بعد أشهر من الإقامة في محل يتكون من غرفة واحدة وحمام فقط؛ اضطر معتز عبد الباسط إلى نقل عائلته إلى منزل والده في القرية الواقعة في ريف مدينة تعز (جنوب غربي اليمن)، ريثما يجد منزلاً جديداً بعد قرار المحكمة الذي ألزمه بإخلاء المنزل لصالح المالك.
يروي معتز قصته ويقول: «عندما وصلت القضية إلى النيابة بدأت البحث عن سكن جديد، كنت أعرف أن قرار القضاء سيكون لصالح المؤجر، ولم أجد منزلاً بسهولة، فاضطررت لأخذ عائلتي إلى محل معروض للإيجار».
يصف معتز السكن في المحل التجاري بأنه عذاب حقيقي، حيث احتل الأثاث غالبية المحل وما تبقى منه خصصه وعائلته للنوم، وفي إحدى الزوايا وضعوا موقداً صغيراً للطبخ، ولا يوجد في المحل أي ملحقات سوى حمام صغير، وكان ضجيج الشارع رفيقهم الدائم حتى في أوقات الليل المتأخرة.
مشكلة معتز تحيل إلى معضلة يعاني منها اليمنيون في مختلف المدن، بخاصة في مدن مثل تعز وعدن وصنعاء، حيث ارتفعت إيجارات المساكن، بالتزامن مع انقطاع الخدمات، وشحّة وغلاء السلع الأساسية.
زيادة مرهقة
في تعز وقبل بدء حصار المدينة منذ ثماني سنوات؛ نزح غالبية من السكان، قبل أن يعاودوا تحدي الحصار والقصف لتزدحم الأحياء مجدداً، ويصاