وسام رضا لـ«الشرق الأوسط»: رفضت منذ البداية إقحام والدي في مسيرتي

لفت الممثل الشاب وسام رضا المشاهد العربي في دورين مختلفين أدّاهما في «ولاد بديعة» و«مال القبان». فقدم الكوميديا والتراجيديا معاً ضمن شخصيتي «السيكي» و«نعمان الزير».

يقول رضا إنه محظوظ كونه تعاون منذ بداياته التي انطلق بها في عام 2022 مع مخرجين رائدين. فإثر تخرجه في المعهد العالي للفنون في سوريا فتحت أمامه أبواب الفرص. ابن الممثل أيمن رضا عرف كيف يفصل بين شهرة والده وطلبه للعلا. يتعامل مع مشوار والده بفخر واعتزاز. ولكنه في الوقت نفسه يرفض الاستفادة من شهرة الأب للوصول إلى أهدافه. يقول لـ«الشرق الأوسط»: «منذ البداية رفضت إقحام اسم والدي في مشواري. الغالبية كانت تجهل أني ابنه، لا سيما وأن اسمي على جواز السفر هو وسام أيمن محمد، وعراقي الجنسية. وكانوا عندما يكتشفون صلة الدم به يتفاجأون. لماذا لم تخبرنا بأنك ابن أيمن؟ لدي عقدة من هذا الموضوع. لم أشأ أن يقترن اسمي باسم والدي. رغبت في تحقيق نجاح يرتكز على الجهد والقدرات الشخصية».

مع يامن حجلي ومصطفى المصطفى في لقطة من المسلسل (حسابه على {انستغرام})

الفنان وسيم قزق هو من اكتشف موهبته بالعرض التخرجي في المعهد. ومن باب إجادته الغناء أيضاً قدم له فرصة لعب دور يونس في مسلسل «الزند».

بعدها استدعته المخرجة رشا شربتجي للتعاون معها في «ولاد بديعة»، أجرى الاختبار التمثيلي ونجح. «الحكم المبرم برأيي يأتي من الجمهور، ولا دخل للوساطة هنا. لمست تفاعلاً كبيراً من قبله على دوري في العملين المذكورين. فأدركت أني أديت واجبي على المستوى المطلوب».

بالنسبة لدوره في «ولاد بديعة» يقول إنه حبكه بالتعاون مع المخرجة وكتاب العمل. «من واجب كل ممثل أن يحول دوره على الورق إلى لحم ودم. واستخدمت لغة جسد وأسلوب نطقي ولد من بيئة الدور. وكذلك الأمر بالنسبة لدوري في (مال القبان). استمتعت بهاتين التجربتين إلى آخر حد. وعندما يلمس الممثل مصداقية ما يقدمه يشعر بالرضا من دون شك».

لم يرغب في اقحام اسم والده أيمن رضا في مسيرته (حسابه على {انستغرام})

يتفرغ وسام بشكل تام لتحضير كل دور يجسده. لا يحفظ النص بل يعمل على فهمه واستيعاب خطوطه العريضة. يقرأ ما بين الأسطر كي يأخذه إلى صيغة تخدم التصوير. برأيه هذا الفن قائم على التجربة أكثر من أي شيء آخر. «في مسلسل (الزند) عزلت نفسي تماماً عن محيطي. وفي (ولاد بديعة) قمت بالعكس وصرت اجتماعياً بشكل أكبر. نزلت الشارع واطلعت على مفردات يستعملها أبناؤه. وفي (مال القبان) قصدت أسواق الخضار كي أقف على بيئتها، ومنها تلقفت خطوط شخصيتي (نعمان الزير)».

الشهرة ذات حدين أتلمسها بحذر وأتعامل معها بتوازن

أكثر ما حفظه الناس من دوره في «ولاد بديعة» صفارته التلقائية أثناء حديثه. وعبارة «البرنس» التي يتوجه بها إلى شخصية ياسين (يامن حجلي) رئيسه في العمل. ويعلق: «عندما ألتقي بالناس، هناك من يطالبني بهذه الصفارة، وآخرون ينادوني (برنس)».

نجاح واسع حققه وسام في موسم رمضان يحمّله مسؤولية كبرى كما يذكر لـ«الشرق الأوسط». «أتمنى أن أكمل ما بدأته بأدوار أستثمر فيها قدراتي وتأخذني إلى عوالم فنية وشخصيات أخرى. في المسلسلين كانت التجربة ثرية. ولذلك الاختيارات المستقبلية يجب أن تحمل التأني».

