هل تنجح المصافحة الحارة بين الإعلام السعودي والمستقبل؟

متخصّصون شرحوا لـ«الشرق الأوسط» المقوّمات والاحتياجات لإنجاح «التحول الإعلامي»

للمرة الأولى تاريخيّاً يتحدّث وزير الإعلام في السعودية عن مساهمة القطاع في الناتج المحلي الإجمالي للبلاد (واس)
للمرة الأولى تاريخيّاً يتحدّث وزير الإعلام في السعودية عن مساهمة القطاع في الناتج المحلي الإجمالي للبلاد (واس)
TT

هل تنجح المصافحة الحارة بين الإعلام السعودي والمستقبل؟

للمرة الأولى تاريخيّاً يتحدّث وزير الإعلام في السعودية عن مساهمة القطاع في الناتج المحلي الإجمالي للبلاد (واس)
للمرة الأولى تاريخيّاً يتحدّث وزير الإعلام في السعودية عن مساهمة القطاع في الناتج المحلي الإجمالي للبلاد (واس)

كغيره من القطاعات الحيوية، يحظى قطاع الإعلام السعودي بسيل دائم من التناول حول مخرجاته وإمكاناته، لكن المختلف فيه، أنه يتمتّع بمساحة مفتوحة من النقاش يشارك فيها كل ذي علاقة، ومَن هو غير ذلك، وأحياناً تأتي الآمال والطموحات أكبر من الواقع بكثير، بينما في أحيان أخرى تكون مختلفة عن حقيقة المهمة الوطنية للقطاع، الذي مر بتأرجحات تاريخيّة، أسهمت في استيعاب التحديات، لكنها لم تعالجها بشكل تام.

منذ الثلث الأخير من عام 2023، ومطلع العام الجاري، شهد قطاع الإعلام في السعودية حراكاً نشِطاً لم يختلف عليه اثنان، ما بين مبادرات واستراتيجيات، أُعلن عنها ويُنتظر أن ترى النور قريباً، وانتخابات تاريخية لعضوية «مجلس إدارة هيئة الصحافيين»، ومعرض متخصص شارك فيه عدد من الشركات الإعلامية وعرضت من خلاله آخر ما توصّلت إليه التقنيات الإعلامية، ومنتدى إعلامي شهد حضور 2000 مشارك، وغيرها.

سلمان الدوسري وزير الإعلام السعودي، أعلن خلال افتتاحه «المنتدى السعودي للإعلام» بنسخته الثالثة، في 20 من فبراير (شباط) الجاري، أن عام 2024 هو عام «التحول الإعلامي في المملكة»، وستكون معاييره هي الأرقام، والمؤشرات، ومرتكزاته الشغف، والعمل، وفقاً للدوسري الذي حدّد أيضاً مستهدفَين بارزين لهذا العام (المساهمة بـ16 مليار ريال في الناتج المحلي الإجمالي لعام 2024، بزيادة 1.5 مليار ريال عن عام 2023، واستحداث أكثر من 67 ألف وظيفة في قطاع الإعلام، بزيادة 11 وظيفة)، مستنداً إلى 3 استراتيجيات وعدد من المشاريع والمبادرات والشراكات.

وكان لافتاً أنه وللمرة الأولى تاريخيّاً، يتحدّث وزير الإعلام في السعودية عن مساهمة القطاع في الناتج المحلي الإجمالي للبلاد، ورقم الوظائف المستحدثة، مما يضع القطاع في قلب العجلة التنموية للبلاد، فهل يملك القطاع المقوّمات والأدوات اللازمة لتحقيق مستهدفات «عام التحول الإعلامي»؟

تكلّم مختصّون ومهتمون بالقطاع من مواقعهم المختلفة لـ«الشرق الأوسط» حول توقّعاتهم لـ«عام التحول الإعلامي 2024»، وأجابوا عن تساؤلات دارت حول «فرص نجاح المصافحة الحارة بين الإعلام السعودي والمستقبل» من ثلاثة جوانب محددة هي: المشاريع، والشراكات، والتدريب. واتفق المتكلمون على عدد من النقاط، أهمها أن الحراك الذي يتمتع به القطاع خلال هذه المرحلة، ليس حراكاً تنظيميّاً أو يندرج تحت تسجيل الحضور فقط، إنما هو حراك حقيقي على جانبي القطاع الحكومي والخاص. وأنه مثل كل قطاع حيوي مهم، دائماً هناك فرص للنمو، ولكن التحدي الأكبر في الاستدامة... هناك تحديات أخرى تجب معالجتها مثل التدريب والتأهيل وتنمية القدرات البشرية، لكن الاستثنائية في هذه المرحلة بالنسبة لقطاع الإعلام السعودي، هو أنّه يتزامن مع ورشة عمل تنموية كبرى (رؤية 2030) تدور رحاها كل يوم في البلاد، كما أن هذا الحراك هو وسيلة، من أجل تحقيق غاية «التحول الإعلامي».

فيصل العقيل (الشرق الأوسط)

العقيل: سوق إعلامية تجاوزت قيمتها 20 مليار ريال

د.فيصل العقيل، رئيس قسم الاعلام بجامعة الملك سعود، حدّد عدة عوامل ينبغي الوعي بها والعمل وفقاً لأهميتهاً لإنجاح التحول الإعلامي لهذا العام، أولها «العمل الجمعي والتعاوني بين المنظومات المعنية بالشأن الإعلامي كافة سواء كانت في الجهات المشرِّعة كوزارة الإعلام وقطاعاتها المختلفة أو القطاعات الأكاديمية كالجامعات المسؤولة عن تغذية هذا المجال بالكوادر البشرية».

وأضاف العقيل في حديثه لـ«الشرق الأوسط» أن «السوق الإعلامية التي تجاوزت قيمتها 20 مليار ريال وتسيطر على نصيب لا بأس به من الناتج المحلي الإجمالي، وجود خطط منظِّمة لهذا التعاون بالإضافة إلى تنظيم السوق والاستفادة من الخبرات وتفعيل الاستراتيجيات التي تحدث عنها وزير الإعلام، ستلعب دوراً جوهريّاً في التحول الإعلامي في السعودية».

 

الدحيّه: «أهم منجز شهده حقل الإعلام هو إعلان استراتيجية قطاع الإعلام»

من جهته، اتفق سعيد الدحيّه، رئيس قسم الصحافة والإعلام الجديد في جامعة الإمام محمد بن سعود، مع جزء من حديث زميله فيصل العقيل، وأضاف لـ«الشرق الأوسط» أن «أهم منجز شهده حقل الإعلام في السعودية أخيراً هو إعلان استراتيجية قطاع الإعلام». وأوضح الدحيّه: «الحق أن قطاع الإعلام وصل متأخراً في سياق التحول الوطني الشامل، ولعل ما نشهده أخيراً يستمر في التنامي مستحضراً سياق الإعلام التقليدي وسياق الإعلام والاتصال الرقمي، مع تأكيد أهمية ألا ننصرف نحو قراءة الأرقام الإحصائية حيال المشاهدات والتفاعل والوصول ونحوها بصورة كاملة، على حساب الأثر النوعي الذي يحتل مرتبة الصدارة في مجال تصميم الاستراتيجيات الإعلامية والاتصالية على وجه التحديد. إذ إن الرقم عنصر سائل ضمن بيئة السيولة الاتصالية الرقمية القائمة على فكرة المحو والتحول، في حين تتركز الأهمية حول الأثر النوعي الصلب عبر المؤسسات الصلبة التي تستحق العناية».

 

تدريب وتأهيل الكوادر البشرية

العقيل والدحيّه اتفقا في عنصر تغذية القطاع بالكوادر البشرية من جانب الجامعات. وأكد العقيل أن العمل جارٍ في جامعة الملك سعود «مع قطاعات حكومية وخاصة في ما بعد المقررات الدراسية لربط الخريجين بسوق العمل عبر برامج التدريب والتوظيف. ونحن نسعى لتوثيق العلاقة بشكل أكبر مع هذه الجهات وغيرها لرفع جودة المخرجات بما يتناسب مع حاجة السوق. أما السبب فهو استشعارنا أهمية المواطنة وبناء ذاتنا إعلامياً عبر بناء الشباب السعودي ليكون مؤهلاً لقيادة إعلام بلده بكل كفاءة». وهنا أشار الدحيّه إلى «جدارة الشباب السعودي وقدرته على الإنجاز في القطاع الإعلامي»، وبرهن على ذلك بـ«مخرجات كليات وأقسام الإعلام في الجامعات السعودية بالتعاون مع جهات التدريب والتوظيف، وأشيد عالياً بخطوات التعاون الإيجابي، وأرجو أن يوازيها توجه واضح نحو التمكين الكامل».

