يتعين الاعتراف بأن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون نجح في قلب نتائج الانتخابات البرلمانية، التي جرت جولتها النهائية يوم 7 يوليو (تموز) لصالحه، رغم الهزيمة التي لحقت بمعسكره الذي فقد في البرلمان الجديد نحو 100 نائب، ومعها خسر الأكثرية المطلقة. ويكفي النظر للحكومة الجديدة التي أعلن تشكيلها برئاسة المفوض الأوروبي ميشال بارنييه، بعد مشاورات ومناورات دامت أسبوعين، ليتبين أن ما حصل ليس حكومة جديدة، بل هي أقرب إلى تعديل وزاري.
والدليل على ذلك أن الوزارات الرئيسية، الخارجية والدفاع والاقتصاد، يشغلها وزراء ينتمون إلى المعسكر الرئاسي. والاستثناء الوحيد، على مستوى الوزارات السيادية، يكمن في إيكال وزارة الداخلية وما وراء البحار إلى برونو ريتايو، رئيس مجموعة اليمين التقليدي في مجلس الشيوخ، وهو الأبرز بين الوزراء الذين ينتمون لتياره. وكان أحد الأثمان التي قبل إيمانويل ماكرون وبارنييه بدفعها لحزب «اليمين الجمهوري» (سابقاً الجمهوريون) لقبول الانضمام للحكومة.
عملياً، ونظراً للتحالف الحكومي بين الأحزاب الداعمة لماكرون؛ وهي «معاً من أجل الجمهورية» و«هورايزون» و«الحركة الديمقراطية» و«اليمين الجمهوري» يكون ماكرون قد حقّق ما كان يريد تحقيقه منذ أكثر من سنتين، وهو قيام تحالف بين هذين المكونين. ووفق المحللين كافة، فإن الحكومة الجديدة هي الأكثر يمينية، بل إن بعض طروحات وزرائها، وعلى رأسهم وزير الداخلية الجديد، تدفع بها إلى اليمين المتشدد، فضلاً عن أن بارنييه، الذي أخذ الفرنسيون يعدّونه «الشخصية المفضلة» لديهم، ليس وسطياً.
وما تناوله خلال الأسبوعين الماضيين ينم عن يمينيته، خصوصاً بشأن ملفي الهجرات والأمن والمسائل الاجتماعية، مثل قانون التقاعد. ومنذ تعيينه، لم يتردد معارضوه من العودة إلى برنامجه عندما كان مرشحاً رئاسياً عام 2022، حيث قدّم طروحات محافظة للغاية.
حكومة يمينية بامتياز
تفيد الأرقام أن الحكومة الجديدة تحظى بدعم ما بين 215 و230 نائباً في البرلمان، بينما الأكثرية المطلقة تتطلب 289 نائباً، فيما بقية المجلس تتشكل من نواب «الجبهة الشعبية الجديدة» (أي أحزاب اليسار والخضر)، ونواب «التجمع الوطني» اليميني المتطرف بزعامة مارين لوبن. والحال أنه من غير الضوء الأخضر الذي أعطته لوبن لترشيح بارنييه، ما كان هذا الأخير سيكلف تشكيل الحكومة. ولكن لوبن، التي وعدت مباشرة أو بالواسطة، الرئيس ماكرون بأن نوابها لن ينضموا إلى نواب اليسار لسحب الثقة من الحكومة لدى أول مناسبة، تريد «ثمناً» لتسامحها يتعين أن تقبضه من خلال «تناغم» سياسات بارنييه في ملفات الهجرات والأمن والمطالب الأخرى. من هنا، تفهم الأسباب التي دفعت ماكرون وبارنييه إلى تسليم حقيبة الداخلية إلى روتايو، كدليل على التجاوب الضمني مع ما تريده لوبن.
بالنظر إلى ما سبق، فإن حكومة بارنييه تواجه ألغاماً وتحديات كثيرة، وتفتقد الانسجام والدعم المطلق حتى من نواب المعسكر الماكروني. وبأي حال، ثمة قناعة راسخة أن ماكرون لن يتردد، الصيف المقبل، في حل البرلمان مرة جديدة من أجل تغيير التوازنات الحالية داخله، حيث تشكّل 3 مجموعات كبيرة؛ أولاها مجموعة اليسار، تليها مجموعة المعسكر الماكروني، وثالثتها مجموعة اليمين المتطرف.
ومنذ اليوم الأول من عمر الحكومة، وصف أوليفيه فور، الأمين العام للحزب الاشتراكي، الحكومة بأنها «رجعية تشكل استهزاء بالديمقراطية»، مؤكداً أن حزبه سيعمد إلى طرح الثقة بالحكومة سريعاً، فيما عدّها زعيم حزب «فرنسا الأبية» والمرشح الرئاسي السابق جان لوك ميلونشون «فاقدة للشرعية السياسية»، داعياً إلى التخلص منها «بأسرع وقت».
وحثّ الرئيس (الاشتراكي) السابق فرنسوا هولند، المعروف باعتداله، رفاقه في الحزب إلى عدم التأخر في طرح الثقة. وبانتظار أن يعود مجلس النواب إلى الالتئام، وأن يستمع النواب إلى البرنامج الذي من المفترض ببارنييه أن يقدّمه في الأول من أكتوبر (تشرين الأول)، فإن تعبير اليسار عن رفض ما يسمونه «سرقة نتائج الانتخابات» يتخذ 3 أشكال؛ أولها مسار تنحية ماكرون في البرلمان بالاستناد إلى النصوص الدستورية. وثانيها تواصل المظاهرات كل يوم سبت في باريس وكثير من المدن الكبرى والمتوسطة، وثالثها سحب الثقة من الحكومة.
مخاطر السقوط في البرلمان
بيد أن ماكرون مطمئن بالنسبة للمسار الأول بالغ التعقيد قانونياً، الذي يتطلب تبنيه تصويت ثلثي النواب والشيوخ لصالحه. والحال أن أمراً كهذا غير متوافر. كذلك، فإن المظاهرات لن تُفضي إلى إسقاط الحكومة أو استقالتها، لأنها حتى اليوم لم تحشد ما يكفي من الدعم الشعبي، خصوصاً أن نسبة من المواطنين تريد أن تعطيها الفرصة لكي تبدأ العمل، وأن تنظر لاحقاً في النتائج.
وبأي حال، يعدّ المحللون أن سقوط بارنييه سيوجد مشكلة مستعصية، وسيعيد الأزمة السياسية إلى المربع الأول، باعتبار أن توازنات البرلمان لن تتغير، وأنه لن يحق لماكرون، وفق النصوص الدستورية، حل مجلس النواب مجدداً قبل مرور عام كامل على حلّه المرة الأولى. أما تضافر اليسار واليمين المتطرف لإسقاط الحكومة، فإنه مستبعد أقله على المدى المنظور، لأن لوبن ستمثل، بدءاً من أول أكتوبر (تشرين الأول) أمام محكمة الجنايات في باريس مع 26 من زملائها، للاشتباه في اختلاس أموال أوروبية مخصصة لتوظيف مساعدين برلمانيين من أجل دفع رواتب موظفي التجمع الوطني. وتطعن زعيمة الحزب في التهم الموجهة إليها. ولذا، سيكون من الصعب عليها وعلى نوابها أن يخوضوا معركتين في وقت واحد: سياسية وقضائية. من هنا، فإن سقوط الحكومة السريع ليس مرتقباً.
كثيرة هي التحديات التي تواجهها حكومة بارنييه، وأوّلها إيجاد الانسجام بين مكوناتها ودعمها للعمل بوجهة واحدة. وتحديها الثاني عنوانه إقرار ميزانية عام 2025، التي تأخر إيصالها إلى مكتب البرلمان ليبدأ النظر في فقراتها، علماً أنه يتعين على وزارة المالية أن تعمد إلى اقتطاع مخصصات بالمليارات. والحال أن فرنسا بعيدة جداً عن معاييير الاتحاد، الذي يفرض على أعضائه ألا يزيد عجز الميزانية عن 3 بالمائة، فيما عجز فرنسا يجاور 6 بالمائة. وتجدر الإشارة الى أن ديون فرنسا تزيد على 3 آلاف مليار يورو.
الحقائب السيادية بيد ماكرون
تفتقر الحكومة الجديدة إلى شخصيات سياسية وازنة، لأن أنظار هذه الشخصيات شاخصة نحو الاستحقاقات الانتخابية، ولا تريد أن «تحرق أجنحتها» في حكومة قصيرة العمر. ونجح ماكرون في الإبقاء على وزير الدفاع سيباستيان لوكورنو في منصبه، وعيّن في الخارجية جان نويل بارو، الذي كان سكرتير دولة للشؤون الأوروبية في الحكومة السابقة. وينتمي بارو إلى «الحركة الديمقراطية» الوسطية، ولا تعرف عنه مواقف محددة، ولا شك أنه سيكون أداة طيعة بيدي ماكرون كما حال لوكورنو.
وعيّن بنجامين حداد وزيراً للشؤون الأوروبية، وكان انتخب نائباً في الانتخابات الأخيرة على اللائحة الرئاسية. بيد أن حداد معروف بميوله الأطلسية وبتأييده المطلق لأوكرانيا وإسرائيل. وسبق له أن عمل في واشنطن لصالح المركز اليميني المعروف «أتلانتيك كاونسل». أما أنطوان أرماند، فتسلّم حقيبة المالية، وهو بالغ من العمر 33 عاماً. وقد انتخب على اللائحة الرئاسية نائباً مرتين، وكان يفترض به أن يترأس اللجنة الاقتصادية في مجلس النواب لو لم يعطَ حقيبة المالية، التي هي الأخطر في الوقت الراهن. وعُيّن إلى جانبه لوران سان مارتان، بصفته سكرتير دولة.
وإلى جانب وزراء الوسط واليمين، هناك وزير «يساري» واحد هو وزير العدل ديديه ميغو، الاشتراكي السابق البالغ من العمر 72 عاماً، وسبق له أن تقلد مناصب إدارية رفيعة، وانتخب نائباً لفترات طويلة.