«الإعلانات السياقية» على منصات الأخبار بين حماية «الخصوصية» والمكاسب المادية

جيمس فليثام (موقعه على "لينكد إن")
جيمس فليثام (موقعه على "لينكد إن")
TT

«الإعلانات السياقية» على منصات الأخبار بين حماية «الخصوصية» والمكاسب المادية

جيمس فليثام (موقعه على "لينكد إن")
جيمس فليثام (موقعه على "لينكد إن")

يبدو أن منصات الأخبار بصدد البحث عن «استراتيجية» جديدة لاستضافة الإعلانات من دون جمع بيانات المستخدمين، أو اتباع نظام «الكوكيز» (ملفات تعريف الارتباط) الذي يواجه رفضاً من قبل البعض، بحجة أنه يشكل «اختراقاً للخصوصية».

إذ تتجه اليوم صحف عالمية إلى نموذج «الإعلانات السياقية»، الذي يقضي بنشر الإعلان على أن يكون «ذا صلة بالمحتوى الموجود على الصفحة». وعلى سبيل المثال، إذا كان القارئ مهتماً بأمور التكنولوجيا قد يُعرض له إعلان عن شركة هواتف جوّالة من دون الحاجة لقبول «الكوكيز»، مما يضمن وصول المعلن إلى المُستخدم. ووفق خبراء، فإن هذا النموذج يضمن الوصول إلى المستخدمين الذين يرفضون نظام «الكوكيز، ومن ثم يكسب تغطية جماهيرية أوسع من دون قيود.

غير أن ثمة تساؤلات، في المقتبل، حول جدوى «الإعلانات السياقية»، ومدى تحقيقها للأرباح الموضوعة من قبل كل من المنصة والمعلن، حتى وإن كانت نموذجاً لـ«حماية الخصوصية». وبحسب صحيفة «الغارديان» البريطانية - التي اعتمدت بالفعل المنتج الإعلاني الجديد في منتصف نوفمبر (تشرين الثاني) الحالي - فإن هذا النموذج الإعلاني يستهدف بالأساس القراء الذين يضغطون على زر الرفض على رسالة «الكوكيز» من أجل حماية بياناتهم الشخصية. ويوضح جيمس فليثام، مدير التسويق والأبحاث بصحيفة «الغارديان»، أن 30 في المائة من القراء يرفضون نظام «الكوكيز» تبعاً لأبحاث أجريت من قبل منصة الإعلانات «بريموتيف»، غير أن أبحاثاً أخرى تشير إلى نسب أعلى من الرفض قد تصل إلى 70 في المائة من القراء. وللعلم، فنموذج «الإعلانات السياقية» لا يعني التوقف عن اتباع «ملفات تعريف الارتباط»، بينما تتجه منصات الأخبار إلى المزج بين النموذجين بهدف وصول المُعلن إلى أكبر قاعدة جماهيرية، ومن ثم ضمان أرباح أعلى.

من ناحية ثانية، كشفت إيموجين فوكس، مسؤولة الإعلانات في «الغارديان»، عن ارتفاع معدل التصفّح بنسبة تصل إلى 35 في المائة، مقارنة بالمعدلات التقليدية قبل اعتماد «الإعلانات السياقية»، وأرجعت ذلك إلى أن الصفحات لم تعد مكدّسة بالإعلانات... مما يوفر «تجربة قراءة أكثر راحة ومتعة».

الدكتور أنس النجداوي، مدير جامعة أبوظبي في دبي ومستشار الأعمال الرقمية، اعتبر خلال لقاء مع «الشرق الأوسط» أن هذا التوجه «مبتكر»، لأنه «يوازن بين خصوصية المستخدم وحاجة المنصة إلى الإعلانات كمصدر ربحي». وأردف: «الميزة في هذا النموذج، هي احترام رغبات المستخدمين لا خصوصيتهم فحسب». وفي ضوء الانتقادات العديدة والإشكاليات التي تسبب فيها نظام «الكوكيز»، بسبب آلية جمع البيانات واستخدامها، يقول النجداوي إن «عدداً كبيراً من المستخدمين يرفضون قبول نظام ملفات تعريف الارتباط، وجميعهم كانوا خارج الإطار المستهدف من قبل المعلن، وهذا أمر يمكن أن يؤثر على الأرباح، ويجعل الشريحة المستهدفة أصغر ما يمكن الوصول إليه».

ومن ثم، يصف النجداوي الشريحة الرافضة لـ«الكوكيز»، بأنها «مستخدم فعال ويعي حقوقه في حماية بياناته، وهذا النوع من المستخدمين مؤثّر للمعلن أيضاً». ويتابع: «إن نموذج الإعلانات السياقية يحقق حماية فعلية للبيانات، لأنه يمنع رصد وجمع المعلومات وإعادة مشاركتها مع طرف ثالث، وهذا من شأنه تعزيز الثقة في العلاقة المباشرة والشخصية بين المستخدم ومنصة الأخبار». وعليه، فإنه يتوقع أن يحقق النموذج الإعلاني المطروح رواجاً بين منصات الأخبار، بل ويصل إلى قاعدة جماهيرية أكثر تنوعاً... إذ إن القوانين المستحدثة جميعها تصب في صالح حماية الخصوصية، من ثم عاجلاً أو أجلاً، على جميع من يقدم خدمات عبر الإنترنت، سواءً شركات أو منصات أخبار أو ترفيه، أن يجد البديل لنموذج جمع البيانات ومشاركتها مع الغير».

ثم إنه على الرغم من ترجيح نموذج «الإعلانات السياقية»، يثير الدكتور النجداوي تساؤلاً حول كيفية تحديد الإعلانات المناسبة لسياقات المادة الصحافية. فيقول: «نجاح هذه التجربة يحتاج إلى بحث ودراسة من قبل منصة الأخبار، وكذلك المُعلن لتوجيه الإعلان إلى المستخدم المناسب». وحول إعلان «غوغل» خلال العام الماضي عن عزمها التخلي «تدريجياً» عن نظام «الكوكيز» بهدف «حماية الخصوصية»، لا يتوقع النجداوي تجاوب «غوغل» سريعاً مع «الإعلانات السياقية»، لا سيما وأنه الكيان الأبرز في مجال الإعلانات الرقمية، ولديه كثير من الارتباطات بشأن الإعلانات. إلا أنه لم ينف ابتكار «غوغل» نموذجاً قريباً للخروج من معضلة الأرباح والخصوصية.

من جهته، يعدُّ الدكتور السر علي سعد، الأستاذ المشارك في تخصص الإعلام الجديد في جامعة أم القيوين بدولة الإمارات، أن تطوير نظم الإعلان على المنصات الرقمية للأخبار بات ضرورة. ويبرر ذلك بقوله: «تعرّضت المنصات الرقمية إلى هزات في التمويل جراء تراجع الإعلانات الرقمية خلال جائحة (كوفيد - 19). وحتى مع تلاشي الجائحة، أطلّت الحروب لتجعل المعلن في حالة تردد نتيجة لانخفاض النشاط الاقتصادي في العديد من القطاعات، وهذا أثر على إنفاق الشركات على الإعلانات». وأضاف سعد في حوار مع «الشرق الأوسط» أنه «تراجعت بالتبعية الإعلانات المطبوعة، وهو ما دفع إلى الاتجاه نحو الإعلانات الرقمية، وتالياً خلق تنافساً بشكل أكبر على المساحة الإعلانية المتاحة، الأمر الذي يؤدي إلى تراجع الدخل المالي للمؤسسات الصحافية». واختتم بالقول: «إن الوقت بات مُهيئاً لحلول مبتكرة من شأنها جذب المعلن وحماية القارئ».

أما فهد عبد الرحمن الدريبي، الخبير السعودي المتخصص في الأمن السيبراني والتقنية، فقد دحض لـ«الشرق الأوسط» فكرة الابتكار في اتجاه «الإعلانات السياقية»، وعدّه «عودة للأصل». وأردف: «إذا عدنا بالذاكرة إلى النموذج الإعلاني في الصحف، وحتى المواقع قبل نظام التتبع ومشاركة البيانات الكوكيز، سنجد أن الصحيفة أو المعلن كانا يضعان الإعلان بحسب الخدمة التي تقدمها كل صفحة، مما يعني أن ما نحن بصدده عودة لنظام قديم». ثم تابع: «لا أعني بذلك عدم الجدوى، بل على النقيض، نثمن حماية بيانات المستخدم في كل الأحوال».

