشمال، ليعيش في جوبا عاصمة الجنوب، وفي كل مساء يبسط أمام «ليزا» جارته الإثيوبية وصديقته «نتاليا» همومه ويتحدث عن آلام وحدته، وحنينه للخرطوم.

وتتجلى النساء في القصة كأنهن أياد ساحرة ممدودة تقود البطل نحو هوية جديدة، فهن يسهلن العيش ويقللن من تأثيرات الغربة والفقد. يقول وهو يتحدث عن حبيبته الأوغندية: «رغماً عن كل الظروف جعلتني هذه المرأة أغير تفكيري حول هذه المدينة، كما جعلتني أشعر وكأنني أنتمي إلى هذا المكان، فالشعور بالانتماء، بالحقيقة، والعشق، غيَّره كثيراً، فبدا شخصاً آخر غير نفسه التي يعرفها، بعيداً عن الخرطوم، وأيقن أن الإنسان كائن لا يعرف أهميته إلا من وجهة نظر الآخر له، وهذا ما أحس به فعلاً مع نفسه، فخلال سنة لم يفهم ما الذي يحتاجه لكي يتأقلم ويحب جوبا التي لم تكن في بادي الأمر سوى طرفة حزنٍ مبعثرة عرفت طريقها إلى كيانه».

ويبرر البطل تحوله لحب جوبا بقوله: «نحن لا نحب المدينة لأننا نعيش فيها، بل نحبها لأنها جزء منا، وتحمل ذكرياتنا وهوياتنا، ولأننا نشعر تجاهها بشيء كالروح تلامس في دواخلنا وتدغدغ ألطف ما لدينا من الكينونة».


مقالات ذات صلة

«الدعم السريع» تتهم الجيش السوداني بالاستعانة بخبراء من «الحرس الثوري» الإيراني

شمال افريقيا عناصر من الجيش السوداني خلال عرض عسكري (أرشيفية - أ.ف.ب)

«الدعم السريع» تتهم الجيش السوداني بالاستعانة بخبراء من «الحرس الثوري» الإيراني

توعدت «الدعم السريع» بمواصلة «العمليات الخاصة النوعية»، لتشمل «جميع المواقع العسكرية لميليشيات البرهان والحركة الإسلامية الإرهابية»، واعتبارها أهدافاً بمتناولها

أحمد يونس (كمبالا)
شمال افريقيا حضور «الملتقى المصري - السوداني لرجال الأعمال بالقاهرة» (مجلس الوزراء المصري)

مصر تُكثف دعمها للسودان في إعادة الإعمار وتقليل تأثيرات الحرب

تكثف مصر دعمها للسودان في إعادة الإعمار... وناقش ملتقى اقتصادي في القاهرة الاستثمارات المشتركة بين البلدين، والتعاون الاقتصادي، لتقليل تأثيرات وخسائر الحرب.

أحمد إمبابي (القاهرة )
شمال افريقيا عناصر من الجيش السوداني خلال عرض عسكري (أرشيفية - أ.ف.ب)

الجيش السوداني يعلن «تحرير» مدينة سنجة عاصمة ولاية سنار من «قوات الدعم السريع»

أعلن الجيش السوداني، اليوم السبت، «تحرير» مدينة سنجة، عاصمة ولاية سنار، من عناصر «قوات الدعم السريع».

«الشرق الأوسط» (الخرطوم)
شمال افريقيا أفراد من الجيش السوداني كما ظهروا في مقطع فيديو للإعلان عن «تحرير» مدينة سنجة عاصمة ولاية سنار من عناصر «قوات الدعم السريع» (الناطق باسم القوات المسلحة السودانية عبر «إكس»)

الجيش السوداني يعلن استعادة مدينة سنجة عاصمة ولاية سنار

أعلن الجيش السوداني اليوم (السبت) «تحرير» مدينة سنجة عاصمة ولاية سنار من عناصر «قوات الدعم السريع».

محمد أمين ياسين (نيروبي)
شمال افريقيا علي عبد الرحمن الشهير بـ«علي كوشيب» المتهم بجرائم حرب في إقليم بدارفور (موقع «الجنائية الدولية»)

«الجنائية الدولية»: ديسمبر للمرافعات الختامية في قضية «كوشيب»

حددت المحكمة الجنائية الدولية ومقرها لاهاي 11 ديسمبر المقبل لبدء المرافعات الختامية في قضية السوداني علي كوشيب، المتهم بارتكاب جرائم حرب وضد الإنسانية بدارفور.

أحمد يونس (كمبالا)

الشبحُ في الآلة

سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"
سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"
TT

الشبحُ في الآلة

سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"
سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"

شغل موضوع أصل الأشياء The Origin مكانة مركزية في التفكير البشري منذ أن عرف البشر قيمة التفلسف والتفكّر في الكينونة الوجودية. الموضوعات التأصيلية الأكثر إشغالاً للتفكير البشري منذ العصر الإغريقي ثلاثة: أصل الكون، أصل الحياة، أصل الوعي.

الوعي بين هذه الموضوعات الثلاثة ظلّ اللغز الأكثر إثارة ورهبة واستجلاباً للأسطرة والمقاربات غير العلمية، وربما تكون عبارة «الشبح في الآلة The Ghost in the Machine» التي شاعت منذ أيام الفلسفة الديكارتية تمثيلاً للوعي تتفق مع ثنائية العقل-الجسد The Mind-Body Duality. بمقتضى هذه الثنائية الديكارتية يكون الوعي كينونة غير مادية (الشبح) وقد استوطن في كينونة مادية (الآلة أو الجسد البشري).

فضلاً عن الأهمية الفلسفية لدراسة الوعي فقد صارت المقاربات العلمية في هذه الدراسة تتعاظم يوماً بعد آخر بسبب ارتباطها العضوي مع موضوعات عظيمة الأهمية في مقدّمتها مباحث الذكاء الاصطناعي بكلّ تفريعاته (الذكاء الاصطناعي العام، تعلّم الآلة، الشبكات العصبية...)، بعبارة أخرى: صار الوعي موضوعاً يقع في صميم الجهد البحثي الذي تتأسّس عليه القيمة الجيوستراتيجية للدولة المعاصرة. أمرٌ آخر تتوجّب الإشارة إليه: الوعي بطبيعته جهد بحثي عابر للتخصصات؛ لذا فهو يتناغم مع طبيعة المباحث العلمية المميزة لعصرنا.

لكن، بعيداً عن الأسباب البحثية والاستراتيجية، لماذا يتوجّبُ على كلٍّ منّا أن يهتمّ بأمر الوعي على مستوى شخصي بمقدار قد يزيد أو ينقص بين الأفراد؟ أوّلاً يتوجّبُ علينا الانخراط في هذا المسعى لأنّ الوعي بصورة جوهرية هو الشيء الأساسي الذي يعرفه كلٌّ منّا بشأن العالَم، أو هو بوّابته إلى العالم، وأعني بهذه البوّابة: التجارب الحسية Sensory Experiences، ومن الطبيعي أنّ كلاً منّا يتوق لأن يفهم -بكيفية علمية منسّقة ومنضبطة وليس بتفكّرات شخصية متناثرة- لماذا يعدّ الوعي البوّابة الأساسية لتجاربنا في العالم. يحبّ كلّ منّا هذا المسعى ولا يرغب في جعله اختصاصاً حصرياً للفلاسفة وعلماء الأعصاب ومطوّري الذكاء الاصطناعي بكلّ متفرّعاته. ثانياً: دراسة الوعي في غاية الأهمية أيضاً في جوانب الغاية Purpose والمعنى Meaning في حياتنا البشرية. ليس في قوانين الفيزياء ما يشيرُ إلى المعنى، وليس مِنْ معادلة لحساب المعنى في تلك المعادلات. لا أظنّ -وسيتشارك معي كثيرون كما أحسب- أنّ الاكتفاء بالتطلّع في كوننا يمنحنا معنى لحياتنا هو ما يحقّقُ فعلاً هذا الأمر؛ لأننا نحن من يخلعُ المعنى على كوننا. يحصل هذا الأمر لأننا نمتلك الوعي الذي يتيحُ لنا اختبار الأشياء والتعامل معها. لدينا هنالك بعيداً في تخوم الكون البعيدة مجرّات كثيرة العدد وجميلة بما يفوق التصوّر. لماذا هي جميلة؟ لأنّنا واعون بها. هي صارت جميلة لأننا نمتلك وعياً يخبرنا أنها جميلة. أعيد القول ثانية: الوعي هو ما يخلعُ معنى وغاية على الحياة.

الدراسات الخاصة بالوعي

يُنظرُ في الأوساط الأكاديمية العالمية إلى سوزان بلاكمور Susan Blackmore على أنّها مؤلفة الكتاب المرجعي في دراسة الوعي، وأقصدُ بهذا كتابها الشائع بين دارسي علم النفس والعلوم العصبية والإدراكية وفلسفة العقل والذكاء الاصطناعي، وأشيرُ بهذا إلى كتابها الموسوم «الوعي: مقدّمة Consciousness: An Introduction» الذي صدرت طبعته الرابعة عن دار نشر «راوتليدج Routledge» قبل بضعة شهور. سوزان بلاكمور عالمة نفس وكاتبة حرة ومحاضرة جامعية بريطانية، ألّفت الكثير من المقالات العلمية وأسهمت في تأليف عددٍ من الكتب. تكتب في مجلات وصحف كثيرة، وكثيراً ما تشارك في برامج إذاعية وتلفازية في المملكة المتحدة أو خارجها. قدّمت الكثير من البرامج التلفازية التي نالت شهرة واسعة بما في ذلك برنامجٌ وثائقيٌ حول ذكاء القردة. من بين كتبها الأخرى سيرة ذاتية بعنوان: «بحثاً عن النور» 1996، و«حوارات عن الوعي» 2005.

ما يميّزُ كتاب بلاكمور هو جمعها بين الخبرة الأكاديمية وتقنيات التعامل مع النطاق العام، فهي معروفة باهتمامها بموضوعات التأمّل والامتلاء الروحي والذهني والباراسايكولوجيا، وقد أفردت كتاباً كاملاً للحديث عن تجربة شخصية خاصة بها شهدت فيها ما تُدعى تجربة مغادرة الجسد Out of Body Experience، وقد حكت عن هذه التجربة في سيرتها الذاتية.

الخصيصة الثانية في كتابها هو مشاركة ابنتها لها في تأليف الكتاب، وتلك علاقة نادرة للغاية بين المؤلفين. لن نتغافل بالتأكيد عن النكهة الفلسفية الأنيقة التي طبعت لغة الكتاب (مثل تناول الإرادة الحرّة وعلاقتها بالوعي)، وهذا أمرٌ متوقّعٌ فيمن يكتب عن موضوع الوعي.

ثمّة موضوعان علينا الانتباه إليهما عند دراسة الوعي: هل سنبلغُ يوماً مرحلة الفهم العلمي الكامل للوعي؟ تؤكّد بلاكمور: لا أظنّ ذلك. الفرق بين حيوان حيّ وآخر ميّت ليس محض فرق نوعي يكمنُ في أنّ الحيوان الحيّ (الإنسان على سبيل المثال) يمتلك نوعاً من مصدر للحياة السرية فيه (بكلمة أخرى: الوعي). الحيوانات الحيّة ميكانيزمات فعّالة دينامية دائمة التغيّر؛ في حين أنّ انكساراً أصاب ميكانيزمات الحركة والتغيّر في الحيوانات الميتة.

تكمن صعوبة وتعقيد دراسة الوعي في حتمية اقتران دراسة الشيء مع موضوع الدراسة؛ بمعنى آخر: استخدام الوعي في دراسة الوعي ذاته! يحضرني هنا مثالاً عبارةٌ قالها جون ناش في الفيلم السينمائي الرائع الذي يحكي سيرته الذاتية «عقل جميل». أخبر ناش طبيبه أنّه سيستخدم عقله في علاج اضطرابه الذهاني، فأجابه طبيبه: ولكن كيف تعالجُ نفسك بما هو المتسبّبُ في مرضك؟ لن تستطيع هذا. في السياق ذاته تصف بلاكمور صعوبة دراسة الوعي وتعريفه فتقول:

«يبدو أنه يَلزمنا إما أن نستخدم الوعي لدراسته هو نفسه، وهي فكرة غريبة نوعاً ما، وإما أن نحرِّرَ أنفسَنا من الوعي الذي نودُّ دراستَه. ولا عجب أن الفلاسفة والعلماء قد بذلوا جهوداً مضنيةً على مدى قرنين من الزمان من أجل الوصول إلى مفهوم الوعي، ولا عجب أيضاً أن العلماء رفضوا الفكرةَ برمَّتها لفترات طويلة؛ بل رفضوا أيضاً دراستَها. الانعطافة الإيجابية أنّ «الدراسات الخاصة بالوعي» أخذَتْ في الازدهار بدءاً من القرن الحادي والعشرين. وصل علم النفس وعلم الأحياء وعلم الأعصاب إلى نقطةٍ يمكن عندها مواجَهةُ بعضِ الأسئلة المحيِّرة على غرار: ما الذي يفعله الوعيُ؟ وهل كان لنا أن نتطوَّر من دونه؟ وهل يمكن أن يكون الوعي وَهْماً؟ وما الوعي على أي حال؟».

