موجات الحرّ تزداد وتعزز الحاجة لعمل مناخي عاجل

كوكب الأرض يغلي

سيدة تونسية تسير في احدى الغابات التي التهمت الحرائق نتيجة ارتفاع الحرارة في شمال غربي تونس قرب الحدود مع الجزائر ( ا ف ب)
سيدة تونسية تسير في احدى الغابات التي التهمت الحرائق نتيجة ارتفاع الحرارة في شمال غربي تونس قرب الحدود مع الجزائر ( ا ف ب)
TT

موجات الحرّ تزداد وتعزز الحاجة لعمل مناخي عاجل

سيدة تونسية تسير في احدى الغابات التي التهمت الحرائق نتيجة ارتفاع الحرارة في شمال غربي تونس قرب الحدود مع الجزائر ( ا ف ب)
سيدة تونسية تسير في احدى الغابات التي التهمت الحرائق نتيجة ارتفاع الحرارة في شمال غربي تونس قرب الحدود مع الجزائر ( ا ف ب)

تُتابع درجات الحرارة في صيف 2023 تحطيم الأرقام القياسية التي لم يشهدها كوكب الأرض منذ آلاف السنين. وتعاني بلدان كثيرة في نصف الكرة الشمالي موجات حرّ غير مسبوقة أودت بحياة كثيرين، وعززت الحاجة لاتخاذ مبادرات للعمل المناخي محلياً وعالمياً، ليس بتخفيف الانبعاثات المسببة للاحتباس الحراري فقط، بل باعتماد تغييرات عاجلة أيضاً للتكيُّف مع الأوضاع المتغيّرة التي أصبحت واقعاً، ولم تعد حدثاً طارئاً.

صيف حارّ يحطّم الأرقام القياسية

شهد يوليو (تموز) الماضي موجات حرّ شديدة في عدة أجزاء من نصف الكرة الشمالي، بما في ذلك جنوب غربي الولايات المتحدة والمكسيك وجنوب أوروبا والصين. وتجاوزت درجات الحرارة 50 درجة مئوية في وادي الموت بالولايات المتحدة وكذلك في شمال غربي الصين.

وفي أوروبا، تم تسجيل أكثر الأيام سخونة على الإطلاق في كتالونيا، وجرى تحطيم أعلى السجلات لدرجة الحرارة اليومية في أجزاء أخرى من إسبانيا. وفي الولايات المتحدة، سجّلت أجزاء من نيفادا وكولورادو ونيو مكسيكو أعلى مستويات الحرارة على الإطلاق. وفي أكثر من مكان في العالم العربي تجاوزت درجات الحرارة عتبة 40 درجة مئوية، وتخطّت 50 درجة مئوية في العراق والكويت.

وخلصت خدمة كوبرنيكوس لتغيُّر المناخ، التابعة للاتحاد الأوروبي والمنظمة العالمية للأرصاد الجوية، في تقرير نُشر قبل أيام، إلى أن درجات الحرارة في يوليو (تموز) الماضي كانت شديدة بالفعل لدرجة أنه «من المؤكد تقريباً» أن هذا الشهر سيحطم الأرقام القياسية «بهامش كبير».

وتعود البيانات المستخدمة لتتبع سجلات الحرارة إلى عام 1940، لكن كثيراً من العلماء يقولون إنه من شبه المؤكد أن درجات الحرارة هذه هي الأكثر دفئاً التي شهدها الكوكب منذ 120 ألف عام، بالنظر إلى ما نعرفه من آلاف السنين من البيانات المناخية المستخرجة من حلقات الأشجار والشعاب المرجانية ورواسب أعماق البحار.

وتعدّ موجات الحرّ من بين أكثر الأخطار الطبيعية فتكاً، حيث يموت آلاف الأشخاص لأسباب مرتبطة بالحرارة كل سنة. ومع ذلك، تتطلب الإحاطة الكاملة بتأثيرات موجات الحرّ مرور أسابيع وأشهر على حصولها. وقبل أيام، صدرت تقديرات أعداد الوفيات نتيجة موجة الحرّ التي اجتاحت أوروبا خلال صيف العام الماضي، وقد بلغت 61672 حالة وفاة مرتبطة بالحرارة في أوروبا وحدها. وقبل انتهاء صيف هذه السنة، جرى تأكيد كثير من الوفيات في الولايات المتحدة والمكسيك وإسبانيا وإيطاليا واليونان وقبرص والجزائر والصين.

ويُعتبر تغيُّر المناخ إلى حدٍ بعيد المحرك الرئيسي للحرارة الخانقة هذا الصيف، ولكن توجد عوامل أخرى تساهم في رفع درجات الحرارة إلى مستويات متطرفة. أول هذه العوامل هو التغيُّر في كمية الطاقة المشعّة من الشمس التي ترتفع وتنخفض بشكل طفيف كل 11 عاماً. وتؤدي هذه الدورة في أعلى ذروة لها إلى زيادة تدفئة الأرض بنحو 0.05 درجة مئوية، ومن المتوقع أن تصل الشمس ذروتها المقبلة سنة 2025.

والعامل الثاني هو ثوران البراكين تحت المائية، ولا سيما بركان تونغا في جنوب المحيط الهادئ الذي أدى ثورانه في عام 2022 إلى تبخر كمية كبيرة من مياه البحر. ويمكن لبخار الماء، الذي يُعتبر من غازات الدفيئة القصيرة العمر، أن يرفع درجات الحرارة العالمية بأكثر من 0.03 درجة مئوية على مدى عدة سنوات.

أما العامل الثالث فهو ظاهرة «النينيو»، التي ترتبط بتقلُّبات درجات الحرارة السطحية في الجزء الاستوائي من المحيط الهادئ، وتصحبها تغيُّرات في دوران الغلاف الجوي فوق المنطقة. وعادة ما تحدث ظاهرة «النينيو» بشكل طبيعي، لكنها تؤثر بقوة على أنماط الطقس والمناخ في أنحاء كثيرة من العالم. وحسب المنظمة العالمية للأرصاد الجوية، وصلت درجات حرارة سطح البحر في العالم إلى مستوى قياسي خلال الأشهر الثلاثة الماضية، ما يعني أن نمط طقس «النينيو» الاحتراري قد بدأ للتو. ورفعت ظاهرة «النينيو» القوية في 2016 درجات الحرارة العالمية بمقدار 0.14 درجة مئوية.

مبادرات لمواجهة موجات الحرّ

يبقى تغيُّر المناخ هو اللاعب المسيطر في ارتفاع درجة حرارة الكوكب. فخلال الأعوام التي تلت بدء النهضة الصناعية، قام البشر بتسخين الأرض بمقدار 1.2 درجة مئوية. ويقول علماء إن تغيُّر المناخ زاد صيف هذه السنة من احتمالية موجة الحرّ في الصين بمقدار 50 مرة، بينما زاد احتمال حدوث موجات حرارية متزامنة في أوروبا وأميركا الشمالية بما لا يقل عن 1000 مرة. وهذا ما دفع الأمين العام للأمم المتحدة للتصريح بأن «عصر الغليان العالمي قد حان».

ويمكن أن تكون السنوات القليلة المقبلة قاسية للغاية. فإذا تطورت ظاهرة «النينيو» أكثر خلال العام المقبل، جنباً إلى جنب مع الحد الأقصى من الطاقة الشمسية وتأثيرات ثوران بركان تونغا، فمن المحتمل أن ترتفع درجات حرارة الأرض إلى مستويات غير مسبوقة. ومن المحتمل أن يعني هذا مزيداً من الموجات الحارّة، وحرائق الغابات، والفيضانات المفاجئة، وغيرها من الظواهر الجويّة المتطرفة.

وفي مواجهة ذلك، يتبنى كثير من الحكومات حول العالم خطط تدخُّل للتعامل مع موجات الحرّ. وتضم خطط العمل المتعلقة بالحرارة عدداً من التقييمات والإجراءات على مستويات مختلفة للاستجابة للمخاطر المرتبطة بالحرارة وتقليلها. وتشمل عملية تخطيط العمل الحراري مجموعة واسعة من الجهات الفاعلة من مختلف القطاعات لزيادة التنسيق والتعاون في مراحل التحضير والاستجابة والتعافي من إدارة الكوارث الحرارية.

وعلاوة على ذلك، تميل المدن التي لديها تخطيط حضري للحرارة الشديدة إلى أن تكون أكثر برودة وأقل تأثراً بظاهرة جزر الحرارة الحضرية، التي تنشأ نتيجة هيمنة السطوح القاتمة الممتصة للحرارة وتقارب الأبنية التي تمنع الحركة الحرة للهواء داخل المدن. وهي تدعم تنفيذ خطط العمل المتعلقة بالحرارة في ضوء زيادة فرص موجات الحرّ مدفوعة بالاتجاهات المتداخلة لتغيُّر المناخ، وشيخوخة السكّان، والتحضُّر.

