ملامح البطل الشعبي بين الملحمة الأفريقية والسيرة الهلالية

دراسة مقارنة لخالد أبو الليل

ملامح البطل الشعبي بين الملحمة الأفريقية والسيرة الهلالية
TT

ملامح البطل الشعبي بين الملحمة الأفريقية والسيرة الهلالية

ملامح البطل الشعبي بين الملحمة الأفريقية والسيرة الهلالية

يتناول كتاب «الأدب الشعبي الأفريقي» الصادر حديثاً عن الهيئة المصرية العامة للكتاب للباحث د. خالد أبو الليل دراسة مقارنة بين ملحمة «سونجاتا كيتا» والسيرة الشعبية العربية لأبي زيد الهلالي. في البداية يشير المؤلف إلى أنه غيّب الدرس المقارن العربي الأدب الأفريقي من مجالات اهتماماته ودراساته إذ لم يُلتفت إليه إلا مؤخراً، وهو التفات قليل يعكس إهمالاً واضحاً من الباحثين العرب، ما يؤكد أن الدراسات العربية لم تتخلص في مجال المقارنة من «عقدة الخواجة» الثقافية حيث الانبهار بالغرب، ومقارنة الأدب العربي بالغربي، التي ظلت مهيمنة على اتجاهات الباحثين العرب لحقبة طويلة رغم البدايات التي ركزت على مقارنته بالأدب الشرقي، تحديداً الفارسي والتركي.

وتعد ملحمة «سونجاتا كيتا» من أشهر النصوص الملحمية في غرب أفريقيا، إذ تعبر ملحمياً عن التاريخ الشفاهي الشعبي لإمبراطورية مالي التي قامت في القرن الثالث عشر الميلادي بزعامة سونجاتا كيتا. ومن هنا عدّ باحثون التاريخ الشفاهي مصدراً أساسياً للتاريخ السياسي والاجتماعي في أفريقيا، لذا حرص البعض منهم على تسجيل ملحمة «سونجاتا» ونشرها للمرة الأولى 1960. والملحمة تتعرض لهذا التفاعل السياسي والثقافي بين غرب أفريقيا والمنطقة العربية الإسلامية، وهى تدور حول نبوءة العرافين بأن الملك «ماغان» سوف يأتي من صلبه من سيقود البلاد إلى الانتصار، لكن هذا البطل الموعود سوف ينحدر أيضاً من امرأة دميمة محدّبة الظهر. وتتحقق النبوءة معتمدة على عدد من «الموتيفات» الشعبية التي تربط هذا البطل بذي القرنين والإسكندر الأكبر تارة، وبأبطال السير العربية تارة ثانية، وبأبطال الملاحم والأساطير الغربية مثل أوديب وأديسيوس تارة ثالثة.

وحسب قول العراف نفسه في الملحمة: «أرى صيادين قادمين نحو مدينتكم من بعيد تصحبهما امرأة ثالثة، آه هذه المرأة، إنها دميمة ومنفرة فهي محدبة الظهر مما يشوهها، وعيناها جاحظتان تبدوان وقد ركبتا فوق وجههما، آه من سر الأسرار! فهذه المرأة أيها الملك يجب عليك أن تتزوج بها لأنها ستكون أم ذلك الذي سيعيد اسم الماندينج الخالد إلى الأبد، سيكون الطفل سابع نجم والفاتح السابع للأرض وسيكون أقوى من ذي القرنين».

وفي السيرة الهلالية، لعبت النبوءة دوراً مهماً أيضاً في توجيه «رزق بن نايل» الهلالي صوب مكة الشريفة كي يتزوج ممن ستنجب له الولد الذكر الذي يحقق له أمنياته وكان ذلك عبر هاتف غامض:

بلغني الكبر يا ضهري وحنيت

من الله تقضى المصالح

بكيت على البلاوي وحنيت

في بيتي مفيش طفل فالح

ويتم زواج الملك من السيدة القبيحة التي تدعى «سولوجون». وعلى غرار ما تنبأ الصياد بشأن مستقبل هذا المولود، تأتي «بركة الطير» في السيرة الهلالية لتكون مجالاً للتنبؤ بمستقبل الغلام الذي ستلده خضرة الشريفة. ولم تكن «سولوجون وتادة سونجاتا» بأحسن حظاً من «خضرة» التي تعرضت لاتهام ظالم في شرفها ورحلت عن قبيلتها وتوجهت إلى أرض «الزحالين»، حيث قامت بتربية «أبي زيد» وتعليمه الفروسية وتنشئته تنشئة بطولية في الغربة ثم عودته بطلاً إلى مسقط رأسه. على غرار هذا يأتي مصير «سولوجون» وابنها «سونجاتا»، فقد أثار اهتمام الملك بطفله منها منذ أن كان جنيناً اعتماداً على ما رواه له العراف حقد «ساموما بيرتيه» زوجة الملك الأولى خوفاً منها على مستقبل ابنها «دانكاران» ابن الثمانية أعوام، لذلك تعددت محاولات هذه الزوجة للتخلص من «سولوجون» وابنها أثناء الحمل عن طريق كبار السحرة الذين يعترفون بعجزهم عن إلحاق الأذى بالجنين. يموت الملك فتقوم الزوجة الأولى «ساموما» بتنصيب ابنها «دانكاران تومان» ملكاً على البلاد ضاربة عرض الحائط بوصية الملك المبنية على النبوءة التي تقضي بتولي «سونجاتا» الحكم.

يعود كل من البطلين، سونجاتا وأبو زيد، إلى مسقطي رأسيهما في كل من بلاد الماندينج وأرض نجد، ثم يخوضان معركة المصير ضد الأعداء سواء بلاد السوسو أو قبائل بني عقيل لاستعادة العزة المفقودة إلى موطنيهما بعد ما لحق ببلادهما من إخضاع وإذلال في غيابهما. يتمكن البطلان من تحقيق أهدافهما، فسونجاتا يقتل الملك سوماؤور في معركة كيرينا 1235 بعد سلسلة من المعارك وخلال سنوات قليلة يصبح سونجاتا على رأس شعب الماندينج.

ويرصد المؤلف عدداً من العادات والمعتقدات الشعبية المشتركة بين الملحمة والسيرة مثل «الطائر الأسود» الذي يعد بمثابة بشارة بالنصر في العملين. وهناك «بِركة المياه» التي تعد مصدراً لتحقيق الأمنيات في السيرة ونبعاً للقوة في الملحمة. وكذلك احتفالية إطلاق اسم المولود، لكنها تتم في اليوم السابع في السيرة الهلالية أو ما يسمى «السبوع»، بينما تتم في اليوم الثامن في ملحمة سونجاتا.


مقالات ذات صلة

أسامة منزلجي... مبدع كان مهموماً باكتشاف ما يُغني ثقافتنا!

ثقافة وفنون أسامة منزلجي

أسامة منزلجي... مبدع كان مهموماً باكتشاف ما يُغني ثقافتنا!

تشاء الصدف أن تبدأ علاقتنا في منتصف تسعينيات القرن الماضي، برد فعلٍ لم أُسامح نفسي عليه كلما مرت ذكراه في خاطري.

فخري كريم
ثقافة وفنون «مزرعة السلاحف»... شعرية البحث عن الطمأنينة

«مزرعة السلاحف»... شعرية البحث عن الطمأنينة

يعبر ديوان «مزرعة السلاحف» للشاعر المصري عيد عبد الحليم، الفائز بجائزة أفضل ديوان شعر فصحى في الدورة الأخيرة لمعرض القاهرة للكتاب، عن حالة شعورية واحدة

عمر شهريار
ثقافة وفنون «الأفكار هي الأشياء»... السعادة من وجهة نظر فلسفية

«الأفكار هي الأشياء»... السعادة من وجهة نظر فلسفية

عن دار «أقلام عربية» بالقاهرة، صدرت طبعة حديثة من كتاب «الأفكار هي الأشياء» للفيلسوف الأميركي برنتيس مالفورد

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
كتب كارل يونغ

هل كان كارل يونغ عنصريّاً؟

ربما يكون كارل غوستاف يونغ (1875 - 1961)، عالم النفس السويسري ومؤسس علم النفس التحليلي، أحد أهم مفكري القرن العشرين الذين لا يزال تأثيرهم طاغياً على فهم الإنسان

ندى حطيط
ثقافة وفنون وعاء جنائزي من محفوظات المتحف الوطني العُماني

صيد الأسود على وعاء معدني من سلطنة عُمان

كشفت أعمال التنقيب الأثرية في سلطنة عُمان عن مجموعة من الأوعية المعدنية تعود إلى المرحلة الممتدة من القرن الثالث قبل الميلاد إلى القرن الثالث للميلاد

محمود الزيباوي

هل كان كارل يونغ عنصريّاً؟

كارل يونغ
كارل يونغ
TT

هل كان كارل يونغ عنصريّاً؟

كارل يونغ
كارل يونغ

ربما يكون كارل غوستاف يونغ (1875 - 1961)، عالم النفس السويسري ومؤسس علم النفس التحليلي، أحد أهم مفكري القرن العشرين الذين لا يزال تأثيرهم طاغياً على فهم الإنسان المعاصر لذاته إلى جانب الأسماء التقليديّة الأخرى أمثال فرويد وماركس وهايدغر ولي كوربوزييه، وفوكو. إذ برغم التقدم الهائل للعلوم النظريّة والاجتماعيّة منذ غيابه قبل خمسة وستين عاماً تقريباً، فإن بعض تطبيقات أفكاره في مجالات تصنيف شخصيّات البشر وأنماط تصرفهم اللاواعيّة وطرق تعاطيهم مع الآخرين ممن يختلفون عنهم تعدُّ الأساس النظري الذي تقوم عليه نماذج تحليلية متقدمة لا غنى عنها في عالم الأعمال وإدارة الموارد البشريّة والتحليل النفسي الأساسي في نطاق العمل، مثل أنظمة «ديسك» (DiSC)، و«إنسايت» (Insight)، و«مايرز - بريغز» (Myers-Briggs) وغيرها، وأصبحت بعض مصطلحاته في وصف الشخصيّة (مثل الانطوائي أو الانبساطي) وافرة الاستخدام حتى في الأحاديث العادية.

سيغموند فرويد

تعرّض يونغ مع ذلك إلى انتقادات عديدة في حياته، فكان خلافه النظريّ مع صديقه اللّدود سيغموند فرويد مبكراً بعدما اختار أن يتجاوز بداية من عام 1912 موضوعة الطاقة الجنسيّة (الليبيدو) في تفسير الاضطرابات الذهانيّة مثل الفصام والشيزوفرانيا، ثم وجهت له اتهامات متناقضة تارة بمعاداة الساميّة وتبني الأفكار النازيّة، وتارة باستخدام دوره رئيساً للجمعيّة الطبية العامة للعلاج النفسي في ألمانيا لتسهيل عمل المحللين النفسيين اليهود ما تسبب لاحقاً في مصادرة كتبه في ألمانيا وأُدرج اسمه على القائمة السوداء. كما عدَّ البعض سلوكه متناقضاً، إذ فرض أثناء رئاسته لتلك الجمعية ميثاقاً يفرض على أعضائها اتخاذ موقفٍ حياديٍ فيما يتعلق بالسياسة والعقائد لدى ممارسة عملهم، لكنه تعاون في عام 1943م مع مكتب الخدمات الاستراتيجية (الذي تحول لاحقاً إلى ما يعرف الآن بجهاز الاستخبارات المركزية الأميركيّة) وساعد على تقديم تحليل لشخصيات الزعماء النازيين لصالح المجهود الحربي الأميركي.

انحيازات يونغ السياسيّة سهلت تبني أعماله ونظرياته لاحقاً عبر العالم الأنجلوسكسوني، ما سمح بتجاهل جانب آخر من أفكاره يتعلّق بالملمح العنصريّ الذي حكم تقييماته للشعوب غير البيضاء، وهو أمر لا يمكن تفسيره في إطار انتماء الرجل لعصر انتشرت فيه العنصريات والفاشيات، وسيطرت على نخب ودول عديدة في الغرب، كما أنّه لا يتعلق بنص عابر هنا أو فلتة لسان هناك، أو حتى مرحلة فكريّة مرّ بها، إذ تعددت الشواهد من أعماله ومحاضراته وحتى كتاباته الشخصيّة، وفي مختلف مراحل حياته المهنيّة على نفس يبدو مستلاً بكليته من منطق العنصرية الفيكتوري، ويمتد ليكون منطلقاً ومكوناً لنظرياته في التحليل النفسي، على نحو قد يدفع المرء في القرن الحادي والعشرين ليس بالضرورة لإلغاء الرجل وفكره بالكامل، ولكن على الأقل لإعادة تقييم مجمل تراثه كأداة للتفكير، وهو تراث طالما زعم صاحبه بأنه يأتي ضمن سياق البحث في معرفة الإنسان، الممر اللازم لكل تقدّم للنوع البشري على هذه المعمورة، على حد تعبيره.