في «ولاد بديعة» وضمن 80 مشهداً، كانت الفرصة سانحة لإبراز إمكانياته التمثيلية. فالمساحة التي خصصت للدور لم تكن صغيرة كما في تجاربه السابقة. وعما إذا هو راضٍ عن موته في العمل بطريقة تراجيدية يرد: «أعتقد أن السيكي أخذ نصيبه فهو نجا من الموت في المرة الأولى. وكان خيار الكاتب أن يلاقي حتفه في المرة الثانية. فكانت مفاجأة مدروسة طبعت المشاهد وهزّت كيانه. فللحدوتة عامة خطوطها وهناك ضرورات درامية مقدّرة لها. والتفاعل الذي تحدثه مع المشاهد هو الأهم».

أتمنى أن أكمل ما بدأته بأدوار أستثمر فيها قدراتي وتأخذني إلى عوالم فنية وشخصيات أخرى

من كل تجربة خاضها غبّ الدروس، لا سيما وأنها في غالبيتها تجمعه بأسماء رائدة في عالم الدراما العربية. ولكن ماذا طبعه من أسلوب كل مخرج تعاون معه؟ «المخرج يلعب دوراً أساسياً في توجيه الممثل ووضعه على السكة الصحيحة. مع سامر البرقاوي تعلمت الهدوء والرقي في التعامل مع الآخر. كما أنه يملك الإحساس المرهف في نظرته إلى الأمور. أما سيف سبيعي مخرج (مال القبان) فقدم لي فرصة أعتز بها؛ كونه وثق بموهبتي الفتية. أما رشا شربتجي فهي مدرسة بحد ذاتها تتمتع بإيقاع إخراجي يشدّ المشاهد تلقائياً».

برأيه النجاح في موسم رمضان يقتصر على مدة محددة لا أكثر. فالذاكرة التلفزيونية لا تشبه السينمائية. ونادراً ما يحفر عمل درامي في أذهان الناس لسنة أو أكثر. «علينا الإدراك بأننا كممثلين نعمل في مجال آني، يدور في فلك اللحظة ذاتها. وبعدها يبدأ العد العكسي للخطوة المقبلة فيغمرنا القلق من جديد».

عندما ألتقي بالناس هناك من يطالبني بـ«الصفارة» وآخرون ينادوني «برنس»

بشخصية {السيكي} اشتهر بها في {ولاد بديعة} (حسابه على {انستغرام})

أما الشهرة فيقول إنها ذات حدين. يمكنها أن تحمل صاحبها إلى أفكار أكبر من حجمه الحقيقي. ولذلك وجب على الممثل التعامل معها بتوازن. «ما زلت في بداياتي وأتلمسها بحذر. هو شعور جميل ولكن علينا إدراك أن لا أحد يبقى معلقاً بين السماء والأرض. لذلك علينا أن نكون ثابتين على أرض الواقع. وأنا أنطلق من هذه النقطة ساعياً وراء التطور. فهذا البريق لا يدوم، وأصلاً لا أعمل من أجل الشهرة. شغفي بالتمثيل وإثبات قدراتي هما أكبر من الشهرة وذيولها».

أسئلة كثيرة تراود وسام رضا، ويقول إنها تنبع من الوعي والإدراك. «هل أنا ألهث وراء الشهرة؟ هل لدي مشروع محدد أصبو إليه؟ وهل أستطيع تحقيق كل أفكاري؟»، ويختم لـ«الشرق الأوسط»: «جميعها تدفعني للتأكيد بأن المطلوب من الفنان الاجتهاد فقط. فالتحصيل الأكاديمي يشدد على المعرفة الدائمة والالتزام بحدود معينة. فلا يجب الإبحار والحلم أكثر من اللزوم. والجواب على كل الأسئلة أترجمها بالفعل والاجتهاد. وشغفي هو طاقتي الحقيقية كي أستمر».