تعاني بلدان كثيرة في نصف الكرة الشمالي موجات حرّ غير مسبوقة

ويتمثّل تحدي ازدهار المدن على كوكب شديد الحرارة في قدرتها على النمو بطريقة حرة وذكية، وعلى نحو عمودي يتفادى الزحف العمراني نحو الضواحي. وفي هذه المدن يجري استبدال السيارات بالدراجات ووسائل النقل العام. وتكون مبانيها الجديدة فعّالة ومبنية من مواد مستدامة، وآمنة للناس أثناء موجات الحرّ الشديدة المتزايدة. وهذا يعني مزيداً من المساحات الخضراء، والأشجار، والمسطّحات المائية، وكثير من الظل، إلى جانب تصميم حضري أكثر ذكاءً من الناحية الحرارية. ويُعتبر تصميم مدينة «ذا لاين» في منطقة نيوم السعودية الجديدة نموذجاً متقدماً في هذا الاتجاه.

وفي كثير من المدن، يتم تنفيذ مشروعات لإعادة البناء الحضري من خلال مبادرات متنوعة. ففي مدينة نيويورك، زرع العمال والمتطوعون أكثر من مليون شجرة لإضافة الظل وتنقية الهواء. وفي إشبيلية في إسبانيا، يستخدم مخططو المدن تقنية الممرات المائية القديمة تحت الأرض لتوفير التبريد للمدينة من دون الاعتماد على تكييف الهواء كهربائياً. وفي فريتاون، سيراليون، يقوم المسؤولون بإنشاء حدائق حضرية، وتحسين الوصول إلى المياه النظيفة، وإقامة مظلات زجاجية فوق الأسواق الخارجية. وفي لوس أنجليس، تقوم فرق الأشغال العامة بطلاء الشوارع باللون الأبيض لزيادة الانعكاسية. وفي الهند، انطلقت تجربة الأسطح الخضراء، التي تمتص الحرارة وتخلق مساحات لزراعة الخضار والفاكهة.

خلال السنوات الأخيرة، أصبحت تنبؤات الطقس والمناخ موثوقة للغاية، مستفيدة من كميات هائلة من بيانات الأقمار الاصطناعية التي تدور حول الأرض، وقوة الحوسبة الفائقة للتنبؤ بتدفق وتفاعلات الحرارة والماء بين المكوّنات المعقدة للمحيطات والأرض والغلاف الجوي. وتُظهِر نمذجة المناخ أنه مع استمرار ارتفاع درجات الحرارة ستصبح أحداث الطقس أكثر تطرفاً.

وتتوقع دراسة صدرت عام 2020 أن ترتفع درجة الحرارة العظمى في جميع أنحاء منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا خلال القرن الحالي بين 4 و7 درجات مئوية. ومن المتوقع أن تشهد المنطقة موجات حرّ مديدة، حيث سيتعرض أغلب بلدان المنطقة إلى أجواء حارّة يصل مجموع أيامها إلى أكثر من 180 يوماً في السنة.

وفيما تزداد احتمالية أن تتجاوز درجة حرارة الكوكب 1.5 درجة مئوية فوق حرارة ما قبل العصر الصناعي بحلول سنة 2028، فإن بدء تحولات مناخية لا عودة عنها سيصبح قائماً، وستترك أثرها الخطير على البشرية. ومع تداخل كثير من العوامل التي تدفع حرارة الكوكب إلى الغليان، فإن الجهود لكبح تغيُّر المناخ على المستوى العالمي، والتكيُّف مع درجات الحرارة المرتفعة على المستوى المحلي، تصبح مصيريةً أكثر من أي وقت مضى.


مقالات ذات صلة

يوميات الشرق تعد الحرارة أخطر أنواع الطقس المتطرف (أ.ف.ب)

طلاء للملابس قد يبرد جسمك بما يصل إلى 8 درجات

طور علماء أميركيون طلاء للملابس يبرد الجسم بما يصل إلى 8 درجات.

«الشرق الأوسط» (نيويورك)
يوميات الشرق الثلج متنفَّس أيضاً (أ.ف.ب)

مدريد تتيح التزلُّج على وَقْع الصيف الحارق

فيما تتجاوز الحرارة في مدريد 30 درجة، يرتدي عدد من رواد منتجع التزلّج الداخلي «سنوزون» بزات التزلّج وينتعلون الأحذية الخاصة ويضعون القفازات، متجاهلين قيظ الصيف.

«الشرق الأوسط» (أرويومولينوس إسبانيا)
تكنولوجيا تضمن الملابس الروبوتية الناعمة من خلال تكيفها تلقائياً مع درجات الحرارة المحيطة سلامة العمل في البيئات الحارة (جامعة بوليتكنيك هونغ كونغ)

​أول ملابس تتكيف تلقائياً مع الحرارة المحيطة بها

تحافظ على درجات حرارة السطح الداخلي أقل بمقدار 10 درجات مئوية على الأقل من الملابس القياسية.