ويرى الدريبي أن اتجاه «الكوكيز» كان الهدف منه الاستهداف المباشر للأشخاص، «ولقد باتت الإعلانات خلال السنوات الماضية تلاحق المستخدم حسب احتياجاته، غير أن هذا الاتجاه واجه ضوابط حثيثة في العام الماضي تحديداً». وذكر أن «ظهور أنظمة حماية البيانات الشخصية، وتفعيل قانون الـ(جي دي بي آر) الأوروبي الخاص بحماية البيانات - مع توقع المزيد من التوسع في هذا النظام ليشمل دولاً خارج أوروبا، - دفع إلى التفكير في تعديل نظام الإعلانات واستهداف المستخدم». واستطرد متوقعاً أن «تُطرح قريباً نماذج متعددة للإعلان... وربما سنرى نظماً عدة مع ترك الخيار للمستخدم حسب رغباته ونظرته لبياناته الشخصية وحدود الخصوصية. وبناء عليه، فما نحن بصدده هو مزيج بين الكوكيز والإعلانات السياقية، مما سيعني حرية الاختيار وتحقيق أرباح مضمونة مُرضية لجميع أطراف الصناعة».



كيف تؤثر زيادة الإنفاق على إعلانات الفيديو في اتجاهات الناشرين؟

شعار «يوتيوب» (د. ب. آ.)
شعار «يوتيوب» (د. ب. آ.)
TT

كيف تؤثر زيادة الإنفاق على إعلانات الفيديو في اتجاهات الناشرين؟

شعار «يوتيوب» (د. ب. آ.)
شعار «يوتيوب» (د. ب. آ.)

أثارت بيانات عن ارتفاع الإنفاق الإعلاني على محتوى الفيديو عبر الإنترنت خلال الربع الأول من العام الحالي، تساؤلات حول اتجاهات الناشرين في المرحلة المقبلة، لا سيما فيما يتعلق بتوجيه الطاقات نحو المحتوى المرئي بغرض تحقيق الاستقرار المالي للمؤسسات، عقب تراجع العوائد المادية التي كانت تحققها منصات الأخبار من مواقع التواصل الاجتماعي.

مؤسسة «لاب» LAB، وهي هيئة بريطانية معنية بالإعلانات عبر الإنترنت، كانت قد نشرت بيانات تشير إلى ارتفاع الإنفاق الإعلاني على الفيديو في بريطانيا خلال الربع الأول من عام 2024، وقدّر هذا النمو بنحو 26 في المائة مقارنة بالتوقيت عينه خلال العام الماضي، حين حققت الإعلانات عبر الفيديو عوائد مالية وصلت إلى 4.12 مليار جنيه إسترليني داخل المملكة المتحدة وحدها. وتتوقّع بيانات الهيئة استمرار النمو في عوائد الإعلانات في الفيديو حتى نهاية 2024، وقد يمتد إلى النصف الأول من 2025.

مراقبون التقتهم «الشرق الأوسط» يرون أن هذا الاتجاه قد ينعكس على خطط الناشرين المستقبلية، من خلال الدفع نحو استثمارات أوسع في المحتوى المرئي سواءً للنشر على المواقع الإخبارية أو على «يوتيوب» وغيره من منصّات «التواصل».

إذ أرجع الدكتور أنس النجداوي، مدير جامعة أبوظبي ومستشار التكنولوجيا لقناتي «العربية» و«الحدث»، أهمية الفيديو إلى أنه بات مرتكزاً أصيلاً لنجاح التسويق الرقمي. وحدّد من جانبه طرق الاستفادة من الفيديو لتحقيق عوائد مالية مثل «برامج شركاء (اليوتيوب) التي يمكن للناشرين من خلالها تحقيق أرباح من الإعلانات المعروضة في فيديوهاتهم».