«ولاد بديعة» المُنطلِق ببراعة هل قضى على نفسه؟

الانبهار ببدايات المسلسل السوري «ولاد بديعة» تساقط مع تقدُّم حلقاته. خفُتَ إيقاعٌ مُتسارع شكَّل عامل جذب يُجمِّل المتابعة، ليحلَّ مكانه ما يبدو مجرّد إلحاح على ملء الثلاثين حلقة. هذا العمل أمكن أن يكون من الأوائل. قصّته (علي وجيه ويامن الحجلي) شدَّت، وإخراجه مثير بقيادة كاميرا رشا شربتجي البارعة. أبطاله تفوّقوا في الأداء المحترف، وبعضهم قدَّم أجمل أدواره، منهم محمود نصر، ومصطفى المصطفى، ورامز الأسود بشخصية «وفا الشامي» بعد أدوار زجّته في النمطية. 15 حلقة فقط، كانت لتُبقي مرتبته عالية. انقلب على نفسه حين سلَّم أمره للحشو.

محمود نصر يتفوّق بأداء شخصية «مختار الدباغ» المضطرب (لقطة من المسلسل)

قدَّم المسلسل (إنتاج «بنتالنس») نجومه بتألُّق لم يقتصر على الأدوار الرئيسية. واستطاع خَلْق حالة حين جعل من ثيمة مُستهلَكة (حرب إخوة على الميراث)، مسرحاً للمفاجأة الدرامية والحدث المُنتَظر. ذلك كله راح يتبخَّر منذ الدخول في الزمن الثاني للأحداث، كأننا أمام مسلسل آخر. وإنْ استطاعت مَشاهد شدَّ الانتباه، منها رقصة «سكر» (سلافة معمار الوفية للشخصية) على قبر «أبو الهول» (محمد حداقي بأداء متمكّن) بعد قتله، فإنَّ المُسيطر على النصف الثاني هو برودة الحرارة. فعودة «أبو الهول» من الموت سدَّدت صفعة لعمل اختلَّ توازنه تدريجياً، بعدما كاد يصنع الفارق في «كونسبت» الدراما السورية المعاصرة. عودة «مجانية»، لا وظيفة لها في السياق سوى مزيد من تكريس العنف، حين انهال على «سكر» بالضرب الوحشي. سوى ذلك، تقريباً فراغات.

الإضاءة على شراء الشهادات المزوّرة، وزيف مواقع التواصل حين تتيح للمدّعين اعتلاء المنابر، مسائل مهمّة. ومع أهميتها، بدا كأنّ المسلسل يملأ بها ما يستطيع عليه لإطالة عُمر الحكاية. لم تُتح تلك المقاربات شعوراً بأنها «ملتحمة» بأعماق النصّ، بقدر ما تراءت «موظَّفة» للإطالة. منذ تحوّل «ولاد بديعة» من قصة إلى ذريعة لاستمرار الثلاثين حلقة، تفكّك التعلُّق به، وأحاله على العادية، بعدما انطلق بهِمَّة المسلسلات الواثقة من التميُّز والجديرة به.

نادين تحسين بيك وسامر إسماعيل بشخصيتَي «هديل» و«شاهين» (لقطة من المسلسل)

العمل بالدرجة الأولى كاركتيرات أتقن الكاتبان مدَّها بالروح، ورفعت المخرجة مقامها. التفوّق الأدائي «يشفع» للحكاية تراجُع إيقاعها، من دون أن يُبرّر لها. صحيح أنه من غير المُوفَّق حصر الخطّ الدرامي بإشكالية الصراع على المال، وزجِّه بسلوكيات الإخوة الوحشية الحائمة حول المصالح والأنانيات. تعدُّد الخيوط مفيد، لكنَّ جرَّه إلى الاختلال هو المُضرّ. ذلك عدا الشحن المتمادي واستحالة مرور نسمة تبلسم الاختناق، عدا مشهد التطهُّر وانتقال «أبو الوفا» (حضور ممتاز لتيسير إدريس) إلى العالم الآخر. الحب مقتول في مسلسل قائم على القتل بشتّى أشكاله. يمكن تفهُّم أنّ جوَّه قاتم ومساراته وعرة، لكنه أفرط في الوقوف بصفّ الظلمة، وبالغ في إنكار وجود الضوء. حتى «عبير» (روزينا لاذقاني) لم تُبرَّر أحلامها الوردية بعد. قُضي عليها فوراً، ولم يكد يولد الحب حتى جرفته الكراهية. الجميع تقريباً في مغطس الدم الساخن. باستطاعة الحضور العذب لولاء عزام بشخصية «زهور»، مع اللافتة نادين خوري بشخصية والدتها «أم جمعة»، وهافال حمدي بدور زوجها «نظمي» (أداء لامع)، مدَّ السوداوية ببعض اللطافة. الشاب وسام رضا بشخصية «السيكي» (أداء ممتاز ومُبشِّر) هو الناجي الوحيد من المقاربة «الفجّة». رغم ماضيه الأليم، يُشكّل مُتنفَّساً.