يعترف يونغ مثلاً بأننا «اللاوعي الجمعي» نشترك جميعنا كنوع بشري في ذات النموذج الأصلي: حيث لدى كل منا بغض النظر عن لون بشرته عيون وقلب وكبد وما إلى ذلك، لكنّه يستطرد ليقول بأن ذلك لا يلغي أن بعض الأجناس تمتلك طبقة تاريخيّة كاملة في لا وعيها قد لا تمتلكها أجناس أخرى، إذ «تتوافق الطبقات المختلفة من العقل مع تاريخ الأجناس». (النص من محاضراته في معهد تافيستوك، 1935).

ما عناه يونغ هنا، كان فسره في مواضع أخرى، إذ رأى أن طبيعة وعي الغربيين المعاصر «مختلفة تماماً عن وعي البدائيين، ولكن في أعماق نفسياتنا فإن ثمة طبقة سميكة من العمليات البدائية، ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالعمليات التي لا يزال من الممكن العثور عليها في إطار الحياة اليومية للبدائيين».

الشعوب التي يعدّها يونغ عالقة في مرحلة تطوريّة سابقة تجاوزها العرق الأبيض كانت جزءاً من حضارة عظيمة في وقت كان الأوروبيّون غارقين في الصراعات القبليّة

إشارة يونغ للبدائيين هنا كانت ربما لقبائل «إلغوني» من الصيادين وجامعي الثمار، وكان قد اطلع على بعض نظام حياتهم إبّان زيارته في 1926 لمناطق على الحدود بين أوغندا وكينيا، على أنه سحب هذا التوصيف ذاته على عرب شمال أفريقيا أيضاً بعدما كتب انطباعاته من زيارة قام بها في 1920 لتونس والجزائر، معتبراً أنهم عاطفيّون وطفوليّون غير قادرين على التفكّر و«أقرب إلى تلك الطبقات التاريخية في أنفسنا - كغربيين - والتي تغلبنا عليها، وتركناها وراءنا»، وأن هذه «المحيطات العربيّة التي تبدو غريبة ومختلفة تماماً عنّا توقظ ذكرى ماضي ما قبل التاريخ المعروف والذي يبدو أننا نسيناه تماماً». ولعله من نافل القول إن هذه الشعوب التي يعدّها يونغ عالقة في مرحلة تطوريّة سابقة تجاوزها العرق الأبيض كانت جزءاً من حضارة عظيمة امتدت من إندونيسيا إلى إسبانيا وما بينهما، في وقت كان الأوروبيّون غارقين في الصراعات القبليّة.

هذي النظرة العنصريّة عن العالم ليس مرتبطة بالجغرافيات (خارج الغرب) بقدر ما هي أشبه بتسلسل هرمي ثقافي يضع كل ذي بشرة ملونة في أدنى مراحل التطور الإنساني حتى لمن ولدوا وعاشوا في دول الغرب ولم يعرفوا بلاداً غيرها. إذ يعدُّ يونغ أن «الطفل يولد بدماغ محدد، ولذلك لن يعمل دماغ الطفل الإنجليزي مثل دماغ زميله الأسترالي الأسود» (محاضرات تافيستوك 1935). وهذا يعني ببساطة أنه إذا ولد طفل ينحدر من سكان أستراليا الأصليين في أوروبا، فلا فرصة له لأن يغدو متحضراً - وفق المقياس الأوروبي - بسبب محدودية دماغه! وهو كتب لاحقاً: «لا يسعني إلا أن أشعر بالتّفوق، كما يتم تذكيري في كل خطوة بطبيعتي الأوروبية»، وقبلها: «إنها ليست مجرد غطرسة أن يعتبر الإنجليز أي شخص منهم ولد في المستعمرات أقل شأناً ولو على نحو قليل رغم أن أفضل دم يسري في عروقه، إذ إن هنالك حقائق تدعم هذا الرأي».

لا يمكن الدّفاع عن أوهام يونغ هذه بأي صيغة، لا سيّما وأن معاصرين وزملاء له أدانوا علناً «مبدأ وجود تسلسلات هرميّة عرقيّة»، مثل فرانز بواس، رائد علم الأنثروبولوجيا في الولايات المتحدة، وهاجموا مزاعمه حول السود بوصفها «تشويهاً تاماً للحقائق»، حسب قول بول رادين، مؤلف كتاب «الإنسان البدائي كفيلسوف»، كما أن نهاية الحرب العالمية الثانية وضعت حداً لكل النظريات العرقية التي كانت تُعامل كعلوم، وتجاوز كثيرون ذلك المربع المقيت، لكن يونغ لم يغيّر أفكاره، وبقي عليها - كما يُقرأ في سيرته الذاتية - إلى آخر يوم في حياته.