قراءة في موجة «سينما الأمس» الفرنسية البوليسية

أبطالها مجرمون يستحقون الشفقة

إيڤ مونتان وآلان ديلون في «الدائرة الحمراء» (ريالتو بيكتشرز)
إيڤ مونتان وآلان ديلون في «الدائرة الحمراء» (ريالتو بيكتشرز)
TT

قراءة في موجة «سينما الأمس» الفرنسية البوليسية

إيڤ مونتان وآلان ديلون في «الدائرة الحمراء» (ريالتو بيكتشرز)
إيڤ مونتان وآلان ديلون في «الدائرة الحمراء» (ريالتو بيكتشرز)

تفتح وفاة الممثل ألان ديلون نافذة على حقبة معيّنة من الأفلام لعب دوراً أساسياً فيها مع عدد كبير من الممثلين الذين، في وقت ما، كانوا أيضاً من عماد الشاشة الفرنسية والنوع البوليسي تحديداً. المجال نفسه يوفر استعراض بعض تلك الأفلام التي لمعت (وبعضها لا يزال) ما بين مطلع الستينات ونهاية السبعينات. الحقبة التي كانت (بدورها) أهم إنجازات السينما العالمية في كثير من الدول.

أحزان ورغبات

ألان ديلون كان شريكاً في هذه الورشة التي عمد إليها بعض أفضل مخرجي السينما الفرنسية من كلود سوتيه، وألان كورنو، إلى جان - بيير ملڤيل، وجاك ديراي، وهنرى ڤرنووَل، وبيير - غارنييه، وفيليب د بروكا، وجوزيه جيوڤياني... من بين آخرين.

السّمة المشتركة بين هذه الأفلام لا تنحصر في معالجات جادة تختلف 180 درجة عمّا نشاهده اليوم من أفلام تدمج الحكاية البوليسية بالكوميديا أو تنتحي بها صوب مدارات فانتازية؛ بل تشمل كذلك فعل الإخراج المدروس واللون المنتمي إلى الواقع قدر الإمكان، كما أن ممثلي هذا النوع كانوا من جهابذة الفنانين الفرنسيين: جان غابان، ولينو ڤنتورا، وميشال بوكيه، وإيڤ مونتان، وجان - لوي ترتنيان، وميشال كونستانتين، وميشال سيرو، وطبعاً ألان ديلون.

أفلام هؤلاء لم تحتفِ بالمجرمين كأبطال يفرضون على المشاهدين سوء أفعالهم، كما تفعل أفلام التسعينات وما بعد. ليس هناك ذلك التلذّذ حول كيف تكون مجرماً دون عقاب. على العكس، كثير منها، استمد من تلك الشخصيات متاعبها وأحزانها ورغباتها المتوجة بالإخفاق.

كلود شابرول وستيفن أودران في «قبل منتصف الليل» (ليبرا فيلمز)

خذ مثلاً نهاية فيلم «الدائرة الحمراء (Le cercle rouge)» لجان - بيير ملڤيل (1970)، تصوّر مقتل الأشقياء الثلاثة ألان ديلون، وإيف مونتان، وجيان - ماريا ڤولونتي بعد نجاحهم في سرقة محل مجوهرات خَصّص له المخرج نحو ربع ساعة مفصّلة ومشوّقة. الشعور المكتسب لدى المشاهد هو أن حياة هؤلاء مصير لا يتوقف من المعاناة الفردية الصامتة (لا يشي بها أي حوار) بحيث يتركك المشهد وفي الحلق غصّة وشعور بذنب الاصطفاف معهم.

مثل شخصيات أخرى في أفلام بوليسية أميركية وفرنسية كثيرة هم ليسوا أشراراً، لذلك يقع المشاهد في حبّهم. كذلك الحال في فيلم ملڤيل الآخر «الساموراي» (1967) حيث يحاول ألان ديلون إبعاد شبح الوشاية والهزيمة عنه حتى آخر نفس.

هذه أيضاً نهاية لينو ڤنتورا في «المخاطرة الكبرى (The Big Risk)» لكلود سوتيه. ڤنتورا المطارد من قِبل البوليس عليه أن يجد مكاناً يؤمن فيه حماية زوجته (ساندرا ميلو) وابنهما، يساعده جان - بول بلموندو ويشي به مارسيل داليو وينتهي بمقتله.

لينو فنتورا وجان-بول بلموندو: «المخاطرة الكبيرة» (نيووِن برودكشنز)

شابرول المختلف

ألان ديلون متورّط في سرقة مجوهرات، مثلما فعل في «الدائرة الحمراء»، في فيلم هنري ڤرنووَل «العصبة الصقلية (Le Clan des Siciliens)» الذي يدور كذلك حول خطة محكمة لسرقة مجوهرات تنتهي على عكس ما يرغب المشاركون فيها. لينو ڤنتورا هنا ينتقل إلى دور المحقق وجان غابان رئيس العصابة.

