أزمة الإعلام التونسي... قانونية وسياسية أم أخلاقية ومهنية؟

دراسات جديدة تشدد على «ميثاق شرف المهنة»

مظاهرة لصحافيين تونسيين أمام نقابتهم مطلع الشهر (غيتي)
مظاهرة لصحافيين تونسيين أمام نقابتهم مطلع الشهر (غيتي)
TT

أزمة الإعلام التونسي... قانونية وسياسية أم أخلاقية ومهنية؟

مظاهرة لصحافيين تونسيين أمام نقابتهم مطلع الشهر (غيتي)
مظاهرة لصحافيين تونسيين أمام نقابتهم مطلع الشهر (غيتي)

تكشف كتابات وتصريحات غالبية الإعلاميين والمثقفين والسياسيين في تونس أنهم يعدون أن «توسيع هامش الحريات الإعلامية» كان أهم مكسب تحقق منذ التغيير على رأس السلطة في يناير (كانون الثاني) 2011. وإذ تُوجَّه منذ 12 سنة انتقادات واتهامات بالجملة للإعلاميين وإلى صنّاع القرار الاقتصادي والسياسي، من بينها توظيف بعض وسائل الإعلام خدمة لأجندات محلية وإقليمية ودولية «مشبوهة»، فإن الجامعيين والنشطاء الذين يتهمون السلطات بـ«تضييق هامش الحريات الإعلامية» يقرّون بثراء التجارب الإعلامية في تونس منذ اندلاع الكفاح الوطني ضد الاحتلال الفرنسي في القرن الـ19 ومطلع القرن الـ20، ثم في عهد الحكومات المتعاقبة منذ إعلان الاستقلال عن فرنسا في ربيع 1956.

نقيب الصحافيين التونسيين محمد ياسين الجلاصي قال أخيراً، على هامش إحالة 20 صحافياً إلى التحقيق، إن «الإعلام التونسي في أزمة غير مسبوقة». وكان عشرات المحامين والسياسيين والمثقفين والإعلاميين والنشطاء الحقوقيين قد أحيلوا إلى التحقيق، أو إلى المحاكم، بتهم تتصل بتصريحات ومواقف عبّروا عنها في وسائل الإعلام التقليدية والإلكترونية والمواقع الاجتماعية، وبـ«المنشور 54» الذي صدر العام الماضي، ووصفه الإعلاميون بـ«الزجري».

هذا، وبلغ الأمر حد إصدار حكم بالسجن لمدة 5 سنوات على الشاب خليفة القاسمي، المراسل الصحافي لإذاعة «موزاييك» الخاصة، بسبب نشره تقريراً إخبارياً، اعتبرت السلطات أنه «أربك خطة أمنية لتتبّع مجموعة إرهابية». وحُكم على الأمني الذي قدّم له المعلومة بالسجن 8 سنوات، كما حُكم بتمديد حبس المدير العام للقناة الإذاعية نفسها، الصحافي نور الدين بوطار، رغم مرور أكثر من 100 يوم على إيقافه مع عشرات السياسيين ورجال الأعمال المتهمين بـ«التآمر على أمن الدولة» أو «التورّط في قضايا ذات صبغة إرهابية». وقبل أيام، أحيل صحافيان من الإذاعة ذاتها إلى التحقيق بسبب تعليقات اعتبرت النقابات الأمنية أنها تضمّنت «استفزازات وشيطنة» لكل الأمنيين والموظفين في قطاع الأمن.

