شاشة الناقد: اكتشاف متعة الحياة قبل أفولها

بل ناي خلال إخراج «عيش» (بريتيش فيلم إنستتيوت)
بل ناي خلال إخراج «عيش» (بريتيش فيلم إنستتيوت)
TT

شاشة الناقد: اكتشاف متعة الحياة قبل أفولها

بل ناي خلال إخراج «عيش» (بريتيش فيلم إنستتيوت)
بل ناي خلال إخراج «عيش» (بريتيش فيلم إنستتيوت)

تميّز فيلم «لكي تحيا» (Ikiruّ) للياباني أكيرا كوروساوا (1952) بأنه فيلم ياباني صميم ودراما مؤسسة لكي تكون أكثر عمقاً في تناولها لدواخل شخصيتها الرئيسية من معظم أفلام كوروساوا السابقة. لذلك قيام مخرج آخر باقتباس الفيلم وإعادة صنعه ليس أمراً سهلاً، خصوصاً إذا ما حاول ملامسة ذات الجروح الإنسانية التي سادت بطل الفيلم والنفس الحزين للفيلم ذاته. خصوصاً أيضاً أن الفيلم السابق هو من بين أهم الأعمال الكلاسيكية عالمياً.

في كلا الفيلمين قصّة ذلك الموظّف الذي اقترب من سن التقاعد، وهو ما زال منكبّاً على العمل في مكتب ترمى عليه ملفات ومسؤوليات. من عقود لا يفعل شيئاً سوى المجيء بانتظام في الساعة المحددة لبدء العمل. يمضي اليوم وراء مكتبه ويعود بعد ذلك إلى بيته.

ذات يوم يؤكد له الطبيب أنه سوف لن يعيش أكثر من بضعة أشهر. يشعر هذا الرجل بحزن عميق. يفشل في التواصل مع ولده وزوجة ولده. يتعرّف على شخص آخر ويبوح له بألمه الخاص. تبعاً لنصيحة ذلك الشخص ينطلق للتمتع بالحياة كما لم يفعل من قبل. يكتشف أنه عاش حياته في رتابة ولم يمنحها حقها من المتعة والعيش.

حسناً فعل المخرج أوليفز هرمانوس (مولود في جنوب أفريقيا ويعيش في بريطانيا الآن) حين لم يحاول نقل الحكاية من زمنها إلى زمن معاصر. بل حافظ على تلك الفترة بجمالياتها وهويّتها الخاصة. يستفيد، من المشاهد الأولى، من توفير الإنتاج لكل التصاميم الفنية والإنتاجية (قطارات وحافلات وملابس تحاكي تلك الفترة) ويصورها للمُشاهد على نحو موحي ورقيق.

في فيلم كوروساوا يُصيب الممثل تاكاشي شيمورا كل مرامي التعبير التراجيدي بدقّة، وحين يقرر تعويض ما فاته من الحياة لا يخسر ذلك القدر من الذات ولا يتحوّل الفيلم إلى ملهاة. هذا أيضاً ما يقوم به بل ناي (Nighy وتلفظ ناي) ليأتي انتقاله من الرجل الحزين الآسف إلى آخر يحاول التقاط المباهج التي فاتته من قبل طبيعياً ومقبولاً. هذا في الوقت الذي يحافظ فيه الفيلم على وحدة توجهه وأسلوب سرده فلا يتحوّل إلى الكوميديا ولا إلى الميلودراما الكافية لنسف كل الجهد الفني الدقيق المبذول.

للمقايضة، يقدّم «عيش» شاباً في يومه الأول من العمل (أليكس شارب) الذي يركب القطار ذاته متوجهاً إلى قلب لندن مع زملائه ويبدأ العمل متعاملاً مع متطلباته بحماس ورضا. إنه النسخة الخام من بطل الفيلم ويليامز. هذا قبل أن ننتقل كلياً إلى ويليامز ونتابع مسيرته التي تتضمن تصليح خطأ إداري يتعلق بثلاث موظّفات يطالبن ببعض الحقوق التي تكاد بيروقراطية المكاتب إضاعتها عليهن.

يحافظ المخرج هرمانوس على رقة ودعة الفيلم وينجو من فخاخ الاقتباس محققاً فيلماً هو بدوره رقيق الحاشية ووديع الأسلوب يزكّي الاعتماد على كاميرا تصمت وتصوّر ولا تحاول التكلم أو الاستعراض.


مقالات ذات صلة

داليا البحيري لـ«الشرق الأوسط»: لن أطرق باب أحد من أجل العمل

يوميات الشرق داليا تشدّد على أنها لن تطلب العمل من أحد (الشرق الأوسط)

داليا البحيري لـ«الشرق الأوسط»: لن أطرق باب أحد من أجل العمل

قالت الفنانة المصرية داليا البحيري إن التكريم الذي يحظى به الفنان يكون له وقع رائع على معنوياته إذ يُشعره بأنه يسير في الطريق الصحيح.

