قنوات إخبارية عربية جديدة تتنافس على حصص الخبر والرأي

لحاجة أم لاختلاف في التوجّهات؟

دكتور سعد بن طفلة العجمي (إندبندنت عربي)
دكتور سعد بن طفلة العجمي (إندبندنت عربي)
TT

قنوات إخبارية عربية جديدة تتنافس على حصص الخبر والرأي

دكتور سعد بن طفلة العجمي (إندبندنت عربي)
دكتور سعد بن طفلة العجمي (إندبندنت عربي)

خلال أقل من سنتين من إطلاق «القاهرة الإخبارية»، كفضائية تبحث عن حصة من الحضور في مخاطبة العالم والرأي العام العربي والدولي، أطلقت الكويت قناتها الإخبارية الخاصة، فبدأت هي الأخرى بحجز موقعها من فضاء عربي يمتلأ بالمحطات الإخبارية، رغم ما يشاع من هجرة محتملة عن التلفزيون لصالح منصات التواصل التي أزاحت ما يوصف بالأشكال التقليدية للإعلام والتواصل.إنه فضاء يزدحم بالقنوات الإخبارية، في ظل تطورات سياسية وتحوّلات اتصالية لا تهدأ، تشهدها المنطقة. ومن ثم، السؤال مطروح عن دلالات هذا الإقبال على إطلاق قنوات إخبارية جديدة، وما إذا كان ذلك يعكس حاجة وتنوّعاً مثرياً أم اختلافاً في توجهات المنطقة ومنصات التعبير عنها؟

وماذا عن مسألة الموضوعية؟ وهل تواجه تحدياً خاصاً، في ظل هذا النمط من الإطلاقات والفضائيات التي تخاطب الرأي العام العربي والعالمي؟

«الشرق الأوسط» استطلعت آراء متخصصين في قطاع الإعلام والدعاية السياسية، عن تطورات المشهد الإعلامي العربي، وهو يستضيف محطات جديدة، تتناول الأخبار والأحداث السياسية، وتضخ برامج إخبارية وثقافية وحوارية جادة.

شعار «آر تي» (رويترز)

إنه تحدٍ كبير

الدكتور سعد بن طفلة، وزير الإعلام الكويتي السابق، قال إن «انتشار الفضائيات الإخبارية في هذا العالم الذي يشهد ثورة منفعلة جداً، وثورة رقمية بركانية في الاتصالات وعالم المعلومات بشكل عام، تحدٍ كبير... والجميع يحاول أن يوجد مكانة له في نشر الخبر. وبالتالي، التأثير على صياغة الأحداث وتوجيه الرأي العام المحلي والعالمي».

وأشار بن طفلة إلى أن «التأثير في المجتمعات المحلية أصبح مستحيلاً، لأن العالم اليوم يشهد قدرة الإنسان العادي على فتح نوافذ يطل منها إلى الأحداث والعالم، ويتابعها حيّة على الهواء»، لافتاً إلى أن «فكرة الفضائيات الإخبارية بشكل عام ستواجه التحدّي نفسه الذي تعرّضت له الصحافة، وكذلك الإعلام الورقي، في ظل ما يتمتع به إنسان اليوم من تقنيات حوّلته من مستهلك صامت، إلى وسيلة إعلام متنقلة، بوزارة إعلام متكاملة يحملها في جيبه، ويقوم من خلال هاتفه بنشر الأخبار وتسجيلها عبر البثّ الحي أو النشر اللاحق، بكل أشكال الوسائط المتاحة».

وزير الإعلام الكويتي السابق رأى أن هذا الواقع سيضطر القائمين على هذه الفضائيات إلى «التركيز على صيغة جديدة من المحتوى، تتجاوز الاعتماد على الخبر إلى الخبر المطوّر، بمعنى أن يركزوا على تقديم برامج تضيف إلى المشاهد الجديد، وتلبي احتياجات وذائقة مختلفة لدى الجمهور المتشبع بالأخبار».

واستبعد الدكتور سعد أن يستقر شكل المشهد الإعلامي العربي والعالمي قريباً، موضحاً: «كثيرة هي التحديات التي لا نستطيع أن نحكم عليها اليوم، لأننا في بدايات هذه الثورة الرقمية، ويتطلب الأمر التمهل حتى يكتمل نمو الجيل الرقمي الحالي... أبناء هذا الجيل هم من يستطيع الإجابة عن تساؤلات راهنة بشأن المشهد الإعلامي وتحولاته، وقد لا نعثر على إجابة إلا بعد عقد أو عقدين من الآن».

شعار قناة «القاهرة الإخبارية» (قناة القاهرة الإخبارية)

التلفزيون يتطوّر والمحتوى يتمدّد

من جهته، يستبعد الدكتور غازي العمري، الباحث في الإعلام السياسي ومؤلف كتاب «الدعاية السياسية»، أن يهجر الجمهور التلفزيون، ويشرح: «التلفزيون اختراع قديم يتطور، وصحيح أنه لم يعد ذلك المنتَج الحصري الذي يملي علينا خيارات الوقت والمادة المعروضة، لكن كل من يملك شاشة أياً كان حجمها، ولو كان بحجم بوصة واحدة في ساعة اليد الذكية، سيصله محتوى القناة الجديدة، ما دامت تتمدد في وسائل التواصل كناشر... وكل هذا على صعيد الأحداث الساخنة والتنوع والإثراء، ولا يمكن أن يهجر الجمهور وسائل الإعلام الناطقة باسم أرضه وسمائه، فالجمهور يستبدل الأجهزة فقط».

وعمّا إذا كانت هذه الفضائيات تعكس تنوّعاً أم هي تعبير عن اختلاف التوجهات السياسية التي تشكل المنطقة، يقول الدكتور العمري: «ثمة اختلاف جليّ للتوجهات في المنطقة، سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً، ومحاولات الهيمنة باتت أكثر وضوحاً، فالكل يقفز وينوّع التحالفات، والسياسة تجلّت كمسألة متغيرة بلا مواربة».

ويضيف أن الإعلام المموّل حكومياً «يثبت يوماً بعد آخر أنه المغذّي الرئيس للجمهور المتابع للأخبار والإثراء المعرفي والآيديولوجي والترفيهي واتجاهات العالم وساكنيه في التسلية والرياضة والطبخ، عبر تغذية منصات وسائل التواصل». ويتابع: «لو أغلقنا هذه القنوات كلها، لما بقي في وسائل التواصل إلا تناحر فئوي وجماعاتي وردّي، وبعض فيديوهات متناثرة هنا وهناك، وتبعاً لذلك فالقنوات الفضائية الجديدة تأتي في توقيت مناسب جداً، ما دام الحال كذلك».

الدعاية السياسية... وتضرر الموضوعية

أما ماجد الجريوي، الأكاديمي المتخصص في الإعلام، فيرى أن الاستمرار في إطلاق قنوات إخبارية جديدة «يؤكد، بل يجدد أهمية الإعلام ودوره المؤثر كقوة ناعمة في تكوين وتشكيل الاتجاهات والآراء، والحرص على السيطرة على منابع الأخبار وطرح الدعايات السياسية لكل كيان، ولا سيما أن معظم الكيانات الإخبارية ممولة من حكومات، والبعض الآخر تؤول ملكيته إلى القطاع الخاص، إلا أن ملّاكها لا تنقصهم الأهداف السياسية التي يسعون إلى تحقيقها».

ووفق الجريوي: «الاختلاف في التوجهات وتباين الدعايات السياسية من أهم الدوافع إلى تكوين أذرع إعلامية لكل مشروع أو توجه، يبني له منافذ إعلامية تضمن وصول أهدافه»، مستشهداً بحالة التباين في التغطية التي تبثها محطتا «سي إن إن» و«روسيا اليوم» للأحداث الشرق أوسطية، والاختلاف الذي يظهر بينهما، ليس على مستوى الرأي فحسب، بل في إيراد المعلومة والتعاطي معها. ومن ثم، يعتقد الجريوي أن «الموضوعية تشهد تناقصاً ملحوظاً... وخصوصاً بعدما أصبح معظم تلك القنوات ليست أكثر من كيانات ومشاريع وأذرع دعاية، الأمر الذي يجعل مساحة الحيادية والموضوعية تتناقص في فضاء الإعلام». ويستطرد: «تضرر الموضوعية يعجّل من هجرة الجمهور عن التلفزيون، ومحاولة البحث عن مصادر تلقٍ مختلفة ومنفصلة عن تأثير ملّاك المؤسسات... لكن هذا لا يعني أن التلفزيون بمحطاته الإخبارية الجديدة خسر الرهان في المنافسة الإعلامية». ويختتم موضحاً: «حتى مع ضعف الإقبال على التلفزيون، فإن حجم الشبكات الاجتماعية التابعة لتلك القنوات، والأعداد المليونية التابعة لها، علاوة على كثافة الآراء المطروحة والمعلومات التي تمرر فيها، كل هذا يوفّر لأي جهة تمتلك مشروعاً دعائياً الفرصة لأن تجد في القنوات الإخبارية أهم أدواته».



«البلاتفورمز» قلبت مقاييس اللعبة الإعلامية في لبنان

جانب من الحرم الرئيس للجامعة اللبنانية (الجامعة اللبنانية)
جانب من الحرم الرئيس للجامعة اللبنانية (الجامعة اللبنانية)
TT

«البلاتفورمز» قلبت مقاييس اللعبة الإعلامية في لبنان

جانب من الحرم الرئيس للجامعة اللبنانية (الجامعة اللبنانية)
جانب من الحرم الرئيس للجامعة اللبنانية (الجامعة اللبنانية)

لا تزال «مهنة المتاعب» الشغل الشاغل والوجهة الفضلى لنسبة لا يستهان بها من خريجي لبنان. إلا أنها في المقابل، حسب تقارير رسمية، ما عادت تشهد اليوم الإقبال الكثيف الذي لها في السابق. وفي جولة سريعة، قامت بها «الشرق الأوسط» على بعض كليات الإعلام اللبنانية، تبين لنا أن نسبة الإقبال على كلية الإعلام في «الجامعة اللبنانية»، وهي الجامعة الحكومية الأساس في البلاد، تشهد تراجعاً. وبعدما كانت أعداد المتقدمين لامتحان الدخول تتراوح بين 2000 و1000 طالب في سنوات سابقة، فإن هذه النسبة لا تتعدى اليوم 600 تلميذ. وبعد خضوع الطلبة للامتحان المتبع في منهج الجامعة، يتراجع العدد إلى ما لا يتجاوز 300 طالب بفرعي الجامعة الأول والثاني.

الأمر مختلف مع جامعة سيدة اللويزة (إن دي يو)، وهي جامعة خاصة، مقرّها في محيط شمال شرقي العاصمة بيروت. ووفق إحدى الأساتذة فيها، وهي الدكتورة ماريا أبو زيد، فإن أعداد الطلاب تحافظ على نسبتها المعتادة. وتوضح أبو زيد لـ«الشرق الأوسط» قائلة: «لدينا أقسام في هذا الاختصاص، تتراوح بين الإذاعة والتلفزيون والصحافة والإعلان. أما القطاع الأكثر جذباً فهو (السوشيال ميديا). والغالبية تسعى لأن تصبح من (المؤثرين) بشكل عام».

الشهرة هدف ومسعى

أوغستينا طالبة متخرجة حديثاً من كلية الإعلام في «الجامعة اللبنانية»، تعترف خلال لقاء مع «الشرق الأوسط» بأنها دخلت هذا الاختصاص سعياً وراء الشهرة. وتتابع: «كان لديّ فضول لأتعرف أكثر على هذا المجال (وزواريبه)، ولا سيما تلك الخاصة بالفن. نعم، حبّ الظهور والشهرة كانا أساسيين عندي. أنا لا أحب العمل وراء مكتب في الخفاء، كما في الصحافة المكتوبة. ولكن بعد تخرّجي تغيّرت نظرتي إلى الأمور نظراً لصعوبة إيجاد فرص عمل مواتية. وبالتالي، خفّ شغفي تجاه المهنة، وما زلت أبحث عن فرصة أستثمر فيها دراستي وأفكاري».

بعكس أوغستينا، يقول الطالب محمد العلي: «لم أفكر يوماً بالشهرة، ولا تشكل هدفاً عندي. لقد دخلت مجال الصحافة المكتوبة لأنني أحب البحث والموضوعية وإيجاد الأجوبة لكل سؤال يراودني».

تغيرت مقاييس المهنة

يتفق الأكاديميون على أن المشهد البصري يعزّز اليوم المجال الصحافي في لبنان وغيره، فيتقدم على أي اختصاص يرتبط بالإعلام. حتى الصحافة المكتوبة صارت تستعين بمقابلات وحوارات مصوّرة. وعلى الصفحات الإلكترونية من «فيسبوك» و«إنستغرام» و«تيك توك» ومواقع إلكترونية، تزداد المساحة باتجاه المشهد البصري.

وهنا يقول الدكتور علي رمال، العميد السابق لكلية الإعلام في الجامعة اللبنانية، وأحد أساتذتها اليوم، لـ«الشرق الأوسط»، إن المشهد الإعلامي كله تبدّل. ثم يشرح: «في الإعلام الحديث تغيّرت مقاييس المهنة. ثم إن حب الظهور حسّ إنساني لا يقتصر على طلاب الإعلام فقط. وفي الإعلام الحديث، تحضر فرص أكبر للظهور. وثمة نظرية اجتماعية تقول إن مَن هو غير موجود على السوشيال ميديا هو بحكم الميت. كما أن ثمة إعلاميين كُثراً عملوا في الإعلام التقليدي، لكنهم ما لبثوا أن انتقلوا إلى الحديث، فاستحدثوا صفحات ومواقع خاصة بهم... كونها توفّر لهم ما لم يكن بإمكانهم تحقيقه على الشاشة أو عبر المذياع».

الدكتور علي رمال (الشرق الأوسط)

الدكتور رمّال يرى أن حب الظهور «مسألة تتجاوز الترند... لوجود انخراط في المشهدية البصرية، وأحياناً تكون مبنية على الزيف. حتى المحتوى الذي يروّج له البعض يرتكز على التسويق. ولا شك أن ثمة دائماً أفكاراً بنّاءة عند كثيرين، لكن المشهد الطاغي هو البصري بامتياز وحب الشهرة، والمجال صار مشاعاً أمام الجميع».

الاستسهال هو السائد

من جهة ثانية، يرى إعلاميون ينتمون إلى الرعيل القديم في المهنة أن التعامل مع الجيل الجديد ينطوي على صعوبة. ويشددون على أن المشهد برمتّه اختلف، بعدما بات الهدف من ولوج هذا المجال هو مجرّد انتشار الاسم... وسط تراجع الأبعاد الثقافية والمحتوى الثري والبحث الجدي والموضوعية الضرورية. وبالفعل، يؤكد أساتذة وأكاديميون أن هذا النوع من الطلاب حاضر بنسبة كبيرة. وبالنسبة للدكتور جوزف عساف، أحد الأساتذة في كلية الإعلام في «الجامعة اللبنانية»، يمكن إيجاز المشهد العام بـ«الاستسهال». إذ يقول عساف، في لقاء مع «الشرق الأوسط»، إن «هناك إغراءات يستسلمون لها، خصوصاً في موضوع تحقيق الشهرة. الإعلام تحول من مهنة متاعب إلى نوع من حب الظهور. الإعلامي في الماضي... الذي كان محصّناً بثقافة عالية ومعرفة وحب التحليل صار شبه غائب».

إعلاميون كُثر عملوا في الإعلام التقليدي لكنهم ما لبثوا أن انتقلوا إلى الحديث... فاستحدثوا صفحات ومواقع خاصة بهم

وسألناه عن دور الأساتذة، فأجاب: «نحن نحرص أن نعلّمهم حقيقة الإعلام والهدف الموضوعي منه. لأن المسألة لا يمكن اختصارها بحب الظهور. هناك عوامل أهم، كاستشفاف الأحداث والتحليل والبحث. وفي الوقت نفسه فإننا نواكب الإعلام الحديث، إذ يستحيل تجاهله أو غض النظر عنه، خاصةً أن له أيضاً إيجابياته من تقنيات وسرعة انتشار... لكن العنصرين الأخيرين لا يصنعان وحدهما المحتوى الجيد».

عساف أشار إلى أن هناك نسبة تتراوح ما بين 20 في المائة و30 في المائة من الطلبة تتجاوب مع تعاليم الأساتذة والقواعد الأساسية للإعلام، في حين يتلهى الباقون في القشور وفي استسهال المهنة وأهدافها. واختتم كلامه بالقول: «لا نستطيع أن نغلب العصر ونتجاوزه... وأيضاً لا نمشي عكس التيار، لكننا نواكبه بأسس الإعلام الحقيقي».

من جانب آخر، يرى محمد شريتح، مدير مكتب تلفزيون «دي واي» الألماني في بيروت، أن المنصات الإلكترونية (البلاتفورمز) نسفت القواعد الأساسية للإعلام التقليدي. وأوضح لـ«الشرق الأوسط»، عندما التقيناه: «من خلال تجربتي المهنية وتعاوني مع طلاب إعلام تخرجوا حديثاً، لفتت انتباهي أمور كثيرة».

محمد شريتح (الشرق الأاوسط)

وأضاف: «من أهم هذه الأمور كسرهم قواعد أساسية تعلمناها في دراستنا الجامعية. هذا التراخي الذي يعتمدونه في ممارستهم عملهم تحوّل إلى أسلوب إعلامي جديد. وهنا مثلاً كان ممنوعاً علينا أن نقدّم تقريراً مصوراً يتخلله (الجامب كت)، وهو ما يعني القطع المفاجئ لكلام الضيف والانتقال إلى صورة أخرى تكراراً. إذ ما تعلّمناه في صناعة المحتوى المصوّر ضرورة تحاشي إبراز عملية (المونتاج)... وحسب رأيي، فإن المنّصات والمواقع الإلكترونية ولّدت أسلوب عمل صحافياً مختلفاً. صحيح أنني لا أستطيع أن أسميه أسلوباً خاطئاً، لكونه منتشراً بشكل كبير، لكنّ هناك لغة إعلامية مختلفة استحدثت على الساحة اليوم... وهي لا تشبه بتاتاً ما درسناه في مدرسة الإعلام التقليدي».