انقسام بين تيارين

غير أن الإعلاميين والمثقفين في تونس يبدون منقسمين بين تيارين؛ الأول يعدّ أزمة الإعلام الحالية «هيكلية سياسية وقانونية» توشك أن تدكّ عرش «صاحبة الجلالة» وتهز كراسي «السلطة الرابعة». وفي المقابل، يعدّ التيار الثاني أن الأمر مجرد «سحابة عابرة»، تسببت بها قلة احترام بعض المشرفين على قطاع الإعلام، ومعهم تيار من الصحافيين، «لأخلاقيات المهنة الصحافية ومواثيق الشرف المهنية والنقابية، وللقوانين المنظمة لقطاع الإعلام»، منذ إصلاحات 2011. وهنا يشيرون خاصة إلى فترة ما بعد إصدار القانونين الشهيرين 115 و116 من قبل «الهيئة العليا المستقلة لإصلاح الإعلام» التي قادها إعلاميون وأكاديميون مستقلون، أو من بين معارضي حكومات عهدي الرئيسين الراحلين الحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علي.

وراهناً، تلتقي التقارير والبلاغات الجديدة الصادرة عن نقابات الصحافيين ومنظمات مديري الصحف وأصحاب القنوات الإذاعية والتلفزيونية والمنظمات الحقوقية، في التأكيد على كون أزمة قطاع الإعلام ناجمة عن الصعوبات المالية غير المسبوقة التي تمر بها غالبية مؤسساته العمومية والخاصة.

محمد العروسي بن صالح، المدير التنفيذي لجمعية مديري الصحف، يعدّ أن أزمة المؤسسات الإعلامية أصبحت «هيكلية». ويتابع أنها استفحلت خلال العام الماضي بعد إعلان أغلب المؤسسات الإعلامية الخاصة والحزبية عن «عجز مالي غير مسبوق»، أو عن إفلاسها وفصل غالبية العاملين فيها، والتوقف عن إنتاج الأفلام والمسلسلات والبرامج الوثائقية والإخبارية الحوارية السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تكون مفتوحة في آن معاً على الرأي والرأي الآخر. وكان الطيب زاهر، مدير مجلة «حقائق» المستقلة ورئيس نقابة مديري الصحف، قد دعا بعد لقاء جمعه برئيس مجلس النواب التونسي الجديد إبراهيم بودربالة، إلى أن «تساهم السلطات في معالجة معضلات قطاع الإعلام المالية والمهنية عبر التفاعل مع مطالب الصحافيين وأصحاب المؤسسات الإعلامية التقليدية والإلكترونية، وبينها حسن توزيع الإعلانات وحملات الإشهار (الإعلان) العمومية».

أزمة نخب

في المقابل، يعد قطاع من المثقفين والإعلاميين وأساتذة معهد الصحافة وعلوم الأخبار أن أزمات قطاع الإعلام استفحلت بسبب «غلطات»، شارك في ارتكابها عاملون في المؤسسات الإعلامية ومشرفون عليها، منها الانخراط بعد عام 2011 في «لعبة المصالح» وصراعات «اللوبيات والمافيات المحلية والدولية» و«أباطرة الحروب بالوكالة» التي تشهدها المنطقة. وكان من نتائج تلك «الغلطات» الخلط بين «الحريات الصحافية» و«الفلتان الإعلامي والأمني»، حسب أستاذ الإعلام والاتصال والمدير السابق للإذاعة التونسية المنجي المبروكي. بل إن صلاح الدين الدريدي، أستاذ الإعلام والمدير العام السابق للإعلام قبل2011، ذهب إلى أبعد من ذلك فعدّ أن «نكبة البلاد في نخبتها»، وأن «كثيرين ممّن يتحكمون في المشهد الإعلامي منذ 2011 ليست لديهم خبرة مهنية، ولا يحترمون القانون ولا قواعد العمل الصحافي النزيه، وبينها التوازن والتحرّر من الأجندات الشخصية والحزبية والحسابات الخاصة»، وبينها ترضية «لوبيات المال الأوروبية والدولية التي تغدق عطاءاتها لصنف من الصحافيين والسياسيين منذ 12 سنة».

وتلتقي تقييمات بعض الجامعيين مع مواقف أعرب عنها مسؤولون ونقابيون في قطاع الإعلام بمناسبة زيارة الرئيس التونسي قيس سعيّد لمقر صحيفتي «لا بريس» و«الصحافة» الحكوميتين. إذ اعترف شكري بن نصيب مدير عام الصحيفة، ومراد علالة رئيس التحرير، بأن غلطات في التسيير المالي والإداري والمهني خلال السنوات الـ12 الماضية تسببت في صعوبات مالية لعدة مؤسسات إعلامية في البلاد، من بينها مؤسسة دار «لا بريس» الحكومية التي كانت تحتل المرتبة الأولى قبل 2011 من حيث أرباحها.

احترام ميثاق الشرف

في الوقت عينه، اختار علي بن العربي، السفير والمدير العام السابق لوكالة الأنباء التونسية والكاتب الصحافي، أن تكون هديته الجديدة للسياسيين والمثقفين والإعلاميين التونسيين والعرب خلال أزماتهم الحالية كتاباً طريفاً ومهماً عن «أخلاقيات مهنة الصحافة». وحقاً، قدّم الكتاب مادة توثيقية وقراءة واضحة وغير معقّدة لمختلف المدارس والتجارب والقراءات للمرجعيات الأخلاقية والقانونية والسياسية والاجتماعية التي اعتمدت في تنظيم قطاع الإعلام، إنتاجاً وتسويقاً وإدارةً، في العالم وفي الوطن العربي وتونس.

وأورد المؤلف أن من بين أبرز استنتاجات مساره المهني والسياسي والدبلوماسي الطويل «ضرورة إعطاء الأولوية لأخلاقيات المهنة ولميثاق الشرف المهني لتسهيل أداء قطاع الإعلام والاتصال»، مشدداً على أن «الصحافة تكتب تاريخ الدولة والبلاد»، وهي التي توفر لصناع القرار والباحثين والأجيال المقبلة «الوثيقة» و«المرجع الأهم» في فهم الواقع، ثم في قراءة التاريخ.

من أجل كل هذا، عُني الكاتب بتقديم قراءة استعراضية، وأخرى نقدية، للتجارب القانونية والسياسية والمهنية في تنظيم قطاع الإعلام والاتصال، وضمان احترام الصحافيين والمشرفين على وسائل الإعلام لـ«أخلاقيات المهنة الصحافية»، وتكريس قاعدة «الخبر مقدس والتعليق حر»، مع التوفيق بين الحقوق والواجبات، ومنها الحق في السعي لتوسيع هامش الحريات وواجب احترام حقوق الطرف الآخر، سواء أكان حليفاً أم خصماً. وتحرّر الكاتب من «عقدة» قطاع كثير من الكتاب والصحافيين في البلدان الفرنكفونية والأنجلوسكسونية الذين عوّدوا القراء على الانحياز إلى مدرسة فكرية وإعلامية واحدة. بل كان من بين أبرز نقاط القوة في هذا الكتاب - الدراسة أنه انفتح على تجارب قانونية وصحافية ومهنية متناقضة، شملت البلدان الإسكندنافية والديمقراطيات العريقة الأخرى كبريطانيا، والولايات المتحدة، وبلدان القارة الأوروبية، والهند، واليابان.

كذلك قدّمت الدراسة تجارب مقارنة في المنطقة العربية والإسلامية، بما في ذلك الدول الخليجية وتركيا وإيران، قبل تقديمها عرضاً تفصيلياً وقراءة نقدية لتطورات المشهد الإعلامي في تونس قانونياً وسياسياً ومهنياً خلال السنوات السبعين الأخيرة. ولقد نجح المؤلف، بالفعل، في تقديم قراءة تأريخية موثّقة لتطورات علاقة وسائل الإعلام والصحافيين التونسيين وفي العالم بالسلطات والقوانين والمواثيق المنظمة لقطاع الإعلام والاتصال و«ميثاق شرف المهنة»، وبالمنظمات التي انتمى إليها الصحافيون والإعلاميون، وبينها الجمعيات المهنية والنقابات ومجالس الصحافة.