وعدّد النجداوي مسالك الربح بقوله: «أيضاً التسويق بالعمولة عن طريق ترويج منتجات أو خدمات من خلال الفيديوهات والحصول على عمولة مقابل كل عملية بيع عبر الروابط التي تُدرج في هذه الفيديوهات... أما الطريقة الأخرى - وهي الأبرز بالنسبة للناشرين - فهي أن يكون المحتوى نفسه حصرياً، ويٌقدم من قبل مختصين، وكذلك قد تقدم المنصة اشتراكات شهرية أو رسوم مشاهدة، ما يوفر دخلاً مباشراً».

ومن ثم حدد النجداوي شروطاً يجب توافرها في الفيديو لتحقيق أرباح، شارحاً: «هناك معايير وضعتها منصات التواصل الاجتماعي لعملية (المونتايزيشن)؛ منها أن يكون المحتوى عالي الجودة من حيث التصوير والصوت، بحيث يكون جاذباً للمشاهدين، أيضاً مدى توفير خدمات تفاعلية على الفيديو تشجع على المشاركة والتفاعل المستمر. بالإضافة إلى ذلك، الالتزام بسياسات المنصة».

ورهن نجاح اتجاه الناشرين إلى الفيديو بعدة معايير يجب توفرها، وأردف: «أتوقع أن الجمهور يتوق إلى معلومات وقصص إخبارية وأفلام وثائقية وتحليلات مرئية تلتزم بالمصداقية والدقة والسرد العميق المفصل للأحداث، ومن هنا يمكن للناشرين تحقيق أرباح مستدامة سواء من خلال الإعلانات أو الاشتراكات».

في هذا السياق، أشارت شركة الاستشارات الإعلامية العالمية «ميديا سينس» إلى أن العام الماضي شهد ارتفاعاً في استثمارات الناشرين البارزين في إنتاج محتوى الفيديو، سواء عبر مواقعهم الخاصة أو منصّات التواصل الاجتماعي، بينما وجد تقرير الأخبار الرقمية من «معهد رويترز لدراسة الصحافة» - الذي نشر مطلع العام - أن الفيديو سيصبح منتجاً رئيسياً لغرف الأخبار عبر الإنترنت، وحدد التقرير الشباب بأنهم الفئة الأكثر استهلاكاً للمحتوى المرئي.

من جهة ثانية، عن استراتيجيات الاستقرار المالي للناشرين، أوضح أحمد سعيد العلوي، رئيس تحرير «العين الإخبارية» وشبكة «سي إن إن» الاقتصادية، أن العوائد المالية المستدامة لن تتحقق بمسلك واحد، بل إن ثمة استراتيجيات يجب أن تتضافر في هذا الشأن، وأوضح أن «قطاع الإعلام يواجه تغيّرات سريعة مع تزايد المنافسة بين المنصّات الرقمية وشركات التكنولوجيا الكبرى مثل (ميتا) و(غوغل) وغيرهما، كما تواجه هذه السوق تحدّيات كبيرة تتعلق بالاستقرار المالي واستقطاب المستخدمين، فلم يعد الاعتماد على نماذج الدخل التقليدية (سائداً)... وهو ما يفرض على وسائل الإعلام البحث عن طرق جديدة لتوفير الإيرادات وتقديم محتوى متميز يجذب الجمهور».

كذلك، أشار العلوي إلى أهمية الاعتماد على عدة استراتيجيات لضمان الاستقرار المالي لمنصات الأخبار. وعدّ المحتوى المرئي والمسموع إحدى استراتيجيات تحقيق الاستقرار المالي للناشرين، قائلاً: «لا بد من الاستثمار في المحتوى المرئي والمسموع، سواءً من خلال الإعلانات المُدمجة داخل المحتوى، أو الاشتراكات المخصصة للبودكاست والبرامج الحصرية، لكن التكيّف مع التغيرات السريعة في سوق الإعلام يدفع وسائل الإعلام لتطوير وتنويع مصادر دخلها، لتشمل عدة مسارات من بينها الفيديو».