من شأن تعليقات العقيل والدحيّه، وهما رئيسا قسمين للصحافة والإعلام في اثنتين من أهم الجامعات السعودية، أن تسلّط مزيداً من الضوء على إعلان وزير الإعلام السعودي سلمان الدوسري، يوم 20 فبراير (شباط) الجاري، إطلاق «الأكاديمية السعودية للإعلام»، التي تهدف إلى التمكين والتطوير والتدريب في تخصصات المستقبل، لتصبح الأكاديمية الإعلامية الخامسة في البلاد.

 

3 استراتيجيات دفعة واحدة

تميّزت تنمية القطاعات الرئيسية في البلاد خلال السنوات الأخيرة بالانطلاق من خلال استراتيجيات وطنيّة. وهذا ما لم يحظَ به قطاع الإعلام السعودي –آنذاك- الذي يُشارف عمره الحقيقي على إتمام المائة سنة الأولى.

منذ البدايات الأولى، عندما انطلقت صحيفة «أم القرى» يوم 12 سبتمبر (أيلول) 1924، وتلاها تأسيس وزارة الإعلام بمرسوم ملكي من الملك فيصل في مطلع مارس (آذار) عام 1963، لم يشهد قطاع الإعلام الرسمي السعودي، إطلاق استراتيجيّات كبرى من النوع الذي أعلن عنه وزير الإعلام السعودي أخيراً دفعة واحدة. إذ أُعلن عن 3 استراتيجيات تسير عليها منظومة الإعلام وتمثل خريطة طريق نحو إعلام المستقبل، وتسهم في تعزيز القطاع الإعلامي ورفع الجاذبية الاستثمارية، وأيضاً تعزيز كفاءة الكوادر الوطنية، لتتكامل بذلك مع استراتيجية «الهيئة العامة لتنظيم الإعلام»، التي أُعلن عنها في ديسمبر (كانون الأول) الماضي.

على صعيد الأرقام، من شأن الاستراتيجية المزمعة لهيئة الإذاعة والتلفزيون، على سبيل المثال، أن تكون تحت المجهر خلال المرحلة القادمة، خصوصاً من ناحية المحتوى المرئي المنتظَر، وسط تركيز المراقبين والمتابعين على جودته ورصانته وارتباطه بما ينتظرونه من الهيئة. وذلك بعدما أظهرت أرقام رصدتها شركة «التصنيف الإعلامية MRC»، نسب مشاهدات مرتفعة للتلفزيون في السعودية خلال العام المنصرم 2023، خصوصاً أن الشركة ذاتها استخرجت التصريح الوحيد من «الهيئة العامة لتنظيم الإعلام» الخاصة بقياس نسب المشاهدين في السعودية. وأظهرت البيانات أن مشاهدة التلفزيون في المنازل لا تزال قوية، مع نحو 19 مليون مشاهدة غير متكررة، أي ما يعادل نحو 93 في المائة من المشاهدين كل شهر، ويبلغ متوسط وقت المشاهدة اليومي نحو 4 ساعات و50 دقيقة.

الاستراتيجية المزمعة لهيئة الإذاعة والتلفزيون ستكون تحت المجهر خلال المرحلة القادمة مع ارتفاع المشاهدات للتلفزيون في شهر رمضان الماضي إلى 50 % (موقع الهيئة)

وأضافت البيانات التي حصلت عليها «الشرق الأوسط» من «MRC»، أن مشاهدة التلفزيون في السعودية «نشاط عائلي»، إذ إن ما يقرب من 80 في المائة من إجمالي المشاهدات على أجهزة التلفزيون في المنزل هي مشاهدات مشتركة، وقفزت نسبة المشاهدين الذين يشاهدون التلفزيون لمدة 16 يوماً أو أكثر في الشهر من 40 في المائة إلى 50 في المائة في شهر رمضان من العام الماضي.

المتخصّص في إدارة المؤسسات الإعلامية حبيب الشمري، رأى أن «هناك حراكاً كبيراً وواضحاً يتزامن معه إطلاق الاستراتيجيات الثلاث، بالإضافة إلى استراتيجية الهيئة العامة لتنظيم الإعلام من أجل أن تكون قادرة على احتواء هذا الحراك والتحديث، فالمشاريع الإعلامية التي أُطلقت خلال العام الماضي والحالي تهدف إلى رفع كفاءة وجودة المحتوى المحلي إضافةً إلى زيادة نصيب الإعلام المحلي من الوظائف والموظفين».