لكن التحدي اليوم الذي عاد من جديد داخل أوساط الإعلاميين والنخب المثقفة والسياسية في تونس والمنطقة، هو كيفية تنزيل النصوص القانونية والاتفاقيات الدولية والوطنية الخاصة بالحريات ومواثيق الشرف المهنية، في ظل اختلال موازين القوى بين من يعدون الإعلام «سلطة مستقلة تلعب دور الحكم بين الشعب والسلطات التنفيذية والقضائية والتشريعية»... والذين يعملون على العودة بها إلى مربّع «بيت الطاعة».


مقالات ذات صلة

«امسك مزيّف»... استنفار مصري لمواجهة «الشائعات»

العالم العربي ندوة «المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام» بمصر

«امسك مزيّف»... استنفار مصري لمواجهة «الشائعات»

حالة استنفار تشهدها مصر أخيراً لمواجهة انتشار «الشائعات»، تصاعدت مع إعلان «المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام»، الثلاثاء، عزمه إطلاق موقع «امسك مزيف».

فتحية الدخاخني (القاهرة)
إعلام إدمون ساسين (إنستغرام)

استنفار الإعلام المرئي اللبناني على مدى 24 ساعة يُحدث الفرق

تلعب وسائل الإعلام المرئية المحلية دورها في تغطية الحرب الدائرة اليوم على لبنان.

فيفيان حداد (بيروت)
يوميات الشرق وزير الإعلام سلمان الدوسري التقى رئيسة الإدارة الوطنية للإذاعة والتلفزيون الصينية كاو شومين (واس)

شراكة إعلامية سعودية صينية تطلق برامج تنفيذية مع القطاعين العام والخاص

اختتم وزير الإعلام السعودي، اليوم، أعمال برنامج الشراكة الإعلامية السعودية الصينية، وشهدت الزيارة إبرام اتفاقيات وبرامج تنفيذية وورش عمل بين الجانبين.

«الشرق الأوسط» (بكين)
إعلام توقيع مذكرة تفاهم للتعاون بين منصة سعوديبيديا وجامعة بكين للغات والثقافة (الخارجية السعودية)

مباحثات سعودية - صينية في بكين لتطوير التعاون الإعلامي

التقى سلمان الدوسري وزير الإعلام السعودي، في بكين، اليوم الخميس، مدير مكتب الإعلام بمجلس الدولة الصيني مو قاو يي.

«الشرق الأوسط» (بكين)
إعلام ليلة انتصار ترمب... على الإعلام التقليدي (رويترز)

فوز ترمب «يُحطم» البنية الإعلامية التقليدية للديمقراطيين

قد يكون من الواجب المهني الاعتراف بأن الجميع أخطأ في قراءة مجريات المعركة الانتخابية، والمؤشرات التي كانت كلها تقود إلى أن دونالد ترمب في طريقه للعودة مرة ثانية

إيلي يوسف (واشنطن)

فوز ترمب «يُحطم» البنية الإعلامية التقليدية للديمقراطيين

ليلة انتصار ترمب... على الإعلام التقليدي (رويترز)
ليلة انتصار ترمب... على الإعلام التقليدي (رويترز)
TT

فوز ترمب «يُحطم» البنية الإعلامية التقليدية للديمقراطيين

ليلة انتصار ترمب... على الإعلام التقليدي (رويترز)
ليلة انتصار ترمب... على الإعلام التقليدي (رويترز)

قد يكون من الواجب المهني الاعتراف بأن الجميع أخطأ في قراءة مجريات المعركة الانتخابية، والمؤشرات التي كانت كلها تقود إلى أن دونالد ترمب في طريقه للعودة مرة ثانية إلى البيت الأبيض. وترافق ذلك مع حالة من الإنكار لما كانت استطلاعات الرأي تُشير إليه عن هموم الناخب الأميركي، والأخطاء التي أدّت إلى قلّة التنبُّه لـ«الأماكن المخفية»، التي كان ينبغي الالتفات إليها.

