«أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك» - الذي صدرت طبعة جديدة له عن المجمع التونسي للعلوم والفنون والآداب، بيت الحكمة - عنوان مسجوع قد لا يبدو عصرياً لنا. فإذا ما علمنا أنه لكتاب نُشر لأول مرة سنة 1867، أي منذ أكثر من قرن ونصف قرن، تعاظمت شكوكنا في عصريته. ولكن ما أبعدنا عن الصواب إن اكتفينا من الكتاب بعنوانه وتاريخ نشره. الحقيقة أنه عصري تماماً. بل هو سابق لعصرنا كما كان سابقاً لعصره، وما زالت القضايا التي يثيرها تشغلنا اليوم كما شغلت صاحبه قبل 150 عاماً.
الكتاب من وضع السياسي الإصلاحي ورجل الدولة الأبرز خير الدين التونسي (1820 - 1889)، الذي يمكن أن نعتبره النظير في المغرب العربي للشخصيات الإصلاحية الكبرى في المشرق من الفترة نفسها من قبيل رفاعة رافع الطهطاوي وأحمد فارس الشدياق وعلي مبارك. يُحسب «أقوم المسالك» اليوم بين الكتب العربية الرائدة في الفكر السياسي الإصلاحي المنفتح على النموذج الأوروبي، على نحو يُقارن بالكتاب الأشهر والأسبق لرفاعة الطهطاوي في مصر، «تخليص الإبريز في تلخيص باريز» (1834)، والذي يشير إليه خير الدين بإعجاب في مقدمة «أقوم المسالك». شغل خير الدين منصب رئيس الوزراء لمدة أربع سنوات (1873 - 1877) في عهد الباي محمد الصادق، وكان قبل ذلك قد قضى نحو أربع سنوات في فرنسا في مهمة للدولة، إلى جانب زيارات خاصة طويلة على امتداد عدد من السنين، ما أتاح له معرفة وثيقة بأوروبا تمخض عنها كتابه الكبير، الذي يمكن أن نعتبره أول مرجع عربي شامل في وقته في وصف أوروبا، حيث شمل الكتاب وصف عشرين أمة بما فيها الدولة العثمانية.
اعتمد خير الدين منهجاً ثابتاً في وصف الدول، فكان يغطي التاريخ والجغرافيا والبنية السياسية والقوة العسكرية والنظام التشريعي والاقتصاد والحكم المحلي... إلخ في كل دولة. يُعدُّ الكتاب جهداً بحثياً فائقاً في المقام الأول، فهو يمثل موسوعة أو قاعدة معلوماتية شاملة عن أوروبا من كل أوجهها في تلك الفترة. ومن هذه الزاوية لم يَعُد الكتاب عصريا أو ذا نفع لنا الآن، فأوروبا اليوم غير أوروبا من 150 عاماً. أما ما يبقى من الكتاب وما لا يزال له مغزى اليوم فهو مقدمته الطويلة التي قارنها المؤرخ المعاصر ألبرت حوراني بمقدمة أخرى لتونسي آخر وإن كان من القرن الرابع عشر، هو ابن خلدون، والذي يُكثر خير الدين من الاستشهاد به في كتابه. في تلك المقدمة ينوّه خير الدين بضرورة معرفة أوروبا معرفة وثيقة، ودراسة نظمها وأسرار تقدمها وأهمية الاقتداء بها، وهو ما يفصِّل القول فيه من أوجه عديدة، وبذلك تُعتبر تلك المقدمة من أوائل نماذج احتكاك المثقف العربي الحديث بالفكر الغربي ومن أوائل دعوات التحديث أو - إن شئنا - الأوْرَبَة أو الغَرْبَنَة في العالم العربي.