وطرح الشمري نماذج على ذلك: «نقل بعض القنوات الإقليمية ليكون مقرها في مدينة الرياض، أو إطلاق قنوات وخدمات إعلامية جديدة، ناهيك بالاتفاقيات الإعلامية التي تعقدها الشركات الإعلامية المحلية والهيئات الحكومية مع المؤسسات الإعلامية والتقنية العالمية ومعاهد صناعة الإعلام حول العالم بهدف توسيع الشراكات والاستثمارات وبناء العلاقات، في مجالات كثيرة على غرار إنتاج المحتوى الرقمي وتطوير المنصات الرقمية وخدمات الأبحاث الإعلامية، وتنظيم الفعاليات المتخصصة في مجال الإعلام، تصل في النهاية إلى الهدف الأهم وهو تطوير رأس المال البشري من خلال دعم الابتكار وزيادة فرص التدريب».

 

الشراكة مع شركات التقنية العالمية

وفي جانب الشراكة مع شركات من طراز «غوغل» و«هواوي» و«علي بابا» وغيرها، أجاب حبيب الشمري على سؤال لـ«الشرق الأوسط» بأن «تلك المؤسسات العالمية تستطيع أن تغير من واقع واستراتيجيات الهيئات والمؤسسات الإعلامية المحلية لمساعدتها على مواكبة التغيرات العالمية السريعة في مجال الإعلام، ولتكون أكثر حيوية ومنافسة من خلال احتكاكها بالشركات العالمية والاستفادة من تجاربها في نقل هذه المعرفة التقنية والإعلامية».

من زاوية أخرى، رأى الشمري أن «رؤية السعودية 2030 ركّزت في جزء من مبادراتها وبرامجها على مفهوم التوطين خصوصاً في التقنية والصناعات المختلفة، وبما لا يقل أهمية عن الصناعة هناك أيضاً تركيز على توطين ونقل المعرفة في مجالات مثل الإعلام ورفع كفاءة وتنافسية المحتوى المحلي في كل مجالات الإعلام... وهي شراكات ذات أهمية بالغة، إذ إن مثل هذه الشركات تقود المشهد العالمي إنْ صحَّ التعبير في مجال الابتكار وسوق المنتجات والتطبيقات الإعلامية وحتى في صناعة وتوجيه الرأي العام».

معرض «فومكس»

توطين أمن المحتوى والبيانات

ونتيجة لذلك، يضع حبيب الشمري إصبعاً على جانب ذي أبعاد مختلفة لجهة «أمن المحتوى والبيانات». ذلك أن شركات التقنية العملاقة مثل هذه الشركات، وفقاً لوصفه، «خلقت تحوّلات وتغيرات كبيرة بابتكاراتها التي تضم الذكاء الاصطناعي والحوسبة والتخزين السحابي، الأمر الذي يقودنا إلى قضية حساسة هي أمن المحتوى والبيانات ومسألة مَن لديه القدرة على امتلاك أو حتى الوصول إلى هذه البيانات، فالتوطين في مجال حساس كهذا أصبح أمراً بالغ الأهمية عند صانع القرار».

المهندس بندر المشهدي، الرئيس التنفيذي لشركة التصنيف الإعلامية «MRC»، اتفق هنا مع حبيب عبد الله، لكنه اشترط للتعاون أن يكون «بشكل شفاف ومستدام كي تعود الفوائد على الجميع وتحافظ على سيادة وحماية المعلومات الحساسة». وتابع أن الشراكات مع هذه الشركات المرموقة تُعزِّز بشكل عام قدرات وزارة الإعلام في مجال التكنولوجيا والاتصالات، وتسهم في تحسين الخدمات المقدمة ونطاق وصول المعلومات.

إنَّ جزءاً من المطالبات التي اعتاد قطاع الإعلام السعودي على تلقّيها كان أن يرتقي إلى مستوى الطموحات والإنجازات الجارية ضمن ورشة العمل الكبرى في البلاد، وفي هذه اللحظة الفارقة في تاريخ الإعلام السعودي، تتجه صوب متابعة تفاصيل التحوّل، ومعالجة مسائل الاستثمار واللوائح والتدريب والمحتوى، وغيرها، وعطفاً على تلك الاحتياجات التي يسردها الخبراء والمختصون وأبناء القطاع دائماً، فإن الأرقام والمؤشّرات، ستكون الشاهد الرئيسي، والمعيار الأساسي لقياس مستوى التحول.