نسيم رمضان (لندن)
صحتك مشاة  يستخدمون المظلات لحماية أنفسهم من أشعة الشمس (أ.ف.ب)

لماذا تشعر بالتعب الشديد بعد الخروج في الشمس؟

لاحظت أنك تشعر بالنعاس الشديد بعد البقاء في الخارج في الشمس لساعات. لماذا يحدث هذا؟

«الشرق الأوسط» (نيويورك)

تدوم 100 ألف عام... فنلندا ستدفن النفايات النووية في «مقبرة جيولوجية»

حفرة بعمق 8 أمتار حيث سيتم وضع كبسولة نحاسية للوقود النووي المستنفد في منشأة «أونكالو» بفنلندا (رويترز)
حفرة بعمق 8 أمتار حيث سيتم وضع كبسولة نحاسية للوقود النووي المستنفد في منشأة «أونكالو» بفنلندا (رويترز)
TT

تدوم 100 ألف عام... فنلندا ستدفن النفايات النووية في «مقبرة جيولوجية»

حفرة بعمق 8 أمتار حيث سيتم وضع كبسولة نحاسية للوقود النووي المستنفد في منشأة «أونكالو» بفنلندا (رويترز)
حفرة بعمق 8 أمتار حيث سيتم وضع كبسولة نحاسية للوقود النووي المستنفد في منشأة «أونكالو» بفنلندا (رويترز)

قررت فنلندا البدء في طمر الوقود النووي المستنفد في أول مقبرة جيولوجية بالعالم، حيث سيتم تخزينه لمدة 100 ألف عام، بحسب شبكة «سي إن بي سي».

حاز المشروع الرائد الترحيب باعتباره لحظة فاصلة للاستدامة طويلة الأجل للطاقة النووية و«نموذجاً للعالم بأسره».

وفي مرحلة ما إما في العام المقبل أو في أوائل عام 2026، ستتم تعبئة الوقود النووي المستنفد عالي الإشعاع في عبوات محكمة الغلق وإيداعه في صخور تحت الأرض على عمق أكثر من 400 متر تحت غابات جنوب غرب فنلندا.

سيتم عزل العبوات النحاسية المتينة وفصلها عن البشر وإبقاؤها تحت الأرض لآلاف السنين.

«أونكالو»، وهو الاسم التجاري للمنشأة، هي الكلمة الفنلندية للكهف الصغير أو الحفرة. وهو اسم مناسب للمستودع الذي يقع فوق شبكة من الأنفاق بجوار ثلاثة مفاعلات نووية في جزيرة أولكيلوتو، على بعد نحو 240 كيلومتراً من العاصمة هلسنكي.

تأسست شركة «بوسيفا» في عام 1995، وهي مكلفة مسؤولية التعامل مع عملية التخلص النهائي من الوقود النووي المستهلك.

قال باسي توهيما، مسؤول التواصل في «بوسيفا»، لشبكة «سي إن بي سي»: «في الأساس، يتمثل مشروع (أونكالو) في بناء منشأة للتخلص من الوقود المستنفد. وهذا ليس حلاً مؤقتاً، بل هو للأبد».

وأوضح توهيما أن منشأة التخلص الجيولوجي الأولى من نوعها حظيت باهتمام كبير من جانب الجهات الفاعلة في الصناعة، مستشهداً بما وصفه بـ«النهضة» النووية في السنوات الأخيرة وأزمة الطاقة التي عصفت بأوروبا وأجزاء من آسيا من منتصف عام 2021 حتى أواخر عام 2022. وأضاف: «إن إيجاد حل للتخلص النهائي من الوقود المستهلك كان بمثابة الجزء المفقود من دورة الحياة المستدامة للطاقة النووية».

وقد أثار مشروع «أونكالو» جدلاً حول ما إذا كان بإمكان أي شخص ضمان السلامة طويلة الأجل للنفايات النووية المستهلكة، ومدى استخدام الطاقة النووية في مكافحة أزمة المناخ.

توفر الطاقة النووية حالياً نحو 9 في المائة من كهرباء العالم، وفقاً للجمعية النووية العالمية.

ونظراً لأنها منخفضة الكربون، يزعم المدافعون أن الطاقة النووية لديها القدرة على تأدية دور مهم في مساعدة البلدان على توليد الكهرباء، مع خفض الانبعاثات والحد من اعتمادها على الوقود الأحفوري.

ومع ذلك، تقول بعض الجماعات البيئية إن الصناعة النووية تشكل خياراً مكلفاً وضاراً للبدائل الأرخص والأنظف.