بعد حملة رئاسية مريرة للغاية، شهدت منعطفات وتقلبات لا سابق لها في تاريخ الانتخابات الأميركية، أعاد الأميركيون تنصيب دونالد ترمب رئيساً للمرة الثانية في البيت الأبيض، بعد 4 سنوات من خروجه المضطرب منه. قرروا غلق الباب على عهد الرئيس جو بايدن الذي انسحب من السباق خلال الصيف، و«طي صفحة» نائبة الرئيس كامالا هاريس، التي - ويا للمفارقة - كانت تحض مواطنيها على «طي الصفحة» على حقبة ترمب.
ولكن في نهاية المطاف، نال ترمب كعكة الحلوى التي يشتهيها، وأذاق منافسته الضحوكة وحزبها الديمقراطي مرارة الهزيمة المدوية. وانطبق عليه المثل العربي والعالمي «يضحك كثيراً من يضحك أخيراً»!
الآن بدأت التساؤلات عن الطريق التي سلكها الرئيس السابع والأربعون، وهو أيضاً الرئيس الخامس والأربعون للولايات المتحدة، للوصول مجدداً إلى البيت الأبيض، على رغم كل المتاعب السياسية والقضائية، حتى المالية والاجتماعية. قدّمت ميشيغان مؤشرات مهمة أضاءت له الطريق، ليس في قضية حرب غزة وحرب لبنان فقط، عندما التقى أفراد الجاليات العربية والمسلمة هناك واستطاع اجتذابهم بسبب سياسات بايدن الداعمة بشكل غير مشروط لإسرائيل، بل في قضية أساسية أخرى تشغل كل الأميركيين والأميركيات، وكانت تمثل واحدة من أكبر نقاط ضعفه السياسية: الإجهاض. خالف نصائح حملته، وطار إلى الولاية المتأرجحة، ليعلن في تسجيل فيديو أنه يعارض حظر الإجهاض على المستوى الوطني.
لكن انتصار ترمب كان مدعوماً بقوته في الاقتصاد والهجرة، وهما من أهم مخاوف الناخبين. كان يُنظر إليه على أنه زعيم أقوى من هاريس في وقت الاضطرابات. وفي الوقت الذي حافظ فيه على صلابة قاعدته الشعبية التقليدية، عمل بنجاح على تضييق المزايا التقليدية للحزب الديمقراطي بين الناخبين السود واللاتينيين والشباب.
وعلى رغم جاذبية شعار هاريس لتكون أول امرأة تُنتخب للرئاسة، لم تتمكن من تحقيق مكاسب كافية في أوساط الناخبين لتعويض الانشقاقات بين المجموعات التي تصوت تقليدياً للديمقراطيين. ودلّت البيانات الأولية حول تحليل توجهات الناخبين على أنهم توجهوا إلى صناديق الاقتراع معتقدين أن البلاد تسير على «المسار الخطأ». وارتفعت هذه النسبة إلى 70 في المائة عن معدل عام 2020 حين كان 60 في المائة. وأراد معظمهم تغييراً في كيفية إدارة البلاد. هكذا صوّت الساعون إلى التغيير الكامل في شؤون البلاد لصالح ترمب بهامش كبير.
عبء بايدن الثقيل
وبدا واضحاً أن إحباط الناخبين من إدارة الرئيس جو بايدن يشكل عبئاً ثقيلاً على ترشيح هاريس، حيث أبدى 6 من كل 10 أميركيين عدم موافقتهم على العمل الذي قام به بايدن. وكانت لديهم ذكريات أكثر وردية عن فترة ترمب في ولايته الأولى، إذ وافق نصفهم على العمل الذي قام به ترمب رئيساً قبل 4 سنوات. واقترنت هذه الرغبة في التغيير بآراء منقسمة حول دور الحكومة. وشعر أكثر من النصف بقليل أن الحكومة يجب أن تفعل المزيد لحل مشاكل البلاد، وهو انخفاض متواضع عن عام 2020 (57 في المائة). وشعر نحو 45 في المائة أن الحكومة كانت تفعل الكثير من الأمور التي كان من الأفضل تركها للقطاع الخاص.
وكانت الانقسامات العميقة في البلاد - حسب الجنس والتعليم ومنطقة الإقامة - واضحة للغاية. وأيّد الرجال ترمب بفارق 10 نقاط، بينما أيّدت النساء هاريس بفارق 8 نقاط. وكانت الفجوة بين الجنسين التي بلغت 18 نقطة أوسع قليلاً من عام 2020 (17 نقطة). وكان هذا الانقسام واضحاً في وجهات النظر حول المكاسب المجتمعية للنساء، إذ عبّر نحو 4 من كل 10 من أنصار ترمب (43 في المائة) عن قلقهم من أن تركيز المجتمع على المكاسب للنساء جاء على حساب الرجال. وشعر 14 في المائة فقط من هاريس بهذه الطريقة. وأيّد الناخبون الذين لا يحملون شهادة جامعية ترمب بفارق 12 نقطة. بينما أيّد الناخبون الحاصلون على تعليم جامعي هاريس بفارق 15 نقطة.
الناخبون البيض
ومع ذلك، ظهرت لدى ترمب ميزة خاصة بين الناخبين البيض الذين لا يحملون شهادة جامعية (+29 نقطة)، ويرجع ذلك إلى حد كبير إلى تفوقه بـ38 نقطة بين الرجال البيض غير الحاصلين على تعليم جامعي. وحقّق تقدماً في المناطق الريفية (+26 نقطة، ارتفاعاً من فارق 22 نقطة في عام 2020).
وخلال الانتخابات، ظهرت الانقسامات العميقة في المجتمع الأميركي، فكان نجاح ترمب في جذب الدوائر الانتخابية الديمقراطية التقليدية أيضاً سمة مميزة. وتحسنت أرقامه عن عام 2020 بين الهسبانيين (+6 نقاط)، والسود (+7 نقاط)، والشباب (+10 نقاط). كانت هذه التحولات نحو اليمين ملحوظة بشكل خاص بين الرجال الهسبانيين (+8 نقاط)، والرجال السود (+12 نقطة من عام 2020)، والرجال تحت سن 30 (+14 نقطة). كان كبار السن، الذين دعموا ترمب بـ3 نقاط في عام 2020، مرة أخرى في صفّه هذه المرة. وفاز ترمب بثقة الكاثوليك بفارق 9 نقاط، والبروتستانت بفارق 22 نقطة. وفضّل الكاثوليك البيض ترمب بفارق 20 نقطة، بينما حصل على هامش 59 في المائة من الإنجيليين البيض.
وفي ملاحظة مهمة، عدّ نحو 3 أرباع الجمهوريين (73 في المائة) أنفسهم جزءاً من حركة «ماغا» التي تختصر شعار «فلنجعل أميركا عظيمة مرة أخرى».
ولم يحدد سوى 7 في المائة من الناخبين أنفسهم كمستقلين حقيقيين، وهذا يعني أنهم لا يميلون إلى حزب أو آخر. وكانت هاريس تتمتع بميزة 7 نقاط مع هذه المجموعة المتأرجحة المحورية، وهو انخفاض عن ميزة بايدن، البالغة 15 نقطة في عام 2020.
ضد ترمب
وعلى رغم هذه الفوارق، طلبت هاريس من حملتها التركيز على تصريحات ترمب الأكثر إثارة للفتنة على شاشات عملاقة في مسيراتها، وعرضت بالألوان الفنية خطابه العنصري، وأحياناً العنيف مثل تحذيره من «حمام دم» إذا فازت. كان ذلك بمثابة تذكير قوي بمخاطر الانتخابات. ولكنه لم يساعدها إطلاقاً. ولكن هاريس ورثت أثقال حملة بايدن غير الشعبية، من دون أن تتمكن من دفن شبح إخفاقات بايدن، ما أعاق بشدة قدرتها على إقناع الناخبين بفكرة أن ترشيحها هدفه «طي صفحة» ترمب. وما كان ذلك ليحدث إلا لأن هاريس رفضت الانفصال تماماً عن السنوات الأربع الماضية لبايدن. وواصلت هاريس أسابيع السباق مع ترمب، ولم يكن أمامها سوى 100 يوم فقط لكي تحاول اللحاق بترمب المتقدم. ولم تنجح في هذه المهمة عندما وصلت إلى يوم الانتخابات.