لم تجد وزارة الثقافة الإسرائيلية بُدّاً من تعليق دعمها المالي لجوائز «أوفير» السنوية، التي تُوزِّعها «الأكاديمية الإسرائيلية للسينما والتلفزيون»، وذلك إثر فوز فيلم «البحر» بجائزة أفضل فيلم إسرائيلي، مما رشّحه تلقائياً إلى دخول سباق أوسكار أفضل فيلم دولي («الأجنبي» سابقاً)، منضمّاً إلى نحو 65 دولة حتى الآن، اختارت أفلامها للمشاركة في أوسكار العام المقبل. بذلك يقف فيلم «البحر» في مواجهة فيلمين عربيين يتناولان القضية الفلسطينية، هما: الفيلم التونسي «صوت هند رجب» لكوثر بن هنية، والفيلم الفلسطيني «فلسطين 36» لآن ماري جاسر.
لكنّه لا يقف مضادّاً لهما، كونه فيلمًا متضامناً مع هذه القضية المطروحة، سينمائياً، منذ أسابيع.
بحر وحلم
يتناول فيلم «البحر»، لمخرجه شاي غارميلي–بولاك، حكاية الصبي خالد، ابن الثانية عشرة، الذي ينضم إلى تلاميذ المدرسة في رحلة صوب الساحل. لم يسبق له أن شاهد البحر من قبل، وكان حماسه شديداً ليراه. تنطلق الرحلة ثم تتوقف عند حاجز عسكري يقرّر منع خالد من مواصلة السير. إذ تغادر الحافلة من دونه، يقرّر خالد مواصلة الرحلة وحيداً.

لا يعرف الدرب، ولا يجيد العبرية، لكنه يُقدِم على الفعل تحقيقاً لحلمه. وحين يُبلّغ والده بما حدث، ينطلق الأب في إثر ابنه، مخاطِراً باحتمال تعرّضه للاعتقال لعمله من دون ترخيص.
لم يحصد «البحر» الذي عُرض تجارياً للمرة الأولى في إسرائيل في يوليو (تموز) الماضي جائزة أفضل فيلم فقط، بل فاز الصبي محمد غزاوي بجائزة أفضل ممثل، كما فاز خليفة ناطور بجائزة أفضل ممثل مساند.
فوزه بالجائزة الأولى عنوة عن الأفلام الأخرى المنافسة التي صبّ معظمها في نطاق المضمون المرضي عنه، دفع وزير الثقافة والرياضة ميكي زوهار إلى إعلان إيقاف دعم الوزارة للأكاديمية، معتبراً أن فوز «البحر» فعل معيب. وفي منشور له على منصات «السوشيال ميديا» كتب: «إن دافعي الضرائب الإسرائيليين لن يقبلوا الاستمرار في تمويل حفل مخزٍ يبصق على جنودنا الأبطال».
واقع الأمر أن هناك عدداً من الأفلام الإسرائيلية الجديدة التي تنظر إلى موضوع الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي على نحو قد لا يعكس تضامناً مع القضية، لكنه يتناول الأحداث الجارية بنظرة إنسانية. نجد ذلك في فيلم داني روزنبيرغ «عن الكلاب والرجال» (On Dogs and Men) الذي عرضه مهرجان «ڤينيسيا» في العام الماضي. ونجده في فيلم إيران كوليرين «بعض الملاحظات عن الوضع الحالي»
(Some Notes on the Current Situation) الذي شهد عرضه الأول في مهرجان «لوكارنو» العام الحالي. كذلك «رسالة إلى ديڤيد» (A Letter to David) لتوم شوڤال الذي عرضه مهرجان «كارلوڤي ڤاري» أيضاً العام الحالي.
فوز «البحر» أثار صداماً سياسياً ودولياً حول السينما الإسرائيلية وموقفها من القضية الفلسطينية
7 ملايين مشاهد
يُضاف إلى ما سبق الوضع القائم في محافل السينما الأميركية والعالمية، بعدما وقّع أكثر من 4 آلاف سينمائي من مضارب الصناعة المختلفة (إخراج، تمثيل، كتابة، إنتاج) عريضة تطالب المؤسسات السينمائية الأميركية والمهرجانات العالمية بفرض حصار على السينما الإسرائيلية ومؤسساتها، ومنها «أكاديمية السينما والتلفزيون» نفسها، ومهرجانات القدس وتل أبيب وحيفا.
ضمت العريضة، التي تقدّمت بها لجنة باسم «Film Workers for Palestine»، أسماء بارزة إعلامياً وفنياً في السينما، مثل المخرج اليوناني يورغوس لانتيموس، والمخرجة الأميركية آڤا دوڤرني، والمخرجين الأميركيين جوشوا أوبنهايمر وآدم ماكاي، إلى جانب ممثلين كبار مثل برايان كوكس، وتيلدا سوينتون، وأوليڤيا كولمان، ويواكين فينكس، وروني مارا، وآبي جاكوبسون، وجوناثان غلازر ومارك روفالو، وسوزان ساراندون، وإيما ستون، وأندرو غارفيلد.

وكان الممثل الإسباني خافيير باردِم، أحد موقّعي العريضة، قد ظهر في حفل جوائز «إيمي» يوم الأحد الماضي مرتدياً الكوفية الفلسطينية، مندِّداً بما وصفه بحرب الإبادة، متسائلًا: «كم طفلاً فلسطينياً عليه أن يموت قبل أن يتحرّك العالم؟»
استقطب حفل «إيمي» أعلى عدد من المشاهدين منذ 2021، إذ تابعه نحو 7 ملايين و420 ألف أميركي، بزيادة 8 في المائة عن العام الماضي، وفقاً لمؤسسة «نيلسن» الإحصائية.
قبل الحفل بيومين، أصدرت شركة «باراماونت» (إحدى أعرق المؤسسات السينمائية في هوليوود) بياناً مفتوحاً أعلنت فيه معارضتها لعريضة «فيلم ووركرز فور بالستاين»، مؤكدة أنها لا توافق على «الجهود الأخيرة لمقاطعة صانعي أفلام إسرائيليين»، وأضافت: «إسكات أصوات الفنانين والمبدعين تبعاً لهوياتهم لا يعزز التفاهم ولا يُقرِّب السلام».
الرد على هذا البيان صدر على الفور خلال مقابلة أجرتها صحيفة «لوس أنجليس تايمز» مع المؤسسة التي أصدرت العريضة، حين قالت: «نحن لا نستهدف أفراداً، بل شركات ومؤسسات»، وتمنّت ألَّا تكون «باراماونت» قد أخطأت قراءة العريضة. «ما يوفر درعاً ضد انتقاد الإبادة في وقت يتمادى فيه الغضب العالمي وتُتخذ خطوات صائبة لمواجهة ما يحدث».
يُلاحظ أن «باراماونت» هي الشركة الكبرى الوحيدة التي انتقدت العريضة، في حين آثرت الاستوديوهات الأخرى (وورنر، تونتييث سنتشري فوكس، يونيڤرسال... إلخ) سياسة عدم الاحتكاك.
إذا ما وصل «البحر»، و«فلسطين 36»، و«صوت هند رجب» إلى القائمة الرسمية للترشيحات، فسيكون من المثير جداً مراقبة توجهات أعضاء الأكاديمية حيال هذا التنافس، خصوصاً أن الأفلام الثلاثة معادية لسياسة الاستيطان والعدوان على غزّة.
لا بُدَّ من التذكير أنه في عام 1978 اعتلت الممثلة البريطانية (الشابّة حينها) ڤنيسا رِدغرايڤ المنصّة، بعد فوزها بأوسكار أفضل ممثلة مساندة عن فيلم «جوليا»، وألقت تحية عصماء لفلسطين. هاج الإعلام، واهتزّت هوليوود، وخسرت الممثلة عقود عمل، لكنها قالت كلمتها كما أرادت.
البَون شاسع بين الأمس واليوم، في صراع بدأ منذ أشهر ولن ينتهي سريعاً.






