في ربيع هذا العام، فكّك المسؤول العسكري الجديد الذي عيّنته موسكو للإشراف على الأمن في مقاطعة كورسك الروسية، مجلساً مكلفاً حماية المنطقة الحدودية المعرّضة للخطر. قال حينها العقيد الجنرال الروسي ألكسندر لابين إن الجيش الروسي وحده لديه القوة والموارد اللازمة لحماية حدود البلاد، وفقاً لمسؤول في أجهزة الأمن الروسية. وقد تركت هذه الخطوة من لابين ثغرة أخرى في دفاعات روسيا الحدودية الضعيفة، والتي انهارت في وقت سابق من هذا الشهر عندما نفذت القوات الأوكرانية هجوماً خاطفاً عَبَر الحدود إلى كورسك الروسية.
بحسب تقرير لصحيفة «وول ستريت جورنال»، لا شك أن الجنرال الروسي لابين لم يفتح وحده الأبواب أمام أول غزو أجنبي للأراضي الروسية منذ الحرب العالمية الثانية. فقد واجه الجيش الروسي نقصاً حاداً في الرجال.
ومنذ بداية الحرب في أوكرانيا، كانت المركزية، وهى إحدى السمات التي ميّزت روسيا في عهد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، قد أتت بنتائج عكسية على ساحة المعركة. فقد أعاقت المركزية التخطيط الرصين في الكرملين، وعندما فشلت هذه الخطط، مُنعت القوات الروسية من الارتجال للرد على التطورات السريعة على الجبهة.
وقال ويليام كورتني، الدبلوماسي الأميركي السابق والزميل المساعد في معهد «راند»: «مع تخطيط روسيا القادم من أعلى الهرم، فإن استجاباتها للأحداث غير المتوقعة والسريعة الحركة، مُعطّلة بشكل لا يصدّق، مع عدم قيام أي شخص على الأرض (في الجيش) بأخذ المبادرة».
في يوم الأربعاء، شنّت أوكرانيا هجوماً آخر داخل روسيا، وهذه المرة أرسلت ما لا يقل عن 45 طائرة مسيّرة إلى مناطق الحدود في بريانسك وكورسك وبيلغورود في محاولة لاقتحام الدفاعات الجوية وضرب موسكو. وقال عمدة موسكو سيرغي سوبيانين إن نحو اثنتي عشرة طائرة مسيّرة وصلت إلى مناطق حول العاصمة، واصفاً ذلك بأنها إحدى كبرى الهجمات التي شنّتها طائرات من دون طيار على العاصمة منذ بداية الحرب. وقال سوبيانين إن جميع الطائرات المسيّرة أسقطتها أنظمة الدفاع الجوي ولم يتم الإبلاغ عن أي أضرار أو إصابات في أماكن أخرى.
ومن غير الواضح ما إذا كان المجلس الروسي لحماية الحدود والذي حلّه الجنرال لابين – المجلس هيئة جمعت بين الضباط العسكريين ومسؤولي الأمن المحليين والإقليميين - كان سيساعد في تنظيم استجابة متماسكة من موسكو رداً على الهجوم الأوكراني. ولكن من دون وجود هيئة مركزية مسؤولة عن استجابة روسيا، كانت جهود موسكو للإطاحة بقوات كييف حتى الآن فوضوية وغير فعالة. وقد ترك هذا وكالات الأمن الروسية، مثل وزارة الداخلية وجهاز الأمن الفيدرالي، المسؤولَين عن الأمن الداخلي، ووزارة الدفاع الروسية، المسؤولة عن القتال داخل أوكرانيا، تتدافع لقيادة الاستجابة.
الاستجابة الأولية الروسية على الهجوم الأوكراني في كورسك الروسية، تذكّرنا بالساعات الأولى من التمرد الذي قاده يفغيني بريغوجين، الذي قاد مجموعة «فاغنر» المرتزقة الروسية في أوكرانيا. لقد أرسل بريغوجين قواته نحو موسكو لإزاحة منافسيه الذين ألقى عليهم باللوم في المشاكل العسكرية الروسية، وهما الجنرال الروسي فاليري غيراسيموف ووزير الدفاع الروسي آنذاك سيرغي شويغو.
فعلى الرغم من إشارات استمرت لأيام بأن بريغوجين كان يخطط لشن تمرد، فإن الكرملين فوجئ وتجمد في مواجهة تصرفاته. وقد توفي بريغوجين - الذي كان أوقف تمرده في النهاية أثناء مسيرته نحو موسكو - بعد شهرين من التمرد عندما انفجرت طائرته في منتصف الرحلة فوق روسيا.
وقال مراسلو الجيش الروسي إن قيادة لابين أرسلت تقارير إلى موسكو في الأيام التي سبقت غزو أوكرانيا، تحذّر من أن القوات الأوكرانية كانت تزيد أعدادها على خط المواجهة. ولكن الأشخاص المطلعين على مناورات الحدود قالوا إن هذه الحيلة كانت تُستخدَم من قبل على الجانبين كتكتيك للحرب النفسية، ورفضت موسكو التحذيرات.
وعلى الرغم من المعلومات الاستخباراتية حول التحركات العسكرية، فإن القوات تحت قيادة لابين فشلت في التحرك من خلال فرض خطوط دفاعية أو زرع الألغام كما فعل الجنود الروس العام الماضي لإحباط هجوم مضاد أوكراني كبير ومُخطط له جيداً. وعندما دخل الجنود الأوكرانيون المنطقة العازلة بين أوكرانيا وروسيا، لم يواجهوا أي مقاومة، وفي داخل روسيا، لم تكن هناك قوات دفاع إقليمية لإبطاء الهجوم الأوكراني.
استخدمت القوات الأوكرانية بهجومها على كورسك التشويش الإلكتروني لتعطيل الاتصالات؛ مما جعل القوات الروسية غير قادرة على الاتصال بقادتها. وخلال الهجوم الأوكراني، حوصرت القوات الروسية المسلحة خلف خط المواجهة وتشتتت. وشنّ بعض الجنود الروس مقاومة محلية، فنصبوا كميناً للقوات الأوكرانية التي تحركت لتمشيط المنطقة خلف قوات الهجوم. لكن مئات الجنود الروس، وكثير منهم من المجندين، استسلموا.
وحسب «وول ستريت جورنال»، كان التخطيط الدفاعي لروسيا كارثياً تقريباً مثل الغزو الروسي الأولي نفسه لأوكرانيا، عندما اعتمد المخططون العسكريون على معلومات استخباراتية خاطئة، واعتقدوا أن الجيش الأوكراني سوف ينهار تحت هجوم واسع النطاق، فأرسلوا أرتالاً مدرعة إلى أوكرانيا في تشكيل استعراضي؛ مما جعل من السهل اختراقها.
على نحو مماثل، عندما دخل الجنود الأوكرانيون إلى روسيا، كانت مقاومتهم المسلحة الأولى من فوج البنادق الآلية 488 التابع للواء البنادق الآلية 144، وهي وحدة تتكون بالكامل تقريباً من المجندين، الذين وفقاً للسياسة الروسية لا يُفترض أن يقاتلوا داخل أوكرانيا. لقد استنفدت مطالب الجبهة في أوكرانيا، القوى العسكرية العاملة والموارد لدى القوات الروسية.
لم تكن هذه هي المرة الأولى التي يجتمع فيها التخطيط السيئ ونقص الرجال تحت قيادة الجنرال لابين. في أوائل سبتمبر (أيلول) 2022، شنّت القوات الأوكرانية هجوماً مفاجئاً في شمال شرق أوكرانيا. ومن دون أن يكون الروس قد حصّنوا مواقعهم الأمامية بشكل كافٍ، تمكن الأوكرانيون من تجاوز المواقع الروسية باستخدام مركبات ميدانية سريعة الحركة، تليها صفوف مدرعة أثقل. لقد انهار خط الهجوم الروسي وتمكنت أوكرانيا من استعادة آلاف الأميال المربعة في شمال شرق أوكرانيا في ذاك الهجوم المضاد.