إمارات رزق بدور «بديعة» أنجبت أولاداً يمتهنون النهش (لقطة من المسلسل)

المكان المهجور حيث القطارات المُعطَّلة، فضاءٌ لتصفية حسابات لا تُعدّ. هناك تعمّقت مناكفات الطفولة بين الإخوة، أولاد «بديعة»؛ «سكر»، و«ياسين» (يامن الحجلي بأداء لافت جداً) و«شاهين» (سامر إسماعيل بأحد أبرز أدواره)، وشقيقهم «مختار» (محمود نصر المُتقِن تجسيد الاضطراب النفسي)، وتكرَّست الأحقاد الكبيرة. وهناك تُشنَق القطط (نوَّه المسلسل إلى اتّخاذ إجراءات السلامة) لتأكيد الرغبة في التشفّي وإعلان الحدّ الأقصى من القسوة. وهناك تدفن «سكر» جنيناً حلمت به، ويُصاب «مختار» بالعجز عن الإنجاب حين يهشِّم شقيقاه رجولته. مسرح مكشوف على أسوأ الاحتمالات. تعمُّد المسلسل التخلّي التام عن الرحمة مقابل تمجيد العنف، وإنْ أراده إسقاطاً على الواقع السوري بعد الحرب، وما يتخطّى الجغرافية السورية إلى حيث الإنسان يُترك وحيداً في الغابة الكونية، مرمياً للذئاب، مُحالاً على النهش بشتّى أشكاله؛ ينقلب ثقله على صنّاعه ويعمُّ السواد الحالك، فتحلّ كل فضيلة ثانياً، حتى الإبداع.

فادي صبيح بشخصية «عارف الدباغ» بحضور محترف (مواقع التواصل)

ورغم أنه إبداع ظاهر ومؤكد، يبلغ ذرواته بلقطات كوابيس «سكر» (الدموية أيضاً)، وبترك «يحيى» (إبراهيم الشيخ) لمصيره بعد عذابات نفسية قاسية يمارسها «مختار» عقاباً لنذالته، وتصويره على أنه نسخة جديدة عن «بديعة»؛ وبانهيار عالم «جمعة» (مصطفى المصطفى) حين تطهو والدته ديك المراهنات، فيملأ معدته بحلمه المُجهَض... بجانب ذروات أخرى. حقُّ هذا الإبداع الاعتراف به، مع تعقيب يبدأ بـ«ولكن»، فتصبح المعادلة: «ولاد بديعة» لم يمرَّ عابراً... ولكن. المديح يرتطم بما يحول دون التغنّي به.

مصطفى المصطفى في أحد أجمل أدواره (لقطة من المسلسل)

المال «وسخ الدنيا» كما يُسمّيه «ياسين» كلما ادّعى الترفُّع؛ يُظهر المعادن على حقيقتها، فتتراءى صدئة، لا تساوي فرنكاً في سوق الصرف. الدفاتر القديمة مفتوحة بالكامل، ولا شيء يُمنَح بلا مقابل. حتى أفعال الخير، تريد بها «سكر» تكفيراً عن ماضٍ مُلطَّخ. ليس العطاء إلا تعويضاً عن التمادي في الأخذ. الدمُّ ولَّد دماً، وجَرَفَ النهر الأحمر كل ما عداه، حتى التلذُّذ بالمُشاهدة. يعيد التاريخ نفسه حين يتكرّر سيناريو «عارف» (فادي صبيح بدور رائع) و«بديعة» (إمارات رزق مفاجأة الموسم الرمضاني) في زيجات أولادهما المُطعَّمة بالحرام وسوء النوايا. حتى «شاهين» يعجز عن تغيير جلده، وإن تزوّج ابنة الزواة؛ ولا ينجو «مختار» من نفسه وإنْ تزوَّج «هديل» (نادين تحسين بيك بأداء منضبط). أولاد «بديعة» تطاردهم خطيئة المكان والظروف والأهل، ولا يعُد مهماً إن ارتدوا ربطة عنق أو امتهنوا كاراً آخر غير الدبَّاغة.

