تغطية الإعلام الفرنسي للهجوم على لبنان: إشادة بالتفوق التكنولوجي لإسرائيل وتجاهل للضحايا

محطة "بي إف إم" التلفزيونية (بي إف إم)
محطة "بي إف إم" التلفزيونية (بي إف إم)
TT

تغطية الإعلام الفرنسي للهجوم على لبنان: إشادة بالتفوق التكنولوجي لإسرائيل وتجاهل للضحايا

محطة "بي إف إم" التلفزيونية (بي إف إم)
محطة "بي إف إم" التلفزيونية (بي إف إم)

غطت وسائل الإعلام الفرنسية على نطاق واسع أخبار التفجيرات التي وقعت في لبنان يومي 17 و18 سبتمبر (أيلول) عبر أجهزة الاتصال اللاسلكي، وكان لافتاً أنها بدلاً من وصف واقع الأحداث وقراءتها بموضوعية، اختارت تسليط الضوء على «البراعة التقنية» لإسرائيل وتجاهل الضحايا العزّل من الأطفال والعاملين في الإغاثة والقطاع الصّحي. فجاءت تغطية مثيرة في انحيازها وقلة تعاطفها الإنساني.

جان ميشال أباتي (إر تي إل)

تفوق إسرائيل التكنولوجي

في اليوم التالي للتفجيرات، كتبت صحيفة «اللوموند» ما يلي «هجوم ببراعة تقنية غير مسبوقة، منسوب إلى إسرائيل أغرق لبنان في حالة من الفوضى والذعر يوم الثلاثاء 17 سبتمبر». ومن ثم استعانت الصحيفة بشهادة جاسوس فرنسي سابق وصف العملية «بضربة المعلم»، وأضاف بعدها أنه «يصف المستوى التقني للعملية دون أي حكم أخلاقي أو تبرير استراتيجي». وذهبت الصحيفة أبعد من ذلك حين خصصت في قسم «بكسل» لمواضيع التكنولوجيا مقالاً خاصاً لشرح «الطبيعة التقنية لهذه العملية الشديدة الخطورة والمتطوّرة بشكل غير عادي».

من جهتها، تكلمت صحيفة «لوفيغارو» اليمينية التوجّه عن «هجوم غير مسبوق» و«عملية مذهلة ومعقدة التنظيم». وأردفت «بهذا الهجوم، أثبتت إسرائيل مرة أخرى تفوّقها التكنولوجي والمعلوماتي، بعد سنة تقريباً من الهجوم الإرهابي الذي نفذته (حماس) يوم 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023....». وأشاد دوف ألفون، مدير تحرير صحيفة «الليبراسيون» اليسارية والصحافي السابق في صحيفة «هآرتس» الإسرائيلية، في افتتاحية بعنوان «عملية عسكرية غير مسبوقة» بـ«التفوق التكنولوجي» وكأنه يصف مزايا لعبة إلكترونية للمراهقين. وتابع «كل شيء موجود. البراعة التكنولوجية. سرّية الاستعدادات. الجرأة العملياتية. عدم الاكتراث بالعواقب السياسية. سرعة التنفيذ والوصول المذهل إلى كل الأهداف المسطّرة».

ومن ناحية ثانية، في حين وصفت يومية «لو باريزيان» الهجوم بـ«التفجير المذهل» و«العملية غير المسبوقة التي نظمت على نطاق استثنائي»، اختارت مجلة «ليكسبريس» أن تعطي الكلمة لضابط عسكري برتبة أميرال (فريق أول في البحرية). وبالفعل، تكلّم هذا الأخير عن «هجوم كبير وغير مسبوق» وعن «التحضير الطويل والدقيق المطلوب لمثل هذه العملية»، وحملت شهادته لهجة الثناء حين وصف التفجيرات بـ«الإنجاز الحقيقي» و«الإتقان المثير للإعجاب للغاية».

من تغطية الـ"ليبراسيون"

القنوات الإخبارية «معجبة» بالتفجيرات

في محطات التلفزيون أيضاً، انصب تركيز الإعلام الفرنسي على مشاهد الانفجارات ووصفها بكلمات مثل «مذهلة» و«خارقة» و«ضربة المعلم» على حد تعبير بعضهم. واعتبر الصحافي المعروف دافيد بوجاداس من قناة «إل سي أي» أن الهجوم أثار «نوعاً من الإعجاب بين الخبراء». وعلى قناة «بي إف إم» الإخبارية وُصفت الانفجارات بـ«العملية التي تقف خلفها المهارة البشرية والتقنية العالية، وكأنها سيناريو لأحد أفلام هوليوود». وعلى أمواج إذاعة «أوروبا 1»، وصف المحامي والكاتب اليميني المتطرف جيل-ويليام غولدنادل الهجوم بأنه «إنجاز تكنولوجي فريد من نوعه»، و«عملية هادفة للغاية، يصعب انتقادها من وجهة نظر أخلاقية، مع أضرار جانبية قليلة جداً».

لا كلمة عن المدنيين!

وسط كل هذا الإعجاب، لم تهتم وسائل الإعلام الفرنسية بفتح باب النقاش حول مصير المدنيين أو شرعية الهجمات الإسرائيلية من وجهة نظر قانونية، فجاءت التغطية مجردة من كل أنواع التعاطف مع الضحايا اللبنانيين. وحقاً، اعتبر كريستيان ماكاريان، الصحافي في مجلة «لوبوان» في مداخلة على قناة «بي إف إم» أن إسرائيل «تستخدم أساليب يمكن استعارتها من الإرهابيين... ضد الإرهابيين»، واصفاً إياها بـ«الذكية».

وحول الجرحى والمصابين في هجمات في 18 من سبتمبر، فضّلت «اللوموند» الكلام عن «جرحى من معاقل (حزب الله)»، بينما ذكرت قناة «فرانس إنفو» الإخبارية أن «معظم الأشخاص الذين أصيبوا أو قتلوا كانوا من مقاتلي (حزب الله) الذكور»، مخصّصة فقرة قصيرة اعترفت فيها بوجود ضحايا مدنيين «قلائل».

أما موقع «نميراما» فنقل الخبر في موضوع مطول تحت عنوان «مئات من أجهزة اللاسلكي انفجرت في وقت واحد في جيوب عناصر (حزب الله)» من دون الإشارة ولو بكلمة واحدة إلى الضحايا المدنيين. وبشكل عام، لم تتطرّق الصحافة والتلفزيون والإذاعة في فرنسا إلى مصير الجرحى والقتلى الذين مرت على ذكرهم بشكل عابر، كأضرار جانبية للهجمات التي ركّزت على أنها «قتلت بشكل رئيسي عناصر من (حزب الله)»، ولم تنشر وسائل الإعلام أسماءً أو صوراً باستثناء ما أورده مقال نشرته «فرانس 24» يوم 19 سبتمبر على موقعها استقى معلوماته من صحيفة «لوريان لوجور» اللبنانية، للحصول على هوية الطفلة الصغيرة فاطمة عبد الله.

وسائل إعلام بدأت تشكك...

في الحقيقة، لم تبدأ الصحافة الفرنسية التشكيك في شرعية تلك الهجمات التي ظلّت موضع إشادة حتى الآن إلا بعدما ضربت مئات الغارات الإسرائيلية جنوب لبنان في الأيام التي تلت. وفعلاً، يوم 23 سبتمبر، بدأت صحيفة «لوفيغارو» تتساءل عما إذا كانت تفجيرات أجهزة اللاسلكي تعد «جرائم حرب محتملة». ثم يوم 24 سبتمبر نشرت «الليبراسيون» مقابلة مع باحث في المعهد الفرنسي للعلاقات الدولية قال فيها إن تفجيرات لبنان «كانت أقرب إلى القتل الجماعي المستهدف». وفي الاتجاه نفسه، كان الإعلامي جان ميشال أباتي أحد الأصوات التي -بعكس غيرها - لم تتردد في التنديد بالتغطية الإعلامية المجردة من الإنسانية. إذ حرص أباتي على التعبير عن غضبه في البرنامج الصباحي لقناة «أر تي إل» يوم 19 سبتمبر، فقال «يتكلّم الناس عن البراعة التكنولوجية، بينما نحن نتعامل مع إعدامات جماعية. فعندما يصار إلى اختراق أجهزة اللاسلكي لا أحد سيستطيع معرفة في أيدي مَن ستكون هذه الأجهزة... عضو في (حزب الله)؟ أم شخص آخر؟ ... كل هذا ما عاد يثير فينا نحن الغربيين، حيث تعتبر حياة كل إنسان مهمة، سوى عبارة برافو، يا له من عمل بارع... ماذا حلّ بنا؟ وأين ذهبت قيمنا؟».