انتصار دردير (سلا (المغرب))
يوميات الشرق الفنان المصري محمود حميدة (صفحته على «فيسبوك»)

«الجونة السينمائي» يكرّم محمود حميدة بجائزة الإنجاز الإبداعي

أعلن مهرجان «الجونة السينمائي» في مصر عن تكريم الفنان محمود حميدة بمنحه جائزة الإنجاز الإبداعي في الدورة السابعة من المهرجان.

«الشرق الأوسط» (القاهرة )
سينما «الرحلة 404» اشتراك مصري لهاني خليفة (فيلم كلينيك)

سباق أوسكار أفضل فيلم أجنبي بدأ عربياً وأجنبياً

لم تتقدّم بعد أي دولة عربية بفيلم لها في غمار سباق أوسكار «أفضل فيلم عالمي» (أفضل فيلم أجنبي)، وسيكون من الملاحظ أن الزحام الذي حدث في العام الماضي

سينما «خط أخضر» (ماد سوليوشن)

شاشة الناقد: حروب أهلية

خط أخضر - عودة إلى الحرب اللبنانية في فيلم تسجيلي بتوقيع سيلڤي باليو (لبنان، قطر، فرنسا - 2024).

محمد رُضا (لندن)
يوميات الشرق أوطاننا تربّي القلق في أبنائها وتواجههم بأشكال النهايات (صور ماري لويز إيليا)

«الموت ومخاوف أخرى»... تمادي العبث اللبناني

الفيلم يتحوّل جماعياً بتبنّي حالة اللبناني المُدرِك أنّ خلف الفرح غصّة. وحين تقول صاحبته: «بِعتَل هَم انبسط»، فذلك لحتمية تسلُّل الأحزان من حيث لا ندري.

فاطمة عبد الله (بيروت)

شاشة الناقد: حروب أهلية

«خط أخضر» (ماد سوليوشن)
«خط أخضر» (ماد سوليوشن)
TT

شاشة الناقد: حروب أهلية

«خط أخضر» (ماد سوليوشن)
«خط أخضر» (ماد سوليوشن)

خط أخضر ★★★

* عودة إلى الحرب اللبنانية في فيلم تسجيلي بتوقيع سيلڤي باليو (لبنان، قطر، فرنسا - 2024).

تسعى المخرجة الفرنسية سيلڤي باليو جهدها للبقاء محايدة خلال تناولها الحرب الأهلية في لبنان، تلك التي يرى بعضنا أن آثارها ما زالت تتفاعل في وجوهٍ وجوانبَ متعددة. تمنح شريكتها في كتابة السيناريو، فِدى بزري مساحة كاملة لعرض التاريخ من دون تأييد طرف ضد آخر.

الآنسة بزري كانت فتاة صغيرة عندما نشبت تلك الحرب في منتصف السبعينات. تتذكر ما مرّت به جيداً والرعب الذي عاشته والآخرون وحادثة توجيه أحد المحاربين بندقيّته صوبها وهي بعدُ دون العاشرة من العمر.

تستعين بدمى وألعاب توزّعها كأنها خريطة كلما تحدّثت مع محارب سابق. هنا مبنى تحتلّه قوّة من اليمين المسيحي. هنا مبنى تحميه قوّة من الأحزاب اليسارية. هذا هو الشارع الفاصل. تُحرّك تلك الدمى كما يحرّك لاعب الشطرنج حجارته، وتتوقع من الشخص الذي تتحدّث إليه مشاركتها هذا التحريك. يوافق هنا ويُصحّح هناك ويُعلّق دوماً.

يجمع الفيلم عدداً كبيراً من المحاربين على نحوٍ منفرد باستثناء مشاهد أخيرة حيث يجلس حِزبيّ يساريٌّ مع حزبي يميني يسترجعان معاً ذكريات الحرب. أحدهما يريد أن ينسى. الآخر لا يستطيع أن ينسى.

بين تلك المقابلات يعرِض الفيلم مشاهد وثائقية من تلك الحرب. كثيرٌ منها في الناحية الغربية من بيروت حيث «تَمَترست» قوات أحزاب المرابطين، والاشتراكيين، والقوميين السوريين، والشيوعيين، ليتبادلوا النار على خط التماس (أو ما يسمّيه الفيلم بـ «الخط الأخضر») مع محاربي الكتائب والقوّات اللبنانية. شهادات هؤلاء وسواهم (مقابلتان مع مقاتلة ومقاتل مسيحيين سابقين) تكشف عن ذلك الخلاف الجذري الكبير ما بين طرفي الحرب. لكن المُشاهد لن يخرج بتحليلِ سياسي بقدر ما سيُتابع مسائل تتعلّق بوجهات النظر فيما حدث، ولماذا تصرّف كلّ مقاتلٍ تلتقيه المخرجة على النحو الذي تصرّف عليه.