لا ثقة بالإعلام الإخباري

وبمعزل عن الدوافع التي دعت جيف بيزوس، مالك صحيفة «واشنطن بوست»، إلى القول بأن «الأميركيين لا يثقون بوسائل الإعلام الإخبارية» لتبرير الامتناع عن تأييد أي من المرشحيْن، تظل «الحقيقة المؤلمة» أن وسائل الإعلام الأميركية، خصوصاً الليبرالية منها، كانت سبباً رئيسياً، ستدفع الثمن باهظاً، جراء الدور الذي لعبته في تمويه الحقائق عن الهموم التي تقضّ مضاجع الأميركيين.

صباح يوم الأربعاء، ومع إعلان الفوز الكاسح لترمب، بدا الارتباك واضحاً على تلك المؤسسات المكتوبة منها أو المرئية. ومع بدء تقاذف المسؤوليات عن أسباب خسارة الديمقراطيين، كانت وسائل الإعلام هي الضحية.

وفي بلد يتمتع بصحافة فعّالة، كان لافتاً أن تظل الأوهام قائمة حتى يوم الانتخابات، حين أصرت عناوينها الرئيسية على أن الأميركيين يعيشون في واحد من «أقوى الاقتصادات» على الإطلاق، ومعدلات الجريمة في انخفاض، وعلى أن حكام «الولايات الحمراء» يُضخّمون مشكلة المهاجرين، وأن كبرى القضايا هي المناخ والعنصرية والإجهاض وحقوق المتحولين جنسياً.

في هذا الوقت، وفي حين كان الجمهوريون يُسجلون زيادة غير مسبوقة في أعداد الناخبين، والتصويت المبكر، ويستفيدون من التحوّلات الديموغرافية التي تشير إلى انزياح مزيد من الناخبين ذوي البشرة السمراء واللاتينيين نحو تأييد ترمب والجمهوريين، أصرّت العناوين الرئيسية على أن كامالا هاريس ستفوز بموجة من النساء في الضواحي.

جيف بيزوس مالك «واشنطن بوست» (رويترز)

عجز عن فهم أسباب التصويت لترمب

من جهة ثانية، صحيفة «وول ستريت جورنال»، مع أنها محسوبة على الجمهوريين المعتدلين، وأسهمت استطلاعاتها هي الأخرى في خلق صورة خدعت كثيرين، تساءلت عمّا إذا كان الديمقراطيون الذين يشعرون بالصدمة من خسارتهم، سيُعيدون تقييم خطابهم وبرنامجهم السياسي، وكذلك الإعلام المنحاز لهم، لمعرفة لماذا صوّت الأميركيون لترمب، ولماذا غاب ذلك عنهم؟

في أي حال، رغم رهان تلك المؤسسات على أن عودة ترمب ستتيح لها تدفقاً جديداً للاشتراكات، كما جرى عام 2016، يرى البعض أن عودته الجديدة ستكون أكثر هدوءاً مما كانت عليه في إدارته الأولى، لأن بعض القراء سئِموا أو استنفدوا من التغطية الإخبارية السائدة.

وحتى مع متابعة المشاهدين لنتائج الانتخابات، يرى الخبراء أن تقييمات متابعة التلفزيون والصحف التقليدية في انحدار مستمر، ومن غير المرجّح أن يُغيّر فوز ترمب هذا المأزق. وبغضّ النظر عن زيادة عدد المشاهدين في الأمد القريب، يرى هؤلاء أن على المسؤولين التنفيذيين في وسائل الإعلام الإخبارية وضع مهامهم طويلة الأجل قبل مخاوفهم التجارية قصيرة الأجل، أو المخاطرة «بتنفير» جماهيرهم لسنوات مقبلة.