تؤكّدُ بلاكمور منذ البدء أنّ ازدهار الجهد البحثي للوعي في القرن الحادي والعشرين لا يعني أنّ الغموض الذي يكتنفه قد اختفى تماماً؛ فالواقع أنه لا يزال متغلغِلاً في هذا الأمر كما كان دائماً. الفرق الآن أننا نعرف عن الدماغ ما يكفينا للاستعداد لمواجَهةِ المشكلة البحثية التالية على نحوٍ مباشِرٍ: كيف يمكن لإطلاق النبضات الكهربائية من ملايين الخلايا العصبية الدماغية أن يُنتج تجربةً واعية ذاتية شخصية؟ إذا أردنا إحرازَ أيِّ تقدُّم فيما يتعلَّق بفهم مسألة الوعي فعلينا التعامُل مع هذا الأمر بجدية تامة. هناك كثير من الأشخاص الذين يدَّعُون أنهم قد وجدوا حلًّاً للغز الوعي؛ فهم يقترحون نظرياتٍ موحِّدةً عظمى، ونظرياتٍ ميكانيكيةً كموميَّة، ونظرياتٍ روحانيةً حول «قوة الوعي»، وغيرها الكثير؛ لكنّ أغلبهم يتجاهلون الفجوةَ العميقة بين العالمين المادي والعقلي.

بعد مقدّمة وتمهيد ابتدائي لموضوع الكتاب (الوعي) اختارت المؤلفّة جعل كتابها موزّعاً في خمسة أقسام، كلّ قسم منها يضمُّ ثلاثة فصول: تناول القسم الأوّل معضلة الوعي تعريفاً ومناظرةً مع مفاهيم أخرى، ثمّ تناولت الوهم الكبير The Grand Illusion في التعامل مع ظاهرة الوعي. في القسم الثاني تناولت موضوع الدماغ بوصفه الحاضنة الطبيعية (مسرح العمليات بلغة المؤلفة) للوعي، وقد أفاضت في شرح العلاقة الوثقى بين دراسة العلوم العصبية وظاهرة الوعي. خصّصت المؤلفة القسم الثالث لتناول موضوع العقل والفعل، وتناولت في القسم الرابع موضوع التطوّر ومنعكساته المهمّة على ظاهرة الوعي، ثمّ تناولت في القسم الخامس الحدود التخمية Borderlands بين الوعي وظواهر أخرى على شاكلة: أشكال الوعي المعدّلة، الواقع والخيال، والأحلام وما بعدها. أما القسم السادس والأخير فتناولت فيه المؤلّفة موضوع «الذات والآخر»؛ فكانت النكهة الفلسفية بيّنة فيه. ألحقت المؤلفة كتابها بسلسلة مصادر مرجعية ضخمة ومتعدّدة امتدّت على عشرات الصفحات من الكتاب.

كتاب بلاكمور هذا قراءة شيّقة رغم رصانته الأكاديمية ومشقّة موضوعه؛ لكنّ من يرغب في قراءة أقلّ تطلباً للجهد والوقت والتفاصيل الصغيرة فيمكنه الرجوع إلى كتاب المؤلفة ذاتها والصادر عن جامعة أوكسفورد بعنوان «الوعي: مقدّمة قصيرة جداً»، وتوجد له ترجمة عربية متاحة بالمجّان على شبكة التواصل العالمية (الإنترنت).

Consciousness: An Introduction

الوعي: مقدمة

المؤلّفتان: Susan Blackmore & Emily Troscianko

سوزان بلاكمور وأميلي تروسيانكو

سنة النشر: 2024

دار النشر: Routledge ) Taylor & Francis Group )

عدد الصفحات: 766 الوعي بصورة جوهرية هو الشيء الأساسي الذي يعرفه كلٌّ منّا بشأن العالَم... أو هو بوّابته إلى العالم