مثقفون مصريون يحتفون بصدور النسخة العربية من «الاستشراق هيمنة مستمرة»

في لقاءين حضرهما مؤلف الكتاب المفكر الأميركي بيتر جران

مثقفون مصريون يحتفون بصدور النسخة العربية من «الاستشراق هيمنة مستمرة»
TT

مثقفون مصريون يحتفون بصدور النسخة العربية من «الاستشراق هيمنة مستمرة»

مثقفون مصريون يحتفون بصدور النسخة العربية من «الاستشراق هيمنة مستمرة»

في لقاءين فكريين في المركز القومي للترجمة وبيت السناري بالقاهرة التابع لمكتبة الإسكندرية، وعلى مدى يومي الأربعاء والخميس الماضيين، ناقش لفيف من المثقفين والمفكرين والمؤرخين المصريين رؤية وأفكار المفكر الأمريكي بيتر جران التي طرحها في كتابه الأخير «الاستشراق هيمنة مستمرة»، الذي صدرت نسخته العربية حديثاً عن المركز القومي، بترجمة الكاتبة سحر توفيق ومراجعة الدكتور عاصم الدسوقي.

أدار اللقاء الأول الدكتور أحمد زايد مدير مكتبة الإسكندرية، مشيراً إلى أن جران أحد القلائل الذين فهموا التاريخ المصري فهماً عميقاً، وقد رصد في كتابه، النظرة الاستشراقية الاستعلائية تجاه مصر، واستخدم هذا المنهج في مناقشة ما جاء من كتابات حول الفترات الاستعمارية، من خلال منهج جديد في النظر إلى التاريخ.

وقال زايد إن علماء الاجتماع لديهم رؤية واضحة لهذه العلاقة الاستعلائية من الغرب تجاه الشرق، وقد لمس ذلك حينما كان شاباً، كما أن لديهم فهماً مختلفاً لقضية الهوية.

ثم تحدث المؤلف عن القضية الأساسية التي يرصدها الكتاب حول طبيعة التاريخ الاستعماري، وخصوصاً ما صاحب الحملة الفرنسية، وتأثر مصر بها، والعلاقة بين مصر والمجتمع الغربي، والنظرة التي ما زالت تسيطر على خطاب معظم مفكريهم تجاه مصر والشرق الأوسط على حد سواء، وهي نظرة مستندة، حسب جران، إلى أسس ماضوية ما زالت مستمرة، ومفادها أن البلاد التي استعمروها لم تكن دولاً، ولكنها مجموعات متفرقة من البشر لا رابط بينهم، وهي وجهة نظر روج لها اللورد كرومر، بكتابه الذي جاء في جزأين بعنوان «مصر الحديثة»، ويعتبر من الكتابات الاستشراقية المؤسسة لنظرة الغرب تجاه المصريين.

وذكر جران أنه سعى لتحليل وتقصي أفكار كرومر، التي يتبناها مفكرو الغرب في كتاباتهم التاريخية المعاصرة، وترسّخ لفكرة أن مصر كانت تعيش في حالة من الجمود وتعتمد على الغرب، وتأخذ أفكارها منه.

ودعا جران التيارات النقدية في الغرب، التي تتناول مصر إلى التفريق بينها وبين غيرها من البلدان الأخرى، مشيراً إلى أن هناك مفكرين أمريكيين يرون أن مصر ليست بلداً، وعليها حال رغبت في التحديث والتنمية أن تتجه إلى النموذج الأمريكي، وهي النظرة نفسها، التي ورَّثها كرومر للأمريكان عن مصر، وتشير في أعماقها إلى أن هناك علاقة أصيلة بين الاستشراق والإمبريالية، لاحظها جران منذ بداية كتاباته، معتبراً أن المنهج السائد لدى الكثير من كتَّاب التاريخ الغربيين غير دقيق، وقد اكتشف ذلك من خلال حياته الفكرية التي تشكلت ما بين دراسته في مصر، وما تبعها من دراسات في أمريكا، فتحت الطريق أمامه لاكتشاف الأبعاد المختلفة التي تربط بين الاستشراق والإمبريالية، وهي فكرة واضحة في كتابه «الاستشراق هيمنة مستمرة».