وهناك رغبة انتقام في فيلم جان بكَر (Becker) «رجل اسمه روكا (Un Nommé la Rocca)» (1961)، من بطولة جان - بول بلموندو الذي كان قبل عامين لعب بطولة فيلم بوليسي لجان-لوك غودار هو (À bout de souffle) «بلا نفس» مؤدياً شخصية شاب قتل شرطياً لكن عوض أن يهرب عاد إلى باريس ليلتقي المرأة الأميركية التي يحب (جين سيبرغ). هذه تشي به وتشهد نهايته وهو الذي كان قال لها خلال اللقاء: «الرجل تقتله المرأة التي يحب».

كتب هذا الفيلم زميل غودار حين كانا من نقاد مجلة «كاييه دو سينما» فرنسوا تروفو الذي داعب الفيلم البوليسي في عام 1960 بتحقيق فيلم بوليسي من صنف مختلف (كما حال فيلم غودار ومعظم أفلام زميلهما الثالث من صفحات تلك المجلة كلود شابرول) هو «أقتل لاعب البيانو» (Shoot the Piano Player) مع شارل أزناڤور في البطولة.

بالنسبة لكلود شابرول نراه عمد إلى أسلوب تشويقي خاص به في مختلف أفلامه في تلك الفترة وما بعدها، فقدّم سنة 1969 «زوجة غير مخلصة» (La femme infidèle) حول زوج (ميشال بوكيه) يرتاب بزوجته (ستيفاني أودران) ويكتشف أن شكوكه في مكانها فيقتل عشيقها.

في العام التالي أخرج شابرول «الجزّار» (The Butcher)، حيث ذلك اللحّام (جان يان) الذي قد يكون المجرم الذي ينقل مهارته في الذبح إلى البشر.

أحد أفضل أفلامه على نحو مطلق هو «قبل حلول الليل» (Juste avant la nuit) الذي سلّم قيادته أيضاً إلى ميشال بوكيه في دور رجل يقتل عشيقته التي هي زوجة أقرب أصدقائه وينفد من العقاب بعدما قررت زوجته غض النظر عن فعلته.

يقترب فيليب لابرو من منوال شابرول في «من دون دافع واضح» (sans mobile apparent)، الفيلم الذي أخرجه ببراعة سنة 1971 عن جرائم قتل مجهولة الدوافع من بطولة جان- لوي ترتنيان. أحد أفلامه الملائمة في هذا النطاق (L'Alpagueur) الذي عُرض عالمياً بعنوان «الصياد سيصل إليك» (The Hunter Will Get you)، من بطولة جان- بول بلموندو مازجاً البوليسي بالأكشن كما غالبية أعماله.

بلموندو أيضاً ظهر في فيلم جوزي جيوڤاني La Scoumoune. إنتاج من عام 1972 عرضته صالات لندن سنة 1974 تحت عنوان Hit Man، وهو عن رواية كتبها جيوڤاني، وهي ذاتها التي كان جان بكَر حققها سنة 1961 بعنوان «رجل اسمه روكا» كما تقدّم.

كل ما سبق طمح (وكثيراً ما حقق) الرغبة في تصوير عالم داكن من الحكايات البوليسية التي تصوّر حياة المجرمين، وقد أحيطت بدائرة من النوازع الشخصية والمصائر القدرية. وإذا كان لا بد من جملة أفلام تلخّص هذا الجانب بوضوح ومهارة فلتكن تلك التي حققها جان-بيير ملڤيل مما تم ذكره هنا لجوانب أخرى لم يتسع المجال لها.


مقالات ذات صلة

هند الفهاد: أنحاز للأفلام المعبرة عن روح المغامرة

يوميات الشرق هند الفهاد على السجادة الحمراء مع لجنة تحكيم آفاق عربية (إدارة المهرجان)

هند الفهاد: أنحاز للأفلام المعبرة عن روح المغامرة

عدّت المخرجة السعودية هند الفهاد مشاركتها في لجنة تحكيم مسابقة «آفاق السينما العربية» بمهرجان القاهرة السينمائي بدورته الـ45 «تشريفاً تعتز به».

انتصار دردير (القاهرة )
يوميات الشرق «أرزة» تحمل الفطائر في لقطة من الفيلم اللبناني (إدارة المهرجان)

دياموند بو عبود: «أرزة» لسانُ نساء في العالم يعانين الحرب والاضطرابات

تظهر البطلة بملابس بسيطة تعكس أحوالها، وأداء صادق يعبّر عن امرأة مكافحة لا تقهرها الظروف ولا تهدأ لتستعيد حقّها. لا يقع الفيلم اللبناني في فخّ «الميلودراما».

انتصار دردير (القاهرة)
يوميات الشرق المخرج المصري بسام مرتضى يرفع بجوائز فيلمه «أبو زعبل 89» (إدارة المهرجان)

«القاهرة السينمائي» يوزّع جوائزه: رومانيا وروسيا والبرازيل تحصد «الأهرامات الثلاثة»

أثار الغياب المفاجئ لمدير المهرجان الناقد عصام زكريا عن حضور الحفل تساؤلات، لا سيما في ظلّ حضوره جميع فعاليات المهرجان.

انتصار دردير (القاهرة)
يوميات الشرق معابد الأقصر تحتضن آثار الحضارة القديمة (مكتبة الإسكندرية)

«تسجيلي» مصري يوثّق تاريخ الأقصر «أقوى عواصم العالم القديم»

لم تكن قوة الأقصر ماديةً فحسب، إنما امتدّت إلى أهلها الذين تميّزوا بشخصيتهم المستقلّة ومهاراتهم العسكرية الفريدة، فقد لعبوا دوراً محورياً في توحيد البلاد.

محمد الكفراوي (القاهرة )
يوميات الشرق مشهد من الفيلم السعودي «ثقوب» (القاهرة السينمائي)

المخرج السعودي عبد المحسن الضبعان: تُرعبني فكرة «العنف المكبوت»

تدور الأحداث حول «راكان» الذي خرج إلى العالم بعد فترة قضاها في السجن على خلفية تورّطه في قضية مرتبطة بالتطرُّف الديني، ليحاول بدء حياة جديدة.

أحمد عدلي (القاهرة )

غياب مُريب لأفلام التاريخ العربي والإسلامي

«أسد الصحراء» (فالكون إنترناشيونال)
«أسد الصحراء» (فالكون إنترناشيونال)
TT

غياب مُريب لأفلام التاريخ العربي والإسلامي

«أسد الصحراء» (فالكون إنترناشيونال)
«أسد الصحراء» (فالكون إنترناشيونال)

يُقيم «مهرجان القاهرة» الذي بدأ دورته الـ45 يوم أول من أمس، ندوة خاصة عن المخرج والمنتج مصطفى العقاد الذي كان رحل في مثل هذه الأيام ضحية عملية إرهابية في عمّان قبل 19 سنة.

مُخرج «الرسالة»، عن نشأة الإسلام، و«عمر المختار»، عن مناضل في سبيل استقلال بلاده، كانا، ولا يزالان، أكبر إنتاجين عربيين- عالميين عرفته السينما.

المناسبة تستحق الاهتمام أولاً لإعادة التّذكير بمخرج عربي اخترق الجدار الصّامت حول تاريخ العرب والإسلام في فيلميه «الرسالة» (1976)، و«أسد الصحراء» (1980). وثانياً، لأنه المخرج العربي الوحيد الذي نجح في تحويل أحداث تاريخية عربية إلى الشاشة بنظام 70 مللم بانافيجين كما أفلام البريطاني ديڤيد لين، وفي مقدّمتها «لورنس العرب» (1962) الذي جمع ممثلين عالميين (أنطوني كوين، وبيتر أو تول، وأليك غينس، وجاك هوكينز، وكلود رينز) إلى جانب عمر الشريف وجميل راتب من مصر.

بعد عرضه الخاص في «مهرجان القاهرة» سينطلق في عروض عربية عديدة في جدّة، والدوحة، ودبي، والقاهرة والسعي جارٍ لتوسيع الرقعة عربياً وعالمياً.

مصطفى العقاد يتوسط عبد الله غيث وأنطوني كوين خلال تصوير «الرسالة» (فالكون إنترناشيونال)

خبرات ومواهب

لم يكن سهلاً على الممثلين الذين ظهروا في فيلمي العقاد تسليمَ مقادير مهنتهم آنذاك لمخرج عربي غير معروف، كلّ ما كان لديه لتقديمه - لجانب طموحه - أنه اشتغل مساعد إنتاج وإخراج في بعض المحطات التلفزيونية الأميركية. لكن العقاد فاز بالثقة سريعاً مع احتمال أن يكون الموضوعان المثاران في هذين الفيلمين عنصرَي جذب إضافي. الأول دار حول رسالةٍ (عن الدين الإسلامي) لم يتعرّف عليها الغرب في فيلم سابق، بل بقيت مودوعة في دراسات أكاديمية وكتب. الثاني ثورة ليبية ضدّ الاستعمار الإيطالي صاغها العقاد بعناية وتوازن. وراعى فيه جودة التقديم أيضاً.

«الرسالة» تم بنسختين منفصلتين واحدة عربية أمّ تمثيلها بعض أفضل الخبرات المصرية والمغاربية والسورية واللبنانية، وواحدة بالإنجليزية وكلاهما كانا نجاح عمل مدروس رغم صعوبة تنفيذه.

الفيلم الثاني حكى أن هناك ثورات أخرى وقعت خلال احتلال أجزاءٍ من العالم العربي وأن الموت الجماعي حاذى سواه ممّا حول العالم.

ما إن وقّع أنطوني كوين وإيرين باباس على العقد المبرم لهما، حتى تداعى الآخرون أمثال مايكل أنسَارا وداميان تومس ومايكل فورست.

لاحقاً، عندما خرج «الرسالة» إلى عروض عالمية شملت بلداناً عربية وغربية عديدة، حتى صار من الأسهل جذب نجوم آخرين تقدَّمهم، مرّة ثانية، أنطوني كوين في دور عمر المختار. حينها قال كوين لهذا الناقد في مقابلة: «لم أكن أعرف شيئاً عن التاريخ العربي. العقاد فتح عينيّ على هذا التاريخ المجهول بفيلميه، وبرؤية ثاقبة، وكيفية إنتاج مناسب لفيلم تاريخي كبير. بصفتي ممثلاً أرى أن كلّ شيء كان في مكانه الصحيح».

«المسألة الكبرى» (المؤسسة العامة للسينما والمسرح)

محاولات غير مجزية

لا يمكن إغفال حقيقة أن الأفلام التاريخية - الدينية العربية كان لها حضور سابق لـ«الرسالة». نتحدّث عن «واإسلاماه» للأميركي أندرو مارتون الذي أُنتج في مصر سنة 1961 وخاض بطولته كلٌ من لبنى عبد العزيز (في دور شجرة الدر)، وأحمد مظهر ورشدي أباظة ويوسف وهبي ومحمود المليجي وكاريوكا وعماد حمدي وفريد شوقي.

قبله بعشر سنوات أقدم إبراهيم عز الدين على تحقيق «ظهور الإسلام» بإمكانات محدودة مع كوكا وعماد حمدي وأحمد مظهر وسراج منير بين آخرين. ثم بعد 10 سنوات على ظهور «واإسلاماه» أنجز صلاح أبو سيف «فجر الإسلام». الذي استفاد من خبرة أبو سيف ولو أنه في النهاية بقي إنتاجاً محلياً للسوق العربية.

هناك أيضاً «الناصر صلاح الدين» ليوسف شاهين (1963)، الذي وظّف فيه المخرج أفضل طاقاته وطواقمه ما ساهم، بجانب اسمه المعروف، في انضمام هذا الفيلم إلى باقي ما ذُكر في عالمٍ عربيٍّ كان يتطلّع إلى مثل هذه الأفلام الترويجية لموضوعاتها باهتمام كبير يناسب كل ذلك الجهد الذي شهدته هذه الأعمال.

أدركت السينما العراقية أن هناك طريقاً لإنتاجات تصبو للعالمية بموازين ونُظم إنتاج برهن العقاد أنها ممكنة. في هذا الصّدد حقّق المخرج صلاح أبو سيف «القادسية» في عام 1981 بطلب من الحكومة خلال الحرب العراقية الإيرانية. الفيلم جاء كبير الإنتاج كما أُريد له أن يكون، ركيكاً في نواحيه الفنية، ودعائياً فيما تبقى.

مؤسسة السينما العراقية التي أنتجته كانت التفتت سنة 1980 إلى المخرج المصري الآخر توفيق صالح، وأصرّت على أن يُنجِز «الأيام الطويلة»، الذي عاد إلى تاريخٍ أقرب ليسرد جزءاً من سيرة حياة الراحل صدّام حسين.

في عام 1983 حقّق العراقي محمد شكري جميل «المسألة الكبرى» (1983) عن ثورة العراقيين ضد الاحتلال البريطاني. جلب المخرج مدير التصوير جاك هيلديارد، الذي كان عمل مع العقاد على فيلميه، والممثل أوليڤر ريد الذي كان اشترك في بطولة «أسد الصحراء»، لكن هذه الأفلام بقيت محدودة الانتشار ولم تتجاوز حدود العرض في بعض الدول العربية.

ما حدّ من انتشار هذه الأفلام عالمياً هو معضلة إنتاجات عربية كثيرة حينها، هي سطو «القضية» على المعالجة الفنية، هذا إلى جانب أن العقاد فَهِم وهضم قواعد الإنتاجات العالمية أكثر من سواه.