​مساعٍ فرنسية لتشكيل تحالف حكومي واسع

حال فشل اليمين المتطرف في تأمين الأكثرية المطلقة

الرئيس إيمانويل ماكرون مقترعاً الأحد الماضي في منتجع «لو توكيه» (رويترز)
الرئيس إيمانويل ماكرون مقترعاً الأحد الماضي في منتجع «لو توكيه» (رويترز)
TT

​مساعٍ فرنسية لتشكيل تحالف حكومي واسع

الرئيس إيمانويل ماكرون مقترعاً الأحد الماضي في منتجع «لو توكيه» (رويترز)
الرئيس إيمانويل ماكرون مقترعاً الأحد الماضي في منتجع «لو توكيه» (رويترز)

تدخل فرنسا، ليل الجمعة إلى السبت، في مرحلة صمت انتخابي لن ينتهي إلا في الثامنة من مساء الأحد مع بدء صدور النتائج النهائية لدورة الإعادة «الحاسمة» للانتخابات البرلمانية، التي ستدخل فرنسا في نفق سياسي مظلم دفعها إليه قرار الرئيس إيمانويل ماكرون، مساء التاسع من يونيو (حزيران) حل البرلمان. والسؤال الأول والرئيسي والذي تتطارحه الأحزاب كافة يدور حول معرفة ما إذا كان حزب «التجمع الوطني» اليميني المتطرف سيحوز على الأكثرية المطلقة في البرلمان الجديد، بحيث يتولى حكم البلاد للمرة الأولى منذ نهاية الحرب العالمية الثانية أواسط القرن الماضي.

قيل الكثير حول خطأ الحسابات السياسية الذي ارتكبه ماكرون بحل البرلمان، فيما لم يكن هناك ما يفرض عليه ذلك، لا من جانب الدستور ولا من جانب التوازنات السياسية. ولأن اليمين المتطرف هيمن على الدورة الانتخابية الأولى بحصوله مع حلفائه على أكثر من 33 في المائة من الأصوات، وتبين للجميع أنه قادر، بفضل الدينامية السياسية التي يتمتع بها، على قلب الطاولة بوجه معارضيه، فإن الهم الأكبر للكتلتين السياسيتين اللتين برزتا «الجبهة الشعبية» الجديدة التي تضم أحزاب اليسار الثلاثة والخضر، و«ائتلاف الوسط» الحاضن للأحزاب الداعمة لماكرون وعهده، كان يدور حول كيفية احتواء اليمني المتطرف ومنعه من الحصول على 289 نائباً؛ وهو الرقم السحري الذي يمثل الأكثرية المطلقة في البرلمان.

مارين لوبان زعيمة اليمين المتطرف والمرشحة للرئاسة في الانتخابات المقبلة لدى وصولها الثلاثاء إلى مقر حزبها بباريس (أ.ف.ب)

والطريق إلى ذلك، عنوانها انسحاب مرشحي المجموعتين في الدوائر، حيث السباق يدور بين ثلاثة مرشحين؛ بينهم مرشح اليمين المتطرف، وذلك لمنع تشتت الأصوات وقطع الطريق على فوزه بالمقعد. وعمد كل «الجبهة الوطنية» و«ائتلاف الوسط» إلى سحب 220 مرشحاً، بحيث تراجعت المنافسة السياسية من 310 منافسات إلى 90 منافسة. والجهد الأكبر بذلته الجبهة اليسارية، فيما شهدت أوساط ائتلاف الوسط انقسامات ومساومات تركزت حول رفض كثير من المرشحين الانسحاب لصالح مرشحي حزب «فرنسا الأبية» الذي يتزعمه جان لوك ميلونشون، المتهم بالطوائفية ومعاداة السامية والسعي إلى إثارة الفوضى. أما حزب «الجمهوريين» اليميني التقليدي المنقسم على ذاته، بعد تحالف رئيسه إريك سيوتي مع «التجمع الوطني»، فهو تائه بين من يدعوه إلى البقاء داخل القوس الجمهوري، وبين من يشده للالتحاق باليمن المتطرف والاقتداء برئيسه.

القوس الجمهوري

بعد ثلاثة أسابيع من الاتهامات المتبادلة بين هاتين المجموعتين، تبدلت الأجواء وحلت محلها الدعوة إلى قيام «قوس جمهوري» يضم أوسع مروحة من الأحزاب يميناً ويساراً ووسطاً لمواجهة «خطر» التجمع الوطني. وسارعت مارين لوبان، زعيمة اليمين المتطرف إلى اتهام ماكرون بوضع العِصي في دواليب الديمقراطية ومنع الناخبين الفرنسيين من التعبير بكامل حريتهم عن خياراتهم السياسية، وإعاقتهم عن طريق «إقامة أحلاف ظرفية مغايرة للطبيعة».