أيضاً، في لقاء مع موقع «أري سور ايماج» المخصّص لتحليل الأخبار، شرح الباحث السياسي الفرنسي-اللبناني زياد ماجد أن تغطية وسائل الإعلام الغربية للهجمات الإسرائيلية «نزعت الصفة الإنسانية عن اللبنانيين على غرار ما حدث مع سكان غزة والفلسطينيين». وتابع ماجد -وهو من جنوب لبنان لكنه مناوئ لـ«حزب الله»- «لا أحد تكلّم عن احتمال ألا يكون حاملو هذه الأجهزة من مقاتلي (حزب الله). وبدل ذلك وجدنا تعليقات حول التقنية أو التكنولوجية أو تفوق الاستخبارات او الإعداد المتقن لهذه العملية المعقدة، من دون ذكر الجوانب الإنسانية والمسائل المرتبطة بالقانون الدولي، ومن دون أدنى تعاطف مع المدنيين». وسط الإعجاب بالتكنولوجيا لم يهتم الإعلام الفرنسي بمناقشة مصير المدنيين أو الشرعية القانونية للهجمات الإسرائيلية



الإعلام ووسائل التواصل تحاصر السلطات الثلاث في العراق

ميكروفونات القنوات العراقية حاضرة بكثافة في الظهور المدوي لرئيس «هيئة النزاهة»
ميكروفونات القنوات العراقية حاضرة بكثافة في الظهور المدوي لرئيس «هيئة النزاهة»
TT

الإعلام ووسائل التواصل تحاصر السلطات الثلاث في العراق

ميكروفونات القنوات العراقية حاضرة بكثافة في الظهور المدوي لرئيس «هيئة النزاهة»
ميكروفونات القنوات العراقية حاضرة بكثافة في الظهور المدوي لرئيس «هيئة النزاهة»

للمرة الأولى في العراق، منذ تغيير النظام عام 2003 بواسطة الدبابة الأميركية، تتمكّن وسائل الإعلام العادية ووسائل التواصل الاجتماعي من محاصرة السلطات الثلاث في البلاد، أي التشريعية والتنفيذية والقضائية.

إذ لا يكاد يمر يوم واحد من دون أن تتناول وسائل الإعلام إحدى السلطات الثلاث أو كلها مجتمعة، إلى الحد الذي دفع أحد أبرز قيادات النظام السياسي وأحد آبائه المؤسسين، وهو نوري المالكي - ثالث رئيس وزراء عراقي بعد التغيير - إلى التحذير في كلمة متلفزة من نقل كل ما يدور في أروقة هذه السلطات إلى الإعلام.

جاءت كلمة المالكي المتلفزة في خضم تفجر تبعات تضارب المصالح والسياسات وتراكم حالات الفساد التي وصلت إلى ما بات يُوصف في وسائل الإعلام بـ«سرقة القرن».

وسعى المالكي في كلمته، إلى دغدغة مشاعر الجماهير، وبالذات، جماهير الأحزاب السياسية التي هي في الوقت نفسها مادتها في الانتخابات. لكن، في حين يعترف المالكي بأنه ليس هناك شيء يهدد الدولة مثل «اضطراب العلاقة بين السلطات الثلاث»، حذّر من حصول سوء تفاهم، وقال بضرورة أن «تسير الأمور وفق الاتصالات والتفاهمات بينها حتى تستقر العملية السياسية». كذلك نبّه في الوقت نفسه إلى ضرورة منع نقل اختلال العلاقة واضطرابها والمشاكل المترتبة عليها إلى «وسائل الإعلام».

تخمة إعلامية

غير أن العراق اليوم حافل بوسائل الإعلام المختلفة والمتعددة، كون غالبية الأحزاب والقوى السياسية باتت تملك وسائل إعلامها الخاصة بها (من صحف وفضائيات وإذاعات بل حتى وكالات). وبالتالي، فإن «الحرب» التي تشنّها وسائل الإعلام ضد هذا الطرف أو ذاك من داخل الطبقة السياسية، وإن كانت تبقى محصورة في نطاق التنافس والابتزاز أحياناً عبر التهديد بالكشف عن ملفّات معينة، تكمن خطورتها أحياناً في أنها تخرج عن السيطرة وتتحول إلى أزمة تهدّد النظام السياسي بكامله.

أيضاً، يرى العراقيون أن المكسب الوحيد الذي حصلوا عليه بعد عام 2003 هو الديمقراطية، وهذا على الرغم من أن حرية التعبير المنصوص عليها في الدستور لم تُنظّم بقانون حتى الآن. فواقع الحال أن وسائل الإعلام، سواءً كانت «ميديا» أو «سوشيال ميديا»، لعبت خلال الفترة الأخيرة دوراً مهماً على صعيد الكشف والمحاسبة ومحاصرة السلطات في عديد من الملفات والقضايا، التي باتت ساحتها وسائل الإعلام، لتتحوّل من ثمّ إلى قضايا رأي عام.

من ناحية ثانية، على الرغم من امتلاك معظم القوى السياسية وسائل إعلامها الخاصة، فإن صراع الأقطاب السياسيين بشأن الملفات المطروحة وتصادمها وتناقضها، يجعل من الحرب الناجمة عن ذلك عرضة للتشظي السريع. وبالتالي، تتحوّل إلى مادة؛ إما يسخر منها الجمهور وإما يتفاعل معها بطرق في الغالب سلبية. ومعلومٌ أن القوى السياسية بدأت منذ الآن «اللعب على وتر» الشعبوية لاستثارة الجمهور العاطفي تمهيداً للانتخابات المبكرة. إذ إن قضايا، مثل قانون العفو العام، سرعان ما تتحول إلى مادة للسخرية والتهجّم على عديد من القيادات السنّية. والأمر نفسه ينطبق على محاولات تعديل قانون الأحوال الشخصية، الذي تتبنّاه قوى شيعية فاعلة، في محاولة منها لاستمالة أعلى نسبة من الجمهور الشيعي... الذي يعيش انقساماً بيّناً داخل المكون الشيعي.

ذكاء اصطناعي بالمقلوب

على صعيد آخر، تنشط وسائل الإعلام ووسائطه المختلفة، بما في ذلك ما يُسمى «الجيوش الإلكترونية». وهذه في الغالب اختصاص الأحزاب والقوى السياسية في متابعة الأحداث، وبخاصة قضايا الفساد، كونها المادة الأكثر إثارة عاطفية للجمهور العراقي.

إلا أن التحوّل الأخطر اليوم هو دخول الذكاء الاصطناعي على الخط. ففي حين يسعى كثير من الدول إلى الاستفادة من الذكاء الاصطناعي بكل ما هو إيجابي، فطبقاً لما جرى تداوله أخيراً في العراق على نطاق واسع، تسريبات صوتية تخصّ رئيس «هيئة النزاهة» حيدر حنون، وتتهمه بتلقي رشى لقاء تسهيلات معينة في «الهيئة».

الجديد في الأمر أن وسائل الإعلام حاولت اللعب على وتيرة ما قيل إن هذه التسريبات ليست حقيقية بل هي عملية مفبركة من خلال الذكاء الاصطناعي. ولكن بصرف النظر، عما إذا كانت التسريبات حقيقية أم لا - خصوصاً أن القضاء الذي يحقّق بالأمر لم يقل كلمته بعد - فإن الأحكام في الغالب بدأت تصدر من خلال التناول المكثّف لمثل هذه القضايا عبر وسائل الإعلام. وطبعاً، بقدر ما يؤثّر مثل هذا الضغط الإعلامي الواسع في تغيير وجهات نظر الناس، والتأثير فيهم، فإنه في النهاية يؤدي إلى مزيد من الإرباك وزيادة الغموض بين ما هو صحيح وما هو مفبرك.

تضارب الآراء هذا لا يعني أن قضية التسريب هي الأولى من نوعها في العراق، لكن الناس، في مطلق الأحوال، صاروا يشكّكون في التوقيت والسبب وراء نشر أمور كهذه أمام الجميع وتحت متناول وسائل الإعلام... كي تنتج منها ظاهرة خطيرة قد تُشعل الأجواء أو تغيّر النظام. وعلى الرغم من أن أزمات من هذا العيار قد تكون مدوّية وفاضحة للنظام السياسي، فإنها حتماً ليست الأولى ولن تكون الأخيرة، ذلك أنه سبق أن انتشرت تسريبات صوتية لنوري المالكي، نفسه، قبل سنتين، وأحدثت ضجة كبيرة في الأوساط العراقية، لكن الأزمة سرعان ما انتهت من دون ترك أثر سياسي خطير يُذكر.

طبيعة النظام وأزمات الإعلام

في النهاية، يقول مراقبون إن طبيعة النظام السياسي في العراق أصبحت جزءاً من عملية «صنع الأزمة الإعلامية» والتلاعب عليها... سواءً كانت عبر التنافس بين القوى السياسية أو عبر التسقيط والابتزاز وفضح الآخرين. كذلك بات المواطن العراقي يفهم جيداً طريقة التلاعب والابتزاز في صفحات التواصل الاجتماعي والقنوات التلفزيونية. والحال، أن الخبر في العراق قد يمتد صداه إلى ثلاثة أيام فقط وبعدها ينتهي، والسبب أن المواطن اعتاد على أزمات سياسية بين القوى والأحزاب... على هذا المستوى أو حتى أعلى. وأيضاً، فإن وسائل «السوشيال ميديا» ساعدت في تسطيح الأزمات السياسية الخطيرة في العراق، إما عبر التهكّم بجعلها مادة للسخرية والتنمّر الاجتماعي، وإما عبر التذمّر والامتعاض الذي يؤدي إلى رفض كامل للواقع السياسي.