وذكر جران أن الأمريكان ينظرون بشكل نمطي لمصر، وقد دفعه ذلك إلى محاولة فك الاشتباك بين وجهات نظرهم وما يحدث في الواقع المصري، وقد سعى من خلال فصول كتابه لرصد مراحل تطوره، وتتبع دور الكثير من الشخصيات الهامة التي تنتمي لأجيال مختلفة في التأثير فيه، مع تناول الحياة في مصر منذ أيام اللورد كرومر حتى الوقت الحالي، وفق ثلاث مراحل تبدأ من الكولونيالية، ثم الحرب الباردة وما بعد الكولونيالية.

وانتقد جران الأفكار الموجودة في الجزء الأول من كتاب «مصر الحديثة» للورد كرومر، الذي يقول فيه إن مصر كانت مجرد تجمع لمجموعات من البشر، وإنها لم تكن دولة منذ انتهاء عصر الفراعنة، مشيراً إلى أن نظرته لمصر تستند إلى تأويل ما جاء في «سفر الخروج»، وتم تفسيره بشكل يلائم الأفكار الأمريكية لتبرير عمليات قتل وإبادة الهنود الحمر، وقد ربطت بينها وبين ما تقوله التوراة وهي تتحدث عن تلك الحقبة من «أن الذي نجا في نهاية الصراع بين فرعون وموسى هم شعب الله المختار وأن جنود فرعون غرقوا في البحر، بأمر الله، ليصلوا لاستنتاج مفاده أن ما جرى من قتل للبشر في أفريقيا أو أمريكا اللاتينية وغيرها يعبر عن إرادة الله أيضاً». وتحدث جران عن مسألة الهوية، مشيراً إلى أنها ليست جامدة لكنها متغيرة.

وفي مداخلة، على هامش اللقاء للدكتور محمد أبو الغار خالف فيها جران في نظرته عن الهوية المصرية، معتقداً أنها تكونت في الفترة التي سبقت ثورة 1919، لكن جران لم يعتد بها في كتاباته مع أن المصريين يعتبرونها حدثاً مهماً في تاريخهم.

من جهته، قال الدكتور عاصم الدسوقي، أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر، إن جران عندما عاش في مصر واطلع عليها من خلال الصحافة، بدأت أفكاره تتغير ويخرج عن منهج الاستشراق الغربي، مشيراً إلى أن اللورد كرومر حاول زرع الفتنة في مصر بين المسلمين والمسيحيين إلا أن المثقفين المصريين تنبهوا لهذا، وأفشلوا محاولاته، لكن السعي من قبل بعض الاستشراقيين ما زال مستمراً، وبالاعتماد على المنهج نفسه في محاولة لنفي الهوية المصرية.

وفي اللقاء الذي أقامه المركز القومي للترجمة قالت الكاتبة والمترجمة سحر توفيق إن كتابات جران تحمل نظرية مختلفة عن تاريخ مصر مناقضة لنظرة الغرب. وذكرت أن جران أوضح أن قناعات المفكرين الأمريكيين هدفها واضح، وتبرر للأجيال الجديدة أن ما جرى من إبادة للهنود الحمر أمر إلهي، وهي مماثلة لما جرى عند مطاردة فرعون مصر وجيشه لموسى، وحسب رأي توفيق يتناول جران النظرة المركزية الأمريكية والمبنية على نظرية أن التاريخ يبدأ بظهور الحضارة الغربية، وهذه نظرة عنصرية، أوضحها في كتابه وهو يتحدث عن مصر.

وفي الكتاب المذكور، قدم جران بحثاً في الدراسات والكتب الأمريكية والإنجليزية والفرنسية، التي تتناول مفهوم الاستبداد الشرقي في أغلب الدراسات الغربية التي تتناول تاريخ مصر، مشيراً إلى أنها ورغم التقدم الذي حدث فيها ما زالت تتبنى فكرة الخروج والنظرة القدرية والحق الإلهي. وتوصل إلى أن الدراسات والأبحاث التاريخية المصرية بموضوعيتها بدأت تحدث تغييراً في بعض الدراسات الأكاديمية الغربية التي تتناول تاريخ مصر.

