ربيع السينما العربية يُزهر في الخريف

زحمة سير في شارع المهرجانات العربية

من عروض الجونة: «الجزائر» (تمبل برودكشنز)
من عروض الجونة: «الجزائر» (تمبل برودكشنز)
TT

ربيع السينما العربية يُزهر في الخريف

من عروض الجونة: «الجزائر» (تمبل برودكشنز)
من عروض الجونة: «الجزائر» (تمبل برودكشنز)

مع بدء أعمال الدورة السابعة من مهرجان الجونة التي انطلقت الخميس، تتوالى سلسلة من المهرجانات السينمائية العربية الملتزمة بتقديم جديدها من الإنتاجات المحلية والعالمية لجمهور حاشد يريد التعرّف على تلك الأعمال آملاً أن تلبّي هذه المهرجانات حاجته لمشاهدة إنتاجات لن تكترث لها شركات التوزيع التقليدية التي تكتفي بجمهور جاهز هو، في واقعه، مختلف تماماً في رغباته وتطلّعاتها.

مهرجانات حاشدة

تتوالى هذه المهرجانات تبعاً لجدول زمني مختلف.

فالدورة الجديدة من مهرجان الجونة انطلقت أمس، ويستمر المهرجان حتى الأول من نوفمبر (تشرين الثاني). يليه بفاصل 12 يوماً مهرجان القاهرة في دورته الـ44 الذي يستمر حتى 22 من الشهر نفسه.

يلي «القاهرة» مهرجان «مراكش» في دورته الجديدة التي ستنطلق في 29 من نوفمبر حتى 7 ديسمبر (كانون الأول).

وخلاله يُفتتح مهرجان «البحر الأحمر» في دورته الثالثة، وذلك ما بين الخامس والرابع عشر من ديسمبر المقبل.

من الفيلم التونسي «ماء العين» (إنستيكت بلو)

وعلى غير عادة سيختتم «أيام مهرجان قرطاج السينمائية» سلسلة هذه المهرجانات، وهو الذي كان يتوسطها سابقاً. هذا العام نُقل ليقع ما بين يوم ختام «البحر الأحمر» وحتى 21 من ديسمبر.

هذا الجدول من النشاطات أشبه بسباق تنافسي تحوّل، وليس للمرة الأولى، إلى زحمة سير.

لكن ذلك لا يحدث للمرّة الأولى، بل منذ سنوات باتت بعيدة، فعندما انطلق مهرجان دبي في ديسبمر من كل عام، وجد نفسه محاطاً بمهرجانات قديمة وجديدة على التو. كان هناك مهرجانا القاهرة وقرطاج اللذان يتقدّمان، تاريخياً، كل مهرجانات المنطقة، ثم أُطلقت مهرجانات أبو ظبي والدوحة والجونة ومراكش.

كل منها أراد نصيبه من الكعكة (وأحياناً ما يستطيع من نصيب سواه)، وسعى إلى ذلك ببذل مالي كبير يتجاوز ما كانت عليه ميزانيات المهرجانات العربية التقليدية (القاهرة، وقرطاج وعدد من المهرجانات الصغيرة حجماً) شرطاً رئيسياً لاستحواذ النجاح وتبوؤ القمّة بين كل المهرجانات العربية.

أتاح توقف مهرجان «دبي» سنة 2014 (الذي حافظ على مكانته رغم المنافسة) مساحة عمل أوسع للمهرجانات الرئيسية الأخرى آنذاك، خصوصاً أن مهرجان «أبو ظبي» توقف قبل ذلك العام، ثم أقفل مهرجان «الدوحة» مهرجانه الدولي مفضّلاً اعتماد مهرجانين متخصصين (وأصغر حجماً).

مدير مهرجان قرطاج فريد بوغدير (بوابة تونس)

سببان وجيهان

توقف مهرجان «مراكش» بدوره إنما لسنتين غُيّرت خلالهما الإدارة ورُتّب وضعه بحيث يتحوّل إلى نقطة لقاء بين السينما الأجنبية وتلك العربية. هذا كان أحد أسس مهرجان دبي، الذي تولّى رئاسته عبد الحميد جمعة بنجاح كبير وأداره فنياً مسعود أمر الله بنجاح موازٍ.

في هذا الإطار نجد أن كل هذه المهرجانات الواردة أعلاه تشكل، طبيعياً، جسراً بين ما هو عربي وأجنبي ثقافياً وفنياً ولو بدرجات متباينة. فمهرجان قرطاج حافظ على تميّزه، مهرجاناً يُقام احتفاءً بالسينما العربية والأفريقية أساساً ولم يعمد إلى بلورة اتجاه صوب المفهوم التقليدي للعالمية إلا من خلال أفلام محددة خارج مسابقته.

ما سبق لا يجيب بعد عن السبب التي على هذه المهرجانات الخمس التزاحم على مدار أسابيع معدودة من كل عام وعلى نحو متداخل في بعض الأحيان. ما الذي يمنع انتقال بعضها لمواعيد زمنية أخرى خلال أشهر السنة الباقية. إذا كان الصيف غير مناسب بسبب درجة حرارته فماذا عن الربيع والأشهر الثلاثة الأولى من السنة؟

هناك سببان أساسيان لذلك، أحدهما أن الأشهر الثلاثة الأخيرة من كل عام هي الفترة المناسبة لانتهاء العمل على أفلام عربية كانت قيد التصوير. والمنافسة على هذه الأفلام بين المهرجانات التي تريد استحواذها شديدة ومعظمها إما يُختار مسبقاً، بسبب نظام الدعم المادي، أو لاحقاً شرط ألّا يشهد عرضه الأول في مهرجان آخر.

خيارات

السبب الثاني، إنها الفترة التي يتم للِجان الاختيار معاينة ما جرى تداوله من أفلام عربية وأجنبية في مهرجانات السنة من «برلين» و«روتردام» و«سندانس» (في مطلع كل سنة)، إلى «كان»، و«لوكارنو»، و«كارلوڤي ڤاري»، و«ڤينيسيا»، و«تورونتو» من بين أخرى.

لا يعني ذلك أن المهرجانات العربية لا تتسلم طلبات لقبول أفلام يبعث بها صانعوها مكتفية بتجميع ما عُرض سابقاً. ما يعنيه هو ملاءمة النصف الثاني من السنة لبدء الاختيارات وتكوين الجسم الفعلي للدورات وتحضيرها للأسابيع الأخيرة من السنة.

اختيارات المهرجانات المذكورة للأفلام ليست معروفة بعد. فقط «الجونة» كشف عن أفلامه، وهي مجموعة محترمة من الأعمال العربية، مثل فيلم «جزائر» لشكيب طالب بندياب (إنتاج جزائري - فرنسي)، و«توكسيك» لشول بليوڤاتي (إسبانيا) من بين 15 فيلماً في المسابقة الروائية الطويلة، و12 فيلماً في مسابقة الفيلم التسجيلي والوثائقي الطويلين.

لا شيء معروفاً أو مؤكداً بالنسبة للمهرجانات الأخرى. إعلان مهرجان «القاهرة» (ما زال تحت إدارة ناجحة لرئيسه حسين فهمي ومديره عصام زكريا)، عن أفلامه سيُعمّم قريباً. مهرجان «قرطاج» شهد تغيّر قيادة، وهو الآن تحت إدارة المخرج فريد بوغدير ومن أفلامه التونسية المرتقبة «ماء العين» لمريم جبّور، مع احتمال عرض «الكل يحب تودة» للمغربي نبيل عيّوش خارج المسابقة، وهو حالياً أحد الأفلام المتسابقة في مهرجان «الجونة».


مقالات ذات صلة

هند صبري: صُنّاع السينما العربية يخشون المجازفة ببطولات نسائية

يوميات الشرق صبري تُعدّ نفسها ممثلة عصامية (الجونة السينمائي)

هند صبري: صُنّاع السينما العربية يخشون المجازفة ببطولات نسائية

قالت الفنانة التونسية هند صبري إنها تُعد نفسها ممثلة «عصامية»، فهي لم تدرس التمثيل لكنها تؤدي مشاهدها بإحساس فطري.

انتصار دردير (الجونة (مصر))
يوميات الشرق لقطة من الفيلم (الشركة المنتجة)

«أثر الأشباح»... يُوثّق مطاردة لاجئ سوري لـ«جلّاده» في فرنسا

ضحية يبحث عن جلاده للانتقام، لكن مع وصوله إليه تتغير نظرة الضحية للتعامل مع جلاده الذي لم يشاهد وجهه خلال التعذيب.

أحمد عدلي (الجونة (مصر))
يوميات الشرق شريفة ماهر في فيلم «رابعة العدوية» (يوتيوب)

رحيل الفنانة المصرية شريفة ماهر عن عمر 92 عاماً

رحلت عن عالمنا، السبت، الفنانة المصرية شريفة ماهر عن عمر يناهز 92 عاماً، بعد مشوار فني حافل بالعطاء في المسرح والسينما والتلفزيون.