أول ما نلاحظ هو أن الدعوة الإصلاحية التغريبية لخير الدين التونسي كانت حريصة - مثلها في ذلك مثل غيرها من الدعوات المعاصرة - على التمسك بالنظرة الدينية إلى العالم على الرغم من الرغبة الصادقة في التحديث. كان على مصلحي ذلك العصر وحتى اليوم في الواقع أن يجدوا صيغة توفيقية بين مقتضيات الإصلاح الحديث والنظرة الدينية القروسطية التي تحكم الفكر والحياة في مجتمعاتهم. ومن هنا نراه يعمد في مفتتح المقدمة للتأكيد على ضرورة معرفة الآخر من أجل صلاح الذات؛ إذ يقول إنه لا يظن أن «عاقلاً من رجال الإسلام» يمكنه أن ينكر أنه «لا يتهيأ لنا أن نميز ما يليق بنا (...) إلا بمعرفة أحوال من حفَّ بنا وحلَّ قربنا». وهو يصر على أن «التنظيم (المدني) أساس متين لاستقامة نظام الدين». ولا يحجم خير الدين عن النحي باللائمة على بعض علماء المسلمين لإغفالهم «مراعاة أحوال الوقت في تنزيل الأحكام...»، ولكون أذهانهم خالية من معرفة الأحداث الداخلية والخارجية. ثم ينتقل إلى ذكر الهدف من كتابه: «الغرض من ذكر الوسائل التي أوصلت الممالك الأوروباوية، إلى ما هي عليه من المنعة والسلطة الدنيوية، أن نتخيّر منها ما يكون بحالنا لائقاً، ولنصوص شريعتنا مساعداً وموافقاً، عسى أن نسترجع منه ما أخذ من أيدينا، ونخرج باستعماله من ورطات التفريط الموجود فينا...». علينا هنا أن نقرأ كلام خير الدين في سياقه التاريخي، فإشاراته إلى قوة الدول الأوروبية وتسلطها يتضح معناه الأكمل إذا ما ذكّرنا أنفسنا أنه كان يكتب في وقت كانت تونس فيه عرضة للتهديد المتزايد من القوى الأوروبية وخاصة فرنسا، بينما كانت جارتها، الجزائر قد وقعت بالفعل في 1830 فريسة للاحتلال الفرنسي، وكان محمد علي ومشروعه في مصر قد أُجهض فيما تلي هزيمته في 1827 أمام التحالف الأوروبي، بينما كانت الإمبراطورية العثمانية بأكملها في حال أفول.
في مثل هذه الظروف لا عجب إذن أن رجل دولة مصلحاً وواسع الاطلاع والترحال كان يشعر بالقلق من التهديد الأوروبي، ويرى أن لا سبيل للتصدي له إلا بالاقتداء بأوروبا وانتهاج السبل التي أوصلتها إلى ما هي عليه من «المنعة والسلطة الدنيوية». ومن هنا جاءت حملته على «ذوي الغفلات من عوامّ المسلمين لتماديهم في الإعراض عما يُحمد من سيرة الغير (أي الأوروبيين)، الموافقة لشرعنا، بمجرد ما انتقش في عقولهم من أن جميع ما عليه غير المسلم من السير والتراتيب ينبغي أن يُهجر...». ويمضي خير الدين واعظاً أولئك «الغافلين» قائلاً إن «كل متمسك بديانة وإن كان يرى غيره ضالاً في ديانته، فذلك لا يمنعه من الاقتداء به فيما يُستحسن في نفسه من أعماله المتعلقة بالمصالح الدنيوية...».