بعض الأسئلة التي تُصّر عليها بزري، والفيلم من خلالها، ساذجة وربط النقاط المختلفة بين ذكرياتها ومحاولة فهمها اليوم عمّا دار وكيف ولماذا، تبدو بدورها متأخرة وملحاحة، عوض التّوجه صوب أسئلة مختلفة حين يتطلّب الأمر كذلك، لكن الفيلم يبقى واعياً لدوره ومرتبطاً به. معظم المتحدثين غير نادمين على الاشتراك في تلك الحرب، كل لحماية مبادئه ومعقله، لكنهم نادمون على أن الحرب نفسها وقعت.

* عروض: مهرجان لوكارنو.

THE SEED OF THE SACRED FIG ★★★☆

* «بذرة شجرة التين المقدّسة»: دراما سياسية لمحمد رسولوف (فرنسا، ألمانيا- 2024)

هروب المخرج محمد رسولوف من سجنه في إيران يشبه هروب المخرج يلماز غونيه من سجنه التركي في الثمانيات. كلاهما سُجن بسبب مواقفه السياسية، وكلاهما هرب من السجن (وإن كنا لا نعرف كل التفاصيل حول كيفية الهروب) وعُرض فيلمه الممنوع في مهرجان «كان». كلاهما كذلك دخل وخرج من السجون أكثر من مرّة.

«بذرة شجرة التين المقدّسة» (رَن واي بيكتشرز)

الموضوع الذي يتطرّق إليه رسولوف مختلف عن ذاك الذي قدّمه غونيه في «الجدار» (1983، قبل عام واحد من وفاته)، لكن كليهما له علاقة بالوضع السياسي وما يخلقه من اضطرابات كبيرة في حياة الأفراد. فيلم رسولوف هذا يعمد لانتقاد النظام القضائي ومن ناحية أخرى نظام الحكم ومتاعبه مع الجيل الجديد الذي يُنادي بالحريات والتحديث وإيقاف القمع.

يدور حول محقق قضائي اسمه إيمان (ميزاغ زاري) موعود بالارتقاء لمنصب قاضي عمّا قريب. زوجته نجمة (سهيلة غولستاني) تفرح للخبر كون منزلهما لم يعد كافٍ لعائلة من أربعة. ابنتيهما، رجفان (مهسا روستامي) وسانا (ستاره ماليكي) كَبِرا، وكلٌ منهما تحتاج إلى غرفة منفردة. في يوم يفتقد إيمان مسدّسه الذي عادة ما يتركه في الدُّرج بجانب السرير فلا يجده. كل سعيه للارتقاء، كل شعوره بالأمان وكل ثقته بمحيطه في العمل وفي البيت يتهاوى.

لا يُحسن الفيلم اختصار الوقت الطويل الذي يمضيه في تكرار هذا الموقف ولا في عملية استجواب الفتاتين حول من التي سرقت المسدّس. هناك فصلٌ كاملٌ لاستجواب آخر يقوم به طبيب نفسي لا يصل الفيلم معه إلى نتيجة.

إيمان لا يستطيع إخبار الجهة الرسمية التي يعمل بها حتى لا يجد نفسه في السجن لثلاث سنوات. يرزح الآن تحت وطأة الاحتمالات قبل أن يقرّر الهرب إلى مكان في منطقة مهجورة، بحجة أنه يريد إعادة الّلُحمة العائلية كما كانت عليها. لكنه في الواقع يريد استجواب زوجته وابنتيه ويفعل ذلك برفق في البداية ومن ثَمّ يتأكّد أن عائلته تكذب عليه فيَسجن زوجته وابنته رجفان في زنزانتين منفردتين (يتبيّن أن المكان كان سجناً قديماً) في حين تهرب ابنته الأصغر سانا التي هي من سرقت المسدس.

المحور هنا أن ابنتيه ضدّ النظام، الأمر الذي لا يستطيع الأب قبوله. لكن الخيط الرفيع الذي يمشي الفيلم عليه، بالكاد يتحمّل هذا السرد المكبّل باختيارات أحداث جانبية وبانتقال نقطة الاهتمام ما بين الأب وعائلته في كَرٍ وفرٍ دخولاً إلى فصل نهائي لا يجسّد الفكرة الأساسية بل يحوّلها إلى منوال تشويقي يمكن له الانتماء إلى فيلم آخر.

«بذور شجرة التين المقدّسة» فيلم مهم أكثر منه جيّداً. رسولوف نفسه كان أكثر تحديداً وإجادة قبل 7 سنوات عندما قدّم «رجل ذو نزاهة» (A Man of Integrity). أو قبل عامين عندما عُرض «لا يوجد شر» (There is No Evil).

* عروض: مهرجان «كان».

★ ضعيف | ★★: وسط| ★★★: جيد | ★★★★ جيد جداً | ★★★★★: ممتاز