حتى صباح الخميس الماضي، كانت مدينة «آنسي» وبحيرتها الجميلة مقصداً يرتاده الباحثون عن الراحة والجمال الطبيعي الذي يمزج بريق المياه الزرقاء والباردة باخضرار التلال المحيطة، وفي البعيد تظهر بعض جبال الألب. وتقارن المدينة الوادعة بمدينة البندقية الإيطالية وتسمى «بندقية جبال الألب». وغير بعيد عن البحيرة التي يطل عليها حصن قديم حوّل إلى متحف تاريخي ومنه يتمتع النظر بالبحيرة من جهة وبسطوح المدينة من جهة أخرى، تقع «حديقة أوروبا» التي تحبها الأمهات بشكل خاص؛ لأنها تحتضن ملاعب للأطفال والصغار ومنها تنبثق بهجة الحياة. إلا أن «عبد المسيح هاء»، اللاجئ السوري إلى السويد منذ عام 2013، ارتكب، صبيحة ذاك اليوم، جريمة لا يعقلها عاقل ويصعب تفسيرها. إذ امتشق سكينه وهاجم مجموعة من الأطفال بلا سبب واضح. ووفق التصريحات، التي أدلت بها ظهر السبت، لين بونيه ماتيس، المدعية العامة في مدينة آنسي، فإنه طعن الأطفال الأربعة، وهم فرنسيان وهولندي وبريطاني، 11 طعنة، بينها لرضيع عمره 22 شهراً وأكبرهم في الثالث من سنواته أي بعمر طفلته التي تركها مع أمها السويدية التي تزوجها ورفضت اللحاق به إلى فرنسا. ولم يكتف عبد المسيح الذي صاح قبل مباشرة فعلته الشنيعة قائلاً بالإنجليزية: «باسم المسيح»، باستهداف الأطفال الأربعة بل طعن رجلين، الأول يبلغ من العمر 78 عاماً والثاني 70 عاماً. وجروح الأول جاءت طفيفة ولم يدخل إلى المستشفى. لكن الثاني كان أقل حظاً إذ أصيب إصابة بالغة وكان بين الحياة والموت، ومصيبته أنه أصيب أيضاً برصاص رجال الشرطة الذين حاولوا إيقاف الجاني بإطلاق النار عليه. وفتح تحقيق لمعرفة ظروف إصابة هذه الضحية بالرصاص. وتفيد المعلومات المتوافرة بأن حياته لم تعد في خطر وهي أيضا حال الأطفال الأربعة، بمن فيهم الطفل الهولندي الذي نقل إلى مستشفى في جنيف الواقعة على بعد 30 كيلومتراً من «آنسي». حتى اليوم، ما زالت جريمة عبد المسيح لغزاً دفيناً. فطيلة الساعات الـ48 التي أمضاها في نظارة الشرطة عقب فتح تحقيق قضائي بحقه، التزم الجاني الصمت المطبق. وأفادت المدعية العامة بأنه رفض النطق، وكان مكثراً في الحراك أو منطوياً على نفسه. والتزم الجاني الصمت أمام الشرطة القضائية، وكذلك أمام القاضيين اللذين كلفا بملفه. وبيّن الفحص النفسي، الذي أخضع له في اليوم الثاني من توقيفه على يدي رجال الشرطة التي لا يبعد مقرها عن موقع الجريمة سوى 200 متر، أنه يتمتع بقواه العقلية وقابل للاستجواب ولم يتصرف تحت تأثير الكحول أو المخدرات. وأكدت المدعية العامة أن الجاني سيخضع مجدداً لفحوص نفسية للتأكد من امتلاكه كامل قواه العقلية، وأنه لم يصب بلوثة جنون حين قيامه بجريمته.