على الرغم من عقلانية هذا الطرح الواضح في ذاته، فإننا نرى خير الدين في مسعاه التوفيقي بين داعي التقدم والاقتداء بالغرب من ناحية، والقوى الدينية المتحفظة على كل ما يأتي من غير ديار الإسلام من ناحية أخرى، يسعى إلى استمالتهم لحجته بالاستشهاد من التاريخ الديني فيشير إلى تبني النبي محمد رأي سلمان الفارسي الذي أشار بحفر خندق للمدينة في غزوة الأحزاب. الدرس الذي أراده خير الدين هنا يحلُّ فيه الاقتداء بأوروبا اليوم محلّ الاقتداء بحيل الحرب الفارسية قديماً. يمضي خير الدين داعياً إلى الأخذ بأسباب الصناعة بدلا من بيع المواد الخام لأوروبا بأهون الأسعار ثم استيرادها بعد تصنيعها بأغلى الأثمان، وموازنة الصادر والوارد وصناعة الأسلحة التي يعزّ استيرادها زمن الحرب حين تشتد الحاجة إليها... إلخ. ثم يخلص إلى القول بأن هذا كله لا سبيل إليه «من دون تقدم في المعارف وأسباب العمران المُشاهَدة عند غيرنا (أي الأوروبيين)». وهذا بدوره غير ممكن «دون إجراء تنظيمات سياسية تناسب التنظيمات التي نشاهدها عند غيرنا في التأسيس على دعامتي الحرية والعدل». وكأن «الحرية والعدل» ليستا قيمتين ثابتتين في حد ذاتهما، نراه يحرص على القول بأنهما «أصلان في شريعتنا، ولا يخفى أنهما مِلاك القوة والاستقامة في جميع الممالك». وعلى النسق نفسه، نجده حين يريد أن ينهى عن الحكم المطلق وانفراد الحاكم بالحل والعقد - نجده يلجأ إلى التنويه بالأصل الديني لذلك، فيشير «إلى وجوب المشورة التي أمر الله بها رسوله المعصوم مع استغنائه عنها بالوحي الإلهي، وبما أودع الله فيه من الكمالات، فما ذاك إلى لحكمة أن تصير سُنّة واجبة على الحكّام بعده».
يُعدُّ «أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك» جهداً بحثياً فائقاً، فهو يمثل موسوعة أو قاعدة معلوماتية شاملة عن أوروبا من كل أوجهها في تلك الفترة
يمضي خير الدين على هذه السنة التوفيقية طوال المقدمة محاولاً تغليف منظومة التقدم المدني الأوروبي بغلاف ديني آملاً أن يجعلها سائغة عند أئمة الدين من المحافظين المتشككين في كل ما لم يكن مصدره الدين في معناه المحصور في فهمهم الضيق له. وهو في منهجه هذا لم يكن مخالفاً لمعاصريه من المصلحين، بل يبقى هذا المنهج سائداً حتى اليوم على صعوبة التوفيق أحياناً بين المنظومة الدينية والمنظومة المدنية. وهو ما يجعل استبسال خير الدين وحيرته أمام الرافضين ذا رنّة معاصرة إذا ما تخطينا أسلوب الكتابة وسجعة العنوان.
يختم خير الدين كتابه بعبارة يقول إنه سمعها من أحد أعيان أوروبا وإنْ لم يسمِّه: «إن التمدن الأوروباوي تدفق سيله في الأرض، فلا يعارضه شيء إلا استأصلته قوة التيار المتتابع، فيُخشى على الممالك المجاورة لأوروبا من ذلك التيار، إلا إذا حذوه وجروا مجراه في التنظيمات الدنيوية، فيمكن نجاتهم من الغرق».
وسرعان ما أثبت التاريخ أن خير الدين كان يقرأ المؤشرات قراءة صحيحة. فقد «استأصلت قوة التيار المتتابع» تونس في حياته على يد فرنسا في 1881، ثم جرف السيل في تدفقه مصر على يد بريطانيا في العام التالي، 1882، ثم بقية البلاد العربية بالتدريج فيما تلا من أعوام. ذلك أن «الممالك المجاورة لأوروبا» تقاعست عن السرعة الواجبة في «احتذاء التيار والجري مجراه في التنظيمات الدنيوية». ما زال العالم العربي يعاني حتى اليوم من تبعات إغفال تحذيرات خير الدين التونسي آنذاك، وما زال سادراً في إغفالها حتى اليوم.
- أستاذ فخري الأدب الحديث في جامعة إكستر، المملكة المتحدة.