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
يوميات الشرق داليدا خليل تُساند لبنان من دبي (حسابها الشخصي)

داليدا خليل: الإقامةُ في دبي ولبنانُ يشتعلُ ألمُها مُضاعَفٌ

سجَّلت الفنانة اللبنانية داليدا خليل عبر رابط يُلحِقها بجمعيات خيرية لدعم أبناء أرضها بالمساعدات، وتعمل بلا توقُّف لتكون يداً خيِّرة وسط الأيادي الممدودة.

فاطمة عبد الله (بيروت)
الوتر السادس ليلى مراد وعبد الحليم حافظ (أرشيفية)

لماذا اختفت الأفلام الغنائية من خريطة السينما المصرية؟

شهدت السينما المصرية على مدار عقود صناعة أفلام تنوعت حكاياتها ما بين الرومانسي، والتراجيدي، والكوميدي، و«الأكشن» والإثارة، بالإضافة إلى الفيلم الغنائي والموسيقي

داليا ماهر (القاهرة)

كيف عبرت سينما لبنان عن حروبه وأزماته؟

القضية 23 (إيزكيَل فيلمز)
القضية 23 (إيزكيَل فيلمز)
TT

كيف عبرت سينما لبنان عن حروبه وأزماته؟

القضية 23 (إيزكيَل فيلمز)
القضية 23 (إيزكيَل فيلمز)

بينما تقصف الطائرات الإسرائيلية مناطق لبنانية عدّة وتدمّر بلدات وضواحي، وتُغير على المدن صغيرة وكبيرة، لا يسعُ المرء إلا ضمّ هذه الفترة الحاسمة التي يمر بها لبنان إلى فترات ومراحلَ عاشها هذا الوطن المكبّل منذ نحو نصف قرن. هذا إذا ما عفونا عما سبق ذلك من مراحل صعبة أخرى وإن لم تكن بهذه الحدّة.

أفلام أولى

انطلقت الحرب الأهلية في لبنان سنة 1975 وازدادت شراسة بعد أشهر قبل أن تتحوّل إلى منوال حياة لنحو 16 سنة. خلالها وبعدها كان من الطبيعي للسينما أن تصوّر تلك الحرب من زوايا مختلفة. هي مجرد تسجيل وتوثيق في أفلام، ودراميات منتشرة على جانبي خط التماس في أفلام أخرى. بطبيعة الحال انتمى معظمها للتعبير عن الأسى والمُصاب وكيف أن شعب بلدٍ واحد تشرذم سياسياً وعمد إلى السّلاح لإثبات أن الآخر يجب أن يُمحى.

المخرج جورج شمشوم أنجز فيلماً وثائقياً طويلاً بعنوان «لبنان لماذا». العنوان نفسه يحمل حزناً أكبر من السؤال المطروح عبره. صُوّر على جانبي الخط الفاصل بين الفُرقاء وجاء، في نسخته الأولى غير المعدّلة، عاكساً لرغبة المخرج تسجيلَ الحقائق بحياد.

معارك حب (موڤنتو فيلمز)

على بُعدٍ يسير حقّق الرّاحل رفيق حجّار «الملجأ» (في مطلع الثمانينات) ليصفَ وقعَ الحربِ على أبرياء مسلمين ومسيحيين. نظرة حيادية أخرى تحميها الغاية الإنسانية التي تبنّاها الفيلم.

بعد ذلك ازداد عددُ الأفلام التي تداولت تلك الحرب حتى - وربما خصوصاً - من بعد نهاية سنواتها المريرة. من أبرز أعمال تلك الفترة «زنّار النار» لبهيج حجيج تدور قصّة حول أستاذ مدرسة يواجه أزمتين حادتين، واحدة شخصية وعاطفية، والأخرى أزمة الحرب الواقعة.

الأزمة تتبدّى كذلك عبر تطلّعات فتاة تعيش جوّ عائلتها المسيحية في الفيلم الأول لدانيال عربيد «معارك حب»، تناولتها من زوايا مختلفة المخرجة مي المصري في «يوميات بيروت»، و«أحلام المنفى»، و«أطفال شاتيلا»، وهي مجموعة من أعمال حققتها وزوجها الراحل جان شمعون، تناولت الوضع اللبناني من خلال المأساة الفلسطينية والاعتداءات الإسرائيلية التي، للحقيقة، قلّما تباعدت فعلياً خلال نصف قرن من الزمان بدءاً بعمليات اغتيال شخصيات لبنانية وفلسطينية عدّة في الستينات وما بعد.

بين بغدادي وعلوية

قبل ذلك بأعوام، قاد مخرجان لبنانيان قطار الحديث عن لبنان كأزمة عيش وأزمة حرب. المخرجان هما برهان علوية، ومارون بغدادي. كلاهما رحل. الأول في المنفى، والثاني خلال زيارة لبيروت آتٍ من فرنسا حيث كان انتمى إلى هيكل أعمالها.