يذكر أن بيتر جران يعمل أستاذاً للتاريخ المصري الحديث بجامعة تمبل الأمريكية ويعد أحد أبرز مفكريها، وأكثرهم خبرة بالتاريخ المصري، وارتبط كثير من مؤلفاته بتاريخ الثقافة العربية والإسلامية، ومن أهمها مؤلفه «الجذور الإسلامية للرأسمالية: مصر 1760 - 1840» وكان موضوع رسالته للدكتوراه، وأحدث ضجة وجدالاً فكرياً عند صدوره في منتصف الثمانينيات، وترجمه للعربية محروس سليمان وراجعه الدكتور رؤوف عباس حامد.


مقالات ذات صلة

تجلّيات الثقافة والفكر تُزيّن معرض الرياض الدولي للكتاب

يوميات الشرق المعرض يشهد استحداث ممر تكريمي للشاعر الأمير بدر بن عبد المحسن (وزارة الثقافة)

تجلّيات الثقافة والفكر تُزيّن معرض الرياض الدولي للكتاب

المعرض يُعدّ تظاهرة ثقافية وفكرية سنوية بارزة بالمنطقة تجسّد منذ عقود الإرث الثقافي للمملكة وترسّخ ريادتها في صناعة الثقافة وتصدير المعرفة.

عمر البدوي (الرياض)
خاص الحجيلان يكشف حدود الدور الفرنسي في تحرير المسجد الحرام play-circle 01:52

خاص الحجيلان يكشف حدود الدور الفرنسي في تحرير المسجد الحرام

في الحلقة الأخيرة من مذكراته، يوضح رجل الدولة السعودي الشيخ جميل الحجيلان، حقيقة الدور الفرنسي في جهود تحرير الحرم المكي الشريف من مجموعة جهيمان العتيبي.

بندر بن عبد الرحمن بن معمر (الرياض)
يوميات الشرق تبدأ فصول من المعرفة والفكر والثقافة على مدى 10 أيام من عمر المعرض (واس)

رحلة معرفية جديدة تنطلق في معرض الرياض الدولي للكتاب 2024

تنطلق (الخميس)، التظاهرة الثقافية الدولية للكتاب، تحت شعار «الرياض تقرأ»، التي تبدأ معها فصول من المعرفة والفكر والثقافة.

عمر البدوي (الرياض)
كتب دليل من أجل الحكم الرشيد

دليل من أجل الحكم الرشيد

أسئلة مهمة يطرحها هذا الكتاب بشأن السمات والمهارات وطرائق التفكير التي تصنع القائد الناجح، ويقترح عليهم مؤلفه من وحي خبرته الشخصيّة أموراً ينبغي للقادة فعلها - أو تجنُّب القيام بها - للحصول على صيت خالد في التاريخ.

ندى حطيط (لندن)
كتب الحياة على هامش الوحدة

الحياة على هامش الوحدة

ينقسم أبطال المجموعة بين أبطال يتخبطون بحثاً عما يريدونه من الحياة، وآخرين يؤرقهم وعيهم التام بما يريدون، في واقع ضاغط يجعل الأحلام كابوسية لا مسافة بينها وبين الواقع

منى أبو النصر (القاهرة)

«كلاب تنبح خارج النافذة»... انتهازيون في عباءة الثورة

«كلاب تنبح خارج النافذة»... انتهازيون في عباءة الثورة
TT

«كلاب تنبح خارج النافذة»... انتهازيون في عباءة الثورة

«كلاب تنبح خارج النافذة»... انتهازيون في عباءة الثورة

ترصد رواية «كلاب تنبح خارج النافذة»، الصادرة في القاهرة عن «دار صفصافة» للكاتب المصري صبحي موسى فكرة الانتهازيين الذي يحصدون المكاسب من وراء كل ثورة دون أن يشاركوا في أي تضحية تقتضيها الشعارات الحالمة التي يرفعها النبلاء المنادون بالعدل والحرية. وتزداد حدة هذه المعضلة الأخلاقية حين يكون الانتهازي مثقفاً يخون دوره المنتظر في محاولة تغيير الواقع وتنوير الرأي العام. ويتخذ المؤلف من تداعيات «ثورة 25 يناير» 2011 منطلقاً لهذه الفكرة من خلال قصة بطل العمل، الذي يعمل كاتباً وصحافياً، يتم تكليفه بمراقبة شخص آخر يعاني من قصور عقلي. ورغم عبثية الأمر، فإن البطل يؤدي المهمة بجدية شديدة تجعل النص ينطوي على مفارقات درامية بارزة.

تنقسم الرواية إلى جزأين هما «أنجريتا»، وهو مكان عشوائي يقطنه البطل أو الراوي العليم ويقع في منزلة وسطى بين الريف والمدينة دون هوية واضحة سوى القبح والفوضى. الجزء الثاني هو «فئران بدينة»، حيث يشير هذا العنوان، بشكل غير مباشر، إلى عدد من شخصيات الرواية التي تتحرك في بطء وتثاقل وخمول وتبدي لا مبالاة مذهلة تجاه ما يحيط بها حتى لو كان الحدث الأبرز الذي يشغل العالم هو احتجاجات حاشدة في أكبر ميادين البلاد، التي يتابعها العالم لحظة بلحظة، ولا تبعد عن هذه الشخصيات سوى مسافة قريبة للغاية.

من أجواء الرواية نقرأ:

الساعة الآن تجاوزت الثامنة مساء، أشعر أنني في حاجة للترفيه، والاحتفال بأول يوم عمل في وظيفتي الجديدة؛ لذا سأخرج من شقتي باحثاً عن مكان هو الوحيد الموجود في هذه المنطقة الواقعة في آخر العالم، المنطقة المحيطة بالبيت تكاد تكون خالية من الحياة. فقط بعض الكلاب المتصارعة على غنيمة في كومة كبيرة من الزبالة، وبعض المتسولين وجامعي كانزات المياه الغازية، هؤلاء الذين يقومون بتهشيمها في مداخل بيوتهم المظلمة، ثم وضعها في أجولة من الخيش تحملها عربات تقوم بجمعها منهم. أعبرهم في صمت كأنني لا شيء، وأمرُّ في اتجاه الكوبري الممتد أسفل الطريق الدائري، حيث نهاية خط الأتوبيسات القادم من وسط العاصمة إلى هنا، أمرُّ من بين الأتوبيسات الواقفة في محطتها صامتة، فلا أحد في المكان سوى راكبَين ينتظران أتوبيساً لم يأت بعد. وحدهما الظلام والبرد يتجليان بوضوح، الجميع أغلق أبوابه على نفسه، تاركاً إضاءة خفيفة تطل من خلف الزجاج كي تدل على وجودهم في الحياة.

كان الوقت ما زال صيفاً، وعدد الذين في الشارع أكبر من الموجودين في البيوت. سألت بعضهم عن مقهى «سامبو»، ظللت أسأل حتى وجدت رجلاً على مشارف الستين يجلس أمام مكتبة، قال إنه في الشارع القادم أسفل البيت قبل الأخير. لم أستطع أن ألمح الضوء القليل المنبعث من الزجاج المعتم. مررت مرتين بالمكان دون أن أتعرف عليه. رأيت رجلاً يخرج من باب في حالة سكر واضح. دُهشت أنني لم أر ذلك الضوء الخفيف من قبل. ورغم أنني لم أكن متأكداً من صدق توقعي، فإنني قررت المغامرة. سحبت الباب الخشبي إلى الخارج، ثم دفعت على استحياء الباب الزجاجي المعتم إلى الداخل. رأيت ثلاث مناضد موزعة في فراغ لا يزيد عن خمسة أمتار. في الخلفية يجلس رجل عجوز خلف سور لا يزيد عن نصف متر بجانب ثلاجة، وأمامه قِدر يتصاعد منه بخار. كانت إضاءته خافتة. ولم يكن به سوى أربعة زبائن، كل اثنين يجلسان معاً على منضدة، يتهامسان أحياناً، ويعلو صوتهما أحياناً أخرى، بدا أنهم قد بدأوا سهرتهم مبكراً، وبدت المنضدة الثالثة كما لو أنها كانت تنتظرني، فقد غادرها للتو الرجل الذي رأيته خارجاً. كانت زجاجته وبقاياه ما زالت موجودة عليها. جلستُ متأففاً من بؤس المكان، فالمناضد والكراسي من الخشب القديم الذي اكتسب دهانه من تراب وعرق الجالسين عليه».