وهنا يرى فرانك سيزنو، الأستاذ في جامعة «جورج واشنطن» ورئيس مكتب واشنطن السابق لشبكة «سي إن إن» أنه «من المرجح أن يكون عهد ترمب الثاني مختلفاً تماماً عمّا رأيناه من قبل. وسيحمل هذا عواقب وخيمة، وقيمة إخبارية، وينشّط وسائل الإعلام اليمينية، ويثير ذعر اليسار». ويضيف سيزنو «من الأهمية بمكان أن تفكر هذه القنوات في تقييماتها، وأن تفكر أيضاً بعمق في الخدمة العامة التي من المفترض أن تلعبها، حتى في سوق تنافسية للغاية يقودها القطاع الخاص».

صعود الإعلام الرقمي

في هذه الأثناء، يرى آخرون أن المستفيدين المحتملين الآخرين من دورة الأخبار عالية الكثافة بعد فوز ترمب، هم صانعو الـ«بودكاست» والإعلام الرقمي وغيرهم من المبدعين عبر الإنترنت، الذين اجتذبهم ترمب وكامالا هاريس خلال الفترة التي سبقت الانتخابات. وهو ما عُدَّ إشارة إلى أن القوة الزائدة للأصوات المؤثرة خارج وسائل الإعلام الرئيسية ستتواصل في أعقاب الانتخابات.

وفي هذا الإطار، قال كريس بالف، الذي يرأس شركة إعلامية تنتج بودكاست، لصحيفة «نيويورك تايمز» معلّقاً: «لقد بنى هؤلاء المبدعون جمهوراً كبيراً ومخلصاً حقّاً. ومن الواضح أن هذا هو الأمر الذي يتّجه إليه استهلاك وسائل الإعلام، ومن ثم، فإن هذا هو المكان الذي يحتاج المرشحون السياسيون إلى الذهاب إليه للوصول إلى هذا الجمهور».

والواقع، لم يخسر الديمقراطيون بصورة سيئة فحسب، بل أيضاً تحطّمت البنية الإعلامية التقليدية المتعاطفة مع آرائهم والمعادية لترمب، وهذا ما أدى إلى تنشيط وسائل الإعلام غير التقليدية، وبدأت في دفع الرجال من البيئتين الهسبانيكية (الأميركية اللاتينية) والفريقية (السوداء) بعيداً عنهم، خصوصاً، العمال منهم.

يرى الخبراء أن تقييمات متابعة التلفزيون والصحف التقليدية في انحدار مستمر ومن غير المرجّح أن يُغيّر فوز ترمب هذا المأزق

تهميش الإعلام التقليدي

لقد كانت الإحصاءات تشير إلى أن ما يقرب من 50 مليون شخص، قد أصغوا إلى «بودكاست» جو روغان مع ترمب، حين قدم تقييماً أكثر دقة لمواقفه ولمخاوف البلاد من المقالات والتحليلات التي حفلت بها وسائل الإعلام التقليدية، عن «سلطويته» و«فاشيته» لتدمير المناخ وحقوق الإجهاض والديمقراطية. ومع ذلك، لا تزال وسائل الإعلام، خصوصاً الليبرالية منها، تلزم الصمت في تقييم ما جرى، رغم أن توجّه الناخبين نحو الوسائل الجديدة عُدّ تهميشاً لها من قِبَل الناخبين، لمصلحة مذيعين ومؤثّرين يثقون بهم. وبالمناسبة، فإن روغان، الذي يُعد من أكبر المؤثّرين، ويتابعه ملايين الأميركيين، وصفته «سي إن إن» عام 2020 بأنه «يميل إلى الليبرالية»، وكان من أشد المؤيدين للسيناتور اليساري بيرني ساندرز، وقد خسره الديمقراطيون في الانتخابات الأخيرة عند إعلانه دعمه لترمب. وبدا أن خطاب ساندرز الذي انتقد فيه حزبه جراء ابتعاده عن الطبقة العاملة التي تخلّت عنه، أقرب إلى ترمب منه إلى نُخب حزبه، كما بدا الأخير بدوره أقرب إلى ساندرز من أغنياء حزبه الجمهوري.