ولاء عزام... حضور عذب بشخصية «زهور» (لقطة من المسلسل)

ليقول المسلسل إنّ ماضي المرء يُنغّص مستقبله، أجَّج قتامته وكثَّف شطحاته. يظلّ ذلك مُبرّراً لتجسيده واقعاً لا يقلّ فظاعة، واختزاله أصنافاً بشرية تتساوى بالوحشية. إفلاته سياقه، وظنّه أنّ سخونة الحدث مستمدَّة فقط من العنف، كادا يقضيان عليه، لولا عين رشا شربتجي، وبراعة الأداء أمام كاميرتها.

«مال القبان»: قسوة المصائر السورية بعد الحرب

لولا الخشية من حسم التصنيف المُبكر، لأمكن القول إنّ المسلسل السوري «مال القبان» هو المفضَّل والأفضل بين ما شاهدناه في رمضان. يقدّم حكاية متّقدة، بقيادة شخصيات من لحم ودم، وبإطار بصريّ ناضج. سردُه هادئ، يُدرك فنّ زجّ الحدث المُحرِّك في اللحظة المناسبة للدفع إلى الأمام. بارزٌ في التعامل مع الأشياء وظلالها، فيُبيّن التداعيات من الأفعال المباشرة، والمآلات الإنسانية تحت تأثير الظرف والتقلّبات.

عالم سوق الخضراوات مفتوح على مصراعيه، تكشف خفاياه نجاسة الطباع، والنفس الطمّاعة، والعين الجائعة. كبيراه تُحرّكهما ثارات قديمة طابعُها شخصي: «أبو عمار الجبر» (نجاح سفكوني بأداء بارع) المُسمَّى السوق «سوق الجبر»، تيمّناً بعائلته المُمسِكة بالكار أباً عن جد، و«نعمان الزير» (بسام كوسا) الآتي إلى هذا العالم المشرَّع على النهش، بالمصادفة. إعجاب «أبو عمار» بوالدة «نعمان» وتودّده إليها من دون عقد ارتباط رسمي، ترك في الابن ندبة عمّقتها المنافسة. كبُر «نعمان» وتملَّك في السوق، وكبُرَت شراهة الداخل والرغبة في أكل الأخضر واليابس.

مصالح الكبار حين تلتقي... نجاح سفكوني وبسام كوسا (إكس)

ناس السوق على حدَّي سكين، وبين التاجر و«العتّال» مفارقات طبقية واقتصادية تبلغ ذروتها بوصف «جرذان» على لسان «نعمان» تعليقاً على إضراب عمالي يُطالب بتصحيح المعيشة. لكنّ المُتلاعب بالأسعار، وممتهن الغشّ بتغيير دوزنة الميزان، يخضع صاغراً لمَن يفوقه جبروتاً، متمثَّلاً بالسلطة الأمنية. تأتي الأوامر بإسكات المُضربين، مراعاةً لمصالح أسياد المال، لتكون النهاية حزينة حين يُشتَرى الجائع بكذبة، والبسطاء بوعود لن تُبصر النور.

بسام كوسا بشخصية تُبرز موهبة لامعة (إكس)

«سوق الجبر» مساحة مثيرة للاكتشاف، يتميّز نصّ الكاتبين علي وجيه ويامن الحجلي باختراق طبقاتها وتعرية مكنوناتها، فيقدّمان أمام كاميرا المخرج سيف سبيعي مادة درامية عنوانها الإنسان الخاضع للظروف، والمجني عليه لمجرّد أنه ضحية الأماكن. فمن خلال شخصية «أبو الرموش» مثلاً (أداء متفوّق لسليمان رزق)، يحدُث الإسقاط على واقع الشباب السوري المتشظّي بعد الحرب، لتبلغ الاختزالات ذروة أخرى تُمثّلها شخصية «رغد» (سلاف فواخرجي)، الخارجة من السجن لمشاركتها في تنظيم مُعارِض، حين يتبيّن أنّ المآسي لا تنتهي بمجرّد العفو، فتداعياتها طويلة الأمد، وترافق المرء حتى بعد «الإفراج» عنه وتركه في سبيله.

سلاف فواخرجي تتنازل عن الجمال من أجل الشخصية (إكس)

«أبو الرموش» بيُتمه، وتسوُّس أسنانه، وتنظيمه ما يشبه «العصابة»، تكثيفٌ لواقعية عمل لا مكان فيه للشخصية العَرَضية. جَهْله بأصله، وتمضيته الأيام بلياليها في السوق، يُبيّنان قسوة الحال على الفئات الشابة، وورطة الظرف الاجتماعي حين يُخيِّر بين المُرّ والأمَرّ. «يقظته» بعد منام يُظهر طيف والدٍ لا يعرف حتى اسمه، وقراره «البدء من جديد»، نافذة أمل شبابية يُخشى ألا تُسدَّ على الفور.

بهذه المرارة، تسير شخصية «جاويش» (ملهم بُشر بأداء متألق) إلى ذروة اليأس الإنساني، متمثَّلاً بأشدّ أنواع التخلّي بشاعةً؛ فيترك ولدَيْه أمام ميتم حين لا يملك ثمن رغيف يُسكت جوعهما. يترافق ذلك مع الإضاءة على آفات اجتماعية مُدمِّرة مثل القمار، وسط تسيُّد سلطان المال، وتحكُّم المتموّلين بمَن لا حول لهم، فنرى تحصيل الدَّيْن بالعنف على وَقْع أغنيات أم كلثوم.

للمسلسل (إنتاج إيبلا) سقفٌ عالٍ من دون الإشارة طوال الوقت إلى الأشياء بالإصبع. للتلميح والإسقاطات أيضاً قيمة فنية. وأمام حقيقة أنّ الجميع تقريباً خاسر، حتى أصحاب «الجاه»، تُختَزل المصائر السورية بعد الحرب. أسياد المال، بينهم «أبو عمار»، يدفع الثمن بأولاده (فادي الشامي بأداء لافت لشخصية عمار)، كما أثمان يدفعها «نعمان» بخوفه من الفضيحة ومراكمة مزيد من الطامعين بإسقاط عرشه.

الكاتب والممثل يامن الحجلي من ثوابت الموسم الرمضاني (حسابه الشخصي)

الخسائر تشمل الباحثين عن طيّ الصفحة، بينهم روبين عيسى بشخصية «حنين» المغلوبة على أمرها، كأنْ لا مفرّ من جرّ الماضي إلى الحاضر. عودة سيف سبيعي بشخصية «ماجد» إلى حياة «رغد» بعد غياب، هي الأخرى تصطدم بالتعثّر. لا شيء يبقى على حاله، وثمة دائماً ما يُنغّص. حتى القاضي «فارس» (خالد القيش) حين يُرغَم على الاختيار، يدوس على قلب ليكسب آخر، ويسير نحو «سعادته» مُعمِّقاً تعاسة غيره. الضرائب تبحث عمَن يدفعها وشخصيات، بمَن فيهم «نوارة» (حلا رجب) مبتورة الأمومة، وشقيقها «همام» (المُصرّ على التمثيل رغم رخاوة موهبته؛ لا خيار أمامها سوى التسديد وفق مبدأ أنّ الساقي سيُسقى بالكأس عينها، وإنْ طال الزمن.

اللبنانية ختام اللحام تؤدّي شخصية «أم نعمان» بتألق (إكس)

وسط هذا كلّه، تلمع فكرة «التطهُّر» وسط سياق يطفح بالإثم. فـ«نعمان الزير» لا يتردّد في إبرام الصفقة، والتلاعب بالميزان، وتجنيد أولاده لخدمة مخطّطه، ومع ذلك ينظّف حمّام المسجد «تكفيراً» لذنوب بالجملة. يشدّد الكاتبان على مشهدية «غسل الداخل» في مسلسلَيهما «مال القبان» و«ولاد بديعة»، فنرى الإنسان هشاً رغم تجبُّره، بدمعه المُتساقط في لحظات الخشوع، وابتهالاته التي تطويها زحمة اليوم التالي.

يَلمح «خير الزير» للمرة الأولى صورته الحقيقية مشوَّهة، حين يتدخّل والده طرفاً ضدّه في خلاف الأخوة بسبب المال. كاد انقطاع رابط الدم أن يفضح علاقتهما المبنية على الاتجار بالضمائر. يامن الحجلي يؤدّي الشخصية بمهارة، ويثبت حضوراً رمضانياً يصبح من الثوابت. كل ما في المسلسل مُتقَن وبارع: الممثلون جميعاً، والنصّ، والإخراج العابق بالتفاصيل. لا تخشى سلاف فواخرجي المسّ بجمالها حين تتطلّب الشخصية، فتطلّ بالشيب يغزو الرأس. بسام كوسا في القمة، وختام اللحام بمكانة المتفوّقين. الراحل محمد قنوع أدّى بشطارة شخصية «مياس» قبل موته الخاطف.