وبعد مهمة الانسحابات، برزت صعوبة أخرى تتناول صورة «اليوم التالي». ذلك أنه في حال عجز اليمين المتطرف عن الحصول على الأكثرية المطلقة، وبالتالي عن تسلم السلطة، فمن سيتولى إدارة البلاد؟

غابرييل أتال خارجاً من القصر الرئاسي بعد اجتماع مجلس الوزراء الأربعاء وتظهر وراءه وزيرة الثقافة (أ.ب)

سريعاً جداً، طرح مبدأ قيام حكومة تضم الأطراف كافة المندرجة تحت اسم «القوس الجمهوري»، بعيداً عن «التجمع الوطني»، وعن حزب «فرنسا الأبية» الذي يشكل القوة الضاربة داخل «الجبهة الشعبية الجديدة». وسارع مانويل بومبار، المنسق الوطني لشؤون الحزب المذكور والمقرب من ميلونشون إلى تأكيد أن «فرنسا الأبية»، «لن تذهب إلى الحكم، إلا من أجل تنفيذ برنامجها الانتخابي وليس لأي هدف آخر».

المشكلة في فرنسا أن الطبقة السياسية فيها لم تعتد ممارسة السلطة بناء على برنامج حكم مشترك متفاوض عليه، يكون بمثابة عقد يتيح لأحزاب مختلفة أن توجد داخل حكومة واحدة على غرار ما يحصل في ألمانيا أو إسبانيا. وواضح أن حكومة مثل هذه، حتى تقوم، يجب أن تتمتع بأكثرية بديلة. وبهذا الخصوص، قال غابرييل أتال، رئيس الحكومة الحالية، إن هذه الأكثرية يمكن أن تتشكل «من مجموعات سياسية من اليمين واليسار والوسط تعمل معاً على أساس كل مشروع على حدة، لخدمة مصالح الشعب الفرنسي». بيد أن تطوراً جذرياً مثل هذا يفترض، كما أضاف، تبني «شكل جديد من الحكم وطريقة جديدة للعمل». وبكلام أوضح، يقول أتال إن شكل الحكم «العمودي» الذي يعمل به منذ مجيء الرئيس ماكرون إلى رئاسة الجمهورية قبل سبع سنوات، حيث المسائل كافة تحسم في قصر الإليزيه، لا يمكن أن يتواصل، وإن ثقافة سياسية جديدة يجب أن تحل محل الثقافة السابقة.

تحديات صعبة

حقيقة الأمر أن أمراً مثل هذا قد يكون سهلاً ومنطقياً من الناحية النظرية، إلا أن تنفيذه على أرض الواقع سيواجه، بلا شك، صعوبات وعقبات بين أطراف متناحرة منذ سنوات ويصعب عليها محوها بعصاة سحرية.

أولى الصعوبات تكمن في إيجاد نقطة التوازن بين مكوناتها المختلفة. واستبقت مارين توندوليه، الأمينة العامة لحزب «الخضر» الآخرين بقولها إنه «يتعين بناء التحالف الموعود حول المجموعة السياسية التي تحل في المقدمة، أي حول الجبهة الشعبية الجديدة»، وليس حول المجموعة الداعمة لماكرون. وأضافت أن رئيس الحكومة المقبلة «لا يمكن أن يكون من معسكر الرئيس ماكرون».

من جانبه، قال فرنسوا هولاند، الرئيس السابق، إن «اليسار هو الحل وليس دوره فقط أن يقف سداً منيعاً بوجه اليمين المتطرف». ووفق هولاند، يتعين على أحزاب «القوس الجمهوري» أن «تتوافق على برنامج حكم يمثل الحد الأدنى من التفاهمات»، بحيث يتم تأجيل طرح الملفات الخلافية. ودعا كزافيه برتراند، الوزير السابق ورئيس منطقة «الشمال» إلى تشكيل «حكومة مؤقتة»، على غرار ما عرفته فرنسا مباشرة بعد الحرب العالمية الثانية. ورأى فرنسوا بايرو، رئيس حزب «الحركة الديمقراطية» المقرب من ماكرون، نظرا للوضع السياسي المستجد: «البحث عن حلول غير معهودة لتجنب المأزق المؤسساتي».

الطروحات المقدمة حول تسمية الحكومة المقبلة كثيرة، لكن ثمة شروط مسبقة يتعين توافرها وأولها التوافق على برنامج حكم بين الأطراف المدعوة لممارسة السلطة، في حال لم يتمكن منها اليمين المتطرف. والحال أن لا شيء يجمع بين برنامج الجبهة الشعبية وبين «ائتلاف الوسط» أو حزب «الجمهوريين»، لذا يتوقع المراقبون أسابيع من المناقشات والمساومات. وقال وزير العدل الأسبق والخبير القانوني جان - جاك أورفواس إن الحكومة العتيدة التي وصفها بـ«الهجينة»: «لن تكون مؤهلة لإطلاق مبادرات سياسية كبيرة»، بل مهمتها «إصلاح الأخطاء» التي تسببت بها الإصلاحات السابقة والتغييرات العنيفة التي جرت في السابق. أما شخصية رئيس الحكومة العتيدة، فستكون موضع خلاف رئيسي بحيث يتعين أن يكون في موقع «التقاطع» بين الأطراف المختلفة، وأن يكون بعيداً عن الطموحات الرئاسية، فضلاً عن قبوله من الأكثرية البديلة التي من دونها لن يبقى في الحكم يوماً واحداً. ولأن الوضع السياسي على هذه الحال، فإن موقع القرار لن يكون بعد في رئاسة الجمهورية وإنما في البرلمان، ما يعيد الوضع في فرنسا إلى ما كان عليه زمن الجمهورية الخامسة، حيث كانت تتغير التموضعات السياسية فتسقط حكومة وتقوم أخرى.

تنديد التجمع الوطني

مارين لوبان زعيمة حزب «التجمع الوطني» اليميني وجوردان بارديلا المرشح الرئيسي للحزب في الانتخابات الأوروبية يحضران اجتماعاً سياسياً الأحد 2 يونيو 2024 بالعاصمة الفرنسية باريس (أ.ب)

هكذا يبدو المشهد السياسي في فرنسا قبل حلول يوم الأحد الحاسم. وخوف دعاة «القوس الجمهوري» ألا يلتزم الناخبون بتوصيات القيادات السياسية رغم التوافق على الانسحابات والسير في شكل جديد من الحكم. فالتقارب المستجد يبدو هشاً، إذ يخفي ريبة عميقة متبادلة بين جميع هذه الأطراف. وثمة انقسامات داخل الأحزاب لجهة السير بحكومة تحالف واسع. وقالت النائبة ساندرين روسو، عن «الخضر»، إنها ليست جاهزة لأن تتخلى عن برنامج حزبها، وإن «مضمون البرنامج هو الأساس وليس الشكل». ولأن اليمين المتطرف يعي خطورة ما يتم التحضير له، فقد سارع إلى شن هجوم معاكس. وندد جوردان بارديلا، المرشح لرئاسة الحكومة، بـما سماه «تحالفات العار»، داعياً الناخبين إلى منحه مفاتيح السلطة من أجل «مواجهة التهديد الوجودي للأمة الفرنسية» الذي يمثله اليسار، كما يقول.

هل سينجح ماكرون من خلال التحالف الواسع في محو الأخطاء السابقة؟ السؤال مطروح، والإجابة عنه مرهونة بانتظار ما ستسفر عنه صناديق الانتخاب يوم الأحد المقبل لأنها الفيصل، وليس دعوات ماكرون الذي عليه أن يبحث عن حلول أخرى في حال بانت صعوبة قيام «القوس الجمهوري».


مقالات ذات صلة

جدل «الإخوان» في الأردن يعود من بوابة البرلمان

المشرق العربي الجلسة الافتتاحية لأعمال الدورة الجديدة للبرلمان الأردني (رويترز)

جدل «الإخوان» في الأردن يعود من بوابة البرلمان

مع بدء الدورة العشرين لمجلس النواب الأردني، الذي انتخب في العاشر من سبتمبر (أيلول) الماضي، بدأ الشحن الداخلي في معادلة الصراع بين السلطتين التنفيذية والتشريعية.

محمد خير الرواشدة (عمّان)
شمال افريقيا ممثلو دول أوروبية داخل مركز العدّ والإحصاء التابع لمفوضية الانتخابات الليبية (المفوضية)

ليبيا: إجراء الانتخابات المحلية ينعش الآمال بعقد «الرئاسية» المؤجلة

قال محمد المنفي رئيس «المجلس الرئاسي» إن إجراء الانتخابات المحلية «مؤشر على قدرة الشعب على الوصول لدولة مستقرة عبر الاستفتاءات والانتخابات العامة».

جمال جوهر (القاهرة)
الولايات المتحدة​ الملياردير إيلون ماسك (رويترز)

هل يمكن أن يصبح إيلون ماسك رئيساً للولايات المتحدة في المستقبل؟

مع دخوله عالم السياسة، تساءل كثيرون عن طموح الملياردير إيلون ماسك وما إذا كان باستطاعته أن يصبح رئيساً للولايات المتحدة في المستقبل.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
أوروبا وزير الداخلية جيرالد دارمانان (اليمين) متحدثاً إلى الرئيس الفرنسي الأسبق نيكولا ساركوزي (رويترز)

زلزال سياسي - قضائي في فرنسا يهدد بإخراج مرشحة اليمين المتطرف من السباق الرئاسي

زلزال سياسي - قضائي في فرنسا يهدد بإخراج مرشحة اليمين المتطرف من السباق الرئاسي، إلا أن البديل جاهز بشخص رئيس «حزب التجمع الوطني» جوردان بارديلا.

ميشال أبونجم (باريس)
أوروبا جلسة برلمانية في «البوندستاغ»... (إ.ب.أ)

أكثر من 100 برلماني يتقدمون باقتراح لحظر حزب «البديل من أجل ألمانيا»

تقدم أكثر من 100 نائب ألماني باقتراح لرئيسة البرلمان لمناقشة حظر حزب «البديل من أجل ألمانيا» اليميني المتطرف.

راغدة بهنام (برلين)

«تهيمنان على برامج التصفح على الهواتف»... بريطانيا تحقق بشأن «أبل» و«غوغل»

شعار «غوغل» على هاتف محمول (أ.ف.ب)
شعار «غوغل» على هاتف محمول (أ.ف.ب)
TT

«تهيمنان على برامج التصفح على الهواتف»... بريطانيا تحقق بشأن «أبل» و«غوغل»

شعار «غوغل» على هاتف محمول (أ.ف.ب)
شعار «غوغل» على هاتف محمول (أ.ف.ب)

قالت هيئة المنافسة والأسواق في المملكة المتحدة، اليوم الجمعة، في تقرير إن شركتي «أبل» و«غوغل» لا توفران للمستهلكين خياراً حقيقياً لبرامج التصفح على الإنترنت للهواتف المحمولة، وأوصت بإحالتهما إلى تحقيقٍ بموجب القواعد الرقمية الجديدة في المملكة المتحدة، والتي من المقرر أن تدخل حيز التنفيذ العام المقبل.

ووجهت هيئة المنافسة والأسواق انتقادات لشركة «أبل»، قائلة إن تكتيكات الشركة المصنعة لهاتف آيفون تعيق الابتكار عن طريق منع المنافسين من منح المستخدمين ميزات جديدة مثل تحميل صفحات الإنترنت بشكل أسرع.

وأفاد تقرير الهيئة بأن شركة «أبل» تفعل ذلك من خلال تقييد تطبيقات الويب المتطورة، والتي لا يتطلب الأمر تنزيلها من تطبيق لمتجر التطبيقات، ولا تخضع لعمولات تطبيق متجر التطبيقات.

وقالت هيئة المنافسة والأسواق البريطانية إن «هذه التطبيقات غير قادرة على الانطلاق بشكل كامل على الأجهزة التي تعمل بنظام تشغيل (آي أو إس) الذي طورته شركة (أبل)»، وجاء ذلك في تقرير مؤقت للهيئة عن تحقيقها بشأن برامج تصفح الهواتف المحمولة، والذي شرعت فيه بعد أن خلصت دراسة أولية إلى أن شركتي «أبل» و«غوغل» لديهما سيطرة فعالة على «الأنظمة البيئية المحمولة».

وتوصل تقرير هيئة المنافسة والأسواق أيضاً إلى أن شركتي «أبل» و«غوغل» تتلاعبان بالخيارات المقدمة لمستخدمي الهواتف المحمولة؛ لجعل برامج التصفح الخاصة بهما هي «الخيار الأكثر وضوحاً أو سهولة».

وقالت الهيئة إن اتفاقاً لتقاسم الإيرادات بين شركتي التكنولوجيا الكبيرتين في الولايات المتحدة «يقلل بشكل كبير من حوافزهما المالية» للتنافس في مجال برامج تصفح الهواتف المحمولة على نظام التشغيل «آي أو إس» الذي تصنعه شركة «أبل» لأجهزة آيفون.

وقالت الشركتان إنهما «ستتعاونان بشكل بناء» مع هيئة المنافسة والأسواق.

وذكرت شركة «أبل» أنها لا توافق على نتائج تقرير الهيئة، وأعربت عن قلقها من أن تؤدي التوصيات إلى تقويض خصوصية وأمن المستخدم.

وأشارت شركة «غوغل» إلى أن انفتاح نظام تشغيل «آندرويد» للأجهزة المحمولة الخاص بها «ساعد في توسيع الاختيار وخفض الأسعار، وأتاح الوصول إلى الهواتف الذكية والتطبيقات»، وأنها «ملتزمة بالمنصات المفتوحة التي توفر الإمكانيات للمستهلكين».