وقال أحد المحامين المتخصصين بهذا النوع من الجرائم إنه إذا ثبت فقدان بصيرته، فإن الأمور يمكن أن تأخذ مساراً مختلفاً بمعنى انعدام المسؤولية. والثابت منذ اليوم الأول أن جريمة «آنسي» ليست عملاً إرهابياً. في المؤتمر الصحافي الذي عقدته أمس واكتفت بتلاوة ورقة مكتوبة رافضة الإجابة عن أسئلة الصحافيين، أكدت المدعية العامة وضع «عبد المسيح هاء» قيد «الاحتجاز الاحتياطي». وأفادت بأنه تم تعيين قاضيين محققين لمتابعة التحقيق، ورصد ما لا يقل عن 100 محقق من الشرطة القضائية لمحاولة فك لغز الجاني. وتراهن باريس على التعاون القضائي مع دول الاتحاد الأوروبي، وخصوصاً مع السويد للتوصل إلى فك أسرار لغز من خارج المألوف. وتجدر الإشارة إلى أن العمليات الإرهابية التي حصلت في فرنسا في السنوات العشر الماضية، قام بها متطرفون إسلاميون إما بدفع وتخطيط خارجي وإما على أيدي من يسمون «الذئاب المنفردة»، وكانت ذات أهداف سياسية. والحال أن جريمة «آنسي» لا تدخل في هذا السياق؛ أولاً لأن الجاني ليس متطرفاً إسلاموياً، وثانياً لأن ضحاياه أطفال رضع ورجلان متقدمان في السن، وثالثاً لأنه لا هدف واضحاً لفعلته الآثمة. وأوضحت المدعية العامة أن الجاني كان يحمل صليباً على صدره وفي جيبه صور قديسين، وقد استخدم في عمليته سكيناً يمكن طيها وهي بنصل من 10 سنتيمترات. ووجهت للجاني رسمياً الجمعة تهم «الشروع بالقتل» و«استخدام سلاح لمقاومة عملية توقيفه من قبل رجال الأمن». وبيّنت مقاطع فيديو بثتها القناة الإخبارية «بي إف إم» الفرنسية، عملية نقل الجاني من مقر الشرطة إلى مقر المدعية العامة. وسيكون للشرطة القضائية التي ستعمل تحت إشراف القاضيين المعينين مهمة فك طلاسم هذا الغز، بالتركيز على مسار الجاني منذ خروجه من سوريا وحتى ارتكابه جريمته. الثابت حتى اليوم أن «عبد المسيح هاء» الذي لم تكشف هويته الكاملة، مولود في عام 1991. وقد ترك سوريا في عام 2011، أي منذ بداية الأحداث، فعبر منها إلى تركيا ثم إلى اليونان وبعدها باتجاه وسط أوروبا، وحط رحاله بعد عامين في عام 2013 في السويد. وفي السويد المعروفة بتقبلها للاجئين خصوصاً الذين يعانون من الاضطهاد في بلدانهم، منحته الحكومة حق اللجوء ككثير من السوريين والعراقيين والأفغان. ولا يبدو أن الجاني كان يعاني بشكل خاص من وجوده في السويد، حيث أقام 10 سنوات؛ إذ إنه تزوج هناك من سويدية وأنجب منها طفلة عمرها اليوم 3 سنوات. إلا أنه طلّقها لاحقاً لأنها رفضت اللحاق به إلى فرنسا. وبحسب ما أفادت به، فإنه ترك السويد لأنه لم ينجح في الحصول على جنسيتها، الأمر الذي دفعه للتوجه إلى فرنسا التي وصلها بشكل قانوني في شهر نوفمبر (تشرين الثاني) من العام الماضي. وسارع في 28 من الشهر نفسه إلى تقديم طلب لجوء. بيد أن حظه في الحصول على صفة لاجئ في فرنسا كان معدوماً مسبقاً؛ لأن الاتفاقيات الأوروبية تمنع اللاجئ من طلب اللجوء إذا كان معترفاً به كلاجئ في بلد آخر باستثناء حالات خاصة لا تنطبق عليه. وفي أبريل (نيسان) الماضي، رفض طلبه ولم يبلغ بالرفض إلا في الرابع من يونيو (حزيران)، أي قبل 4 أيام من ارتكابه جريمته.
وقالت مطلقته إنه أبلغها، بمناسبة اتصال بينهما، أنه يعيش في كنيسة في «آنسي». وحتى توافر المزيد من المعلومات، فإن السؤال يتناول اختياره هذه المدينة بالذات ليحط فيها رحاله وليعيش، وفق شهادات عدد من سكانها الذين تعرفوا على صورته، متنقلاً بين أسواقها وحدائقها. وتبيّن مقاطع فيديو انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي رجلاً ملتحياً قوي البنية، يضع نظارات سوداء اللون ويرتدي «حطة» زرقاء اللون ومرقطة تشبه الكوفية، ومرتدياً سروالاً قصيراً وبيده سكين يظهر نصلها بوضوح وهو في وضع المتأهب للانقضاض على ضحاياه.
وثمة مناطق ظل كثيرة يتعين جلاؤها قبل أن تعرف الشخصية الغامضة لهذا الرجل.