في «بيروت اللقاء» لعلوية (1982)، حكاية لقاءٍ لا يتم بين مسلم ومسيحية. الظروف المانعة هي تلك الحرب المجنونة. وجهة نظر الفيلم هي ما تعنيه الحرب من انكسارات نفسية وعاطفية. ليس أن حيدر (هيثم الأمين)، وزينة (نادين عاقوري)، عاشقان قبل أو خلال تلك الحرب، بل كلاهما ينشد معرفة الآخر لعله يعرف نفسه أكثر.

الرغبة في المعرفة قادت مارون بغدادي لتحقيق فيلمين عن هذا الموضوع هما، «بيروت يا بيروت» (1975)، و«حروب صغيرة» (1982). الأول تعبيرٌ عن الشعور الداخلي الذي كان ينتاب المخرج حيال التركيبة الطائفية والاجتماعية. بطلته (ميراي معلوف) تسعى لمعرفة الآخر، في حين صديقها المثقف (جوزيف بو نصّار)، محافظٌ يؤمن بالتباعد وليس مهتماً بمعرفة ذلك لآخر. كلاهما من عائلتين مسيحيّتين، والآخر لا بد أن يكون الطّرف المسلم الذي يؤيد القضية الفلسطينية والعدالة الاجتماعية والعروبة.

في فيلمه اللاحق «حروب صغيرة» (الأفضل حرفياً من سابقه)، نقل بغدادي المعادلات نفسها إلى وطيس الحرب الأهلية. النماذج التي تعبّر عن مواقف هي ثابتة: المرأة التي تنشد المعرفة. المسلم الذي يبحث عن مستقبل، والمسيحي الملتزم.

زنار النار (بورتريه أند كومباني)

سجل حساب

من الأفلام التي طَرحت إفرازات الموقف بعد الحرب وعلى نحو جيد ومحسوب، فيلم زياد الدويري «القضية 23» (2017). أحداثه تقع بعد الحرب بسنوات، بيد أن بعض أسبابها لا تزال قائمة: طوني (عادل كرم)، رجل من المهجَّرين منذ أن اكتسح المقاتلون الفلسطينيون واليساريون منطقة الدامور خلال الحرب الأهلية، يعيش الآن في بيروت (الشرقية)، ويعمل في كاراجه ويشحن بطارياته السياسية بخطب زعماء اليمين اللبناني حاملاً ضغينة ضد الفلسطينيين. لذلك، ما إن سمِع لهجة رجل فلسطيني يقف تحت شُرفة منزله حتى رمى عليه الماء.

الفلسطيني هو ياسر (كامل الباشا)، يعمل وكيلَ عمّالٍ في البلدية، ويشرف على تنفيذ إصلاحات في الشارع حيث يعيش طوني، الذي يُخبر ياسر في مطلع المشادة بينهما «يا ليت شارون قضى عليكم جميعاً». التجاذب يُدلي إلى مشادة، والقضية تُرفع إلى المحكمة بين شخصين؛ الأول ما زال يحمل مبادئه السياسية، والآخر يحاول أن يحافظ على موقعه ليعيش. في مرافعات طوني حديثٌ عن أن الفلسطيني يُعامَل في لبنان أفضل من معاملة اللبناني في بلده. لكن المحكمة حكمت لصالح الفلسطيني، خصوصاً أنه مُتعاقد رسمياً مع مؤسسة الحكومة للقيام بما عُهد إليه من أعمال.

هذا واحد من سجلِّ الحسابات المفتوحة التي ما زال الوضع السياسي يعجّ بها إلى اليوم. لكنه ليس السجِّل الوحيد. على سبيل المثال حظت قضية المخطوفين والمفقودين ببعض الأفلام التي عالجت ذلك الجرح الغائر. ربما دفنته لدى بعضهم الأيام وصولاً إلى الحال الراهن، لكنّ الأحياء الذين عانوا من غياب أفراد عائلاتهم ما زالوا يتذكرون ويتألمون.

أفضلُ تصوير لذلك ورد في فيلم «طرس... الصعود إلى المرئي» لغسان حلواني (2019). تسجيلي مشغول بوصفه نبشاً فنياً وموضوعياً فريداً في جدار الذاكرة.

في صميمها، هذه نماذج من كثير من الأفلام التي صاحبت تلك الحرب الأهلية، ومن ثَمّ تابعتها أو أتت بجديد مُستنتج منها وصولاً إلى وضع جديد حاضر سيُنتج بدوره أفلاماً أخرى.