وعطفاً على ذلك؛ هل تنجح المصافحة الحارّة بين الإعلام السعودي والمستقبل؟



فوز ترمب «يُحطم» البنية الإعلامية التقليدية للديمقراطيين

ليلة انتصار ترمب... على الإعلام التقليدي (رويترز)
ليلة انتصار ترمب... على الإعلام التقليدي (رويترز)
TT

فوز ترمب «يُحطم» البنية الإعلامية التقليدية للديمقراطيين

ليلة انتصار ترمب... على الإعلام التقليدي (رويترز)
ليلة انتصار ترمب... على الإعلام التقليدي (رويترز)

قد يكون من الواجب المهني الاعتراف بأن الجميع أخطأ في قراءة مجريات المعركة الانتخابية، والمؤشرات التي كانت كلها تقود إلى أن دونالد ترمب في طريقه للعودة مرة ثانية إلى البيت الأبيض. وترافق ذلك مع حالة من الإنكار لما كانت استطلاعات الرأي تُشير إليه عن هموم الناخب الأميركي، والأخطاء التي أدّت إلى قلّة التنبُّه لـ«الأماكن المخفية»، التي كان ينبغي الالتفات إليها.

لا ثقة بالإعلام الإخباري

وبمعزل عن الدوافع التي دعت جيف بيزوس، مالك صحيفة «واشنطن بوست»، إلى القول بأن «الأميركيين لا يثقون بوسائل الإعلام الإخبارية» لتبرير الامتناع عن تأييد أي من المرشحيْن، تظل «الحقيقة المؤلمة» أن وسائل الإعلام الأميركية، خصوصاً الليبرالية منها، كانت سبباً رئيسياً، ستدفع الثمن باهظاً، جراء الدور الذي لعبته في تمويه الحقائق عن الهموم التي تقضّ مضاجع الأميركيين.

صباح يوم الأربعاء، ومع إعلان الفوز الكاسح لترمب، بدا الارتباك واضحاً على تلك المؤسسات المكتوبة منها أو المرئية. ومع بدء تقاذف المسؤوليات عن أسباب خسارة الديمقراطيين، كانت وسائل الإعلام هي الضحية.

وفي بلد يتمتع بصحافة فعّالة، كان لافتاً أن تظل الأوهام قائمة حتى يوم الانتخابات، حين أصرت عناوينها الرئيسية على أن الأميركيين يعيشون في واحد من «أقوى الاقتصادات» على الإطلاق، ومعدلات الجريمة في انخفاض، وعلى أن حكام «الولايات الحمراء» يُضخّمون مشكلة المهاجرين، وأن كبرى القضايا هي المناخ والعنصرية والإجهاض وحقوق المتحولين جنسياً.

في هذا الوقت، وفي حين كان الجمهوريون يُسجلون زيادة غير مسبوقة في أعداد الناخبين، والتصويت المبكر، ويستفيدون من التحوّلات الديموغرافية التي تشير إلى انزياح مزيد من الناخبين ذوي البشرة السمراء واللاتينيين نحو تأييد ترمب والجمهوريين، أصرّت العناوين الرئيسية على أن كامالا هاريس ستفوز بموجة من النساء في الضواحي.

جيف بيزوس مالك «واشنطن بوست» (رويترز)

عجز عن فهم أسباب التصويت لترمب

من جهة ثانية، صحيفة «وول ستريت جورنال»، مع أنها محسوبة على الجمهوريين المعتدلين، وأسهمت استطلاعاتها هي الأخرى في خلق صورة خدعت كثيرين، تساءلت عمّا إذا كان الديمقراطيون الذين يشعرون بالصدمة من خسارتهم، سيُعيدون تقييم خطابهم وبرنامجهم السياسي، وكذلك الإعلام المنحاز لهم، لمعرفة لماذا صوّت الأميركيون لترمب، ولماذا غاب ذلك عنهم؟

في أي حال، رغم رهان تلك المؤسسات على أن عودة ترمب ستتيح لها تدفقاً جديداً للاشتراكات، كما جرى عام 2016، يرى البعض أن عودته الجديدة ستكون أكثر هدوءاً مما كانت عليه في إدارته الأولى، لأن بعض القراء سئِموا أو استنفدوا من التغطية الإخبارية السائدة.

وحتى مع متابعة المشاهدين لنتائج الانتخابات، يرى الخبراء أن تقييمات متابعة التلفزيون والصحف التقليدية في انحدار مستمر، ومن غير المرجّح أن يُغيّر فوز ترمب هذا المأزق. وبغضّ النظر عن زيادة عدد المشاهدين في الأمد القريب، يرى هؤلاء أن على المسؤولين التنفيذيين في وسائل الإعلام الإخبارية وضع مهامهم طويلة الأجل قبل مخاوفهم التجارية قصيرة الأجل، أو المخاطرة «بتنفير» جماهيرهم لسنوات مقبلة.

وهنا يرى فرانك سيزنو، الأستاذ في جامعة «جورج واشنطن» ورئيس مكتب واشنطن السابق لشبكة «سي إن إن» أنه «من المرجح أن يكون عهد ترمب الثاني مختلفاً تماماً عمّا رأيناه من قبل. وسيحمل هذا عواقب وخيمة، وقيمة إخبارية، وينشّط وسائل الإعلام اليمينية، ويثير ذعر اليسار». ويضيف سيزنو «من الأهمية بمكان أن تفكر هذه القنوات في تقييماتها، وأن تفكر أيضاً بعمق في الخدمة العامة التي من المفترض أن تلعبها، حتى في سوق تنافسية للغاية يقودها القطاع الخاص».

صعود الإعلام الرقمي

في هذه الأثناء، يرى آخرون أن المستفيدين المحتملين الآخرين من دورة الأخبار عالية الكثافة بعد فوز ترمب، هم صانعو الـ«بودكاست» والإعلام الرقمي وغيرهم من المبدعين عبر الإنترنت، الذين اجتذبهم ترمب وكامالا هاريس خلال الفترة التي سبقت الانتخابات. وهو ما عُدَّ إشارة إلى أن القوة الزائدة للأصوات المؤثرة خارج وسائل الإعلام الرئيسية ستتواصل في أعقاب الانتخابات.

وفي هذا الإطار، قال كريس بالف، الذي يرأس شركة إعلامية تنتج بودكاست، لصحيفة «نيويورك تايمز» معلّقاً: «لقد بنى هؤلاء المبدعون جمهوراً كبيراً ومخلصاً حقّاً. ومن الواضح أن هذا هو الأمر الذي يتّجه إليه استهلاك وسائل الإعلام، ومن ثم، فإن هذا هو المكان الذي يحتاج المرشحون السياسيون إلى الذهاب إليه للوصول إلى هذا الجمهور».

والواقع، لم يخسر الديمقراطيون بصورة سيئة فحسب، بل أيضاً تحطّمت البنية الإعلامية التقليدية المتعاطفة مع آرائهم والمعادية لترمب، وهذا ما أدى إلى تنشيط وسائل الإعلام غير التقليدية، وبدأت في دفع الرجال من البيئتين الهسبانيكية (الأميركية اللاتينية) والفريقية (السوداء) بعيداً عنهم، خصوصاً، العمال منهم.

يرى الخبراء أن تقييمات متابعة التلفزيون والصحف التقليدية في انحدار مستمر ومن غير المرجّح أن يُغيّر فوز ترمب هذا المأزق

تهميش الإعلام التقليدي

لقد كانت الإحصاءات تشير إلى أن ما يقرب من 50 مليون شخص، قد أصغوا إلى «بودكاست» جو روغان مع ترمب، حين قدم تقييماً أكثر دقة لمواقفه ولمخاوف البلاد من المقالات والتحليلات التي حفلت بها وسائل الإعلام التقليدية، عن «سلطويته» و«فاشيته» لتدمير المناخ وحقوق الإجهاض والديمقراطية. ومع ذلك، لا تزال وسائل الإعلام، خصوصاً الليبرالية منها، تلزم الصمت في تقييم ما جرى، رغم أن توجّه الناخبين نحو الوسائل الجديدة عُدّ تهميشاً لها من قِبَل الناخبين، لمصلحة مذيعين ومؤثّرين يثقون بهم. وبالمناسبة، فإن روغان، الذي يُعد من أكبر المؤثّرين، ويتابعه ملايين الأميركيين، وصفته «سي إن إن» عام 2020 بأنه «يميل إلى الليبرالية»، وكان من أشد المؤيدين للسيناتور اليساري بيرني ساندرز، وقد خسره الديمقراطيون في الانتخابات الأخيرة عند إعلانه دعمه لترمب. وبدا أن خطاب ساندرز الذي انتقد فيه حزبه جراء ابتعاده عن الطبقة العاملة التي تخلّت عنه، أقرب إلى ترمب منه إلى نُخب حزبه، كما بدا الأخير بدوره أقرب إلى ساندرز من أغنياء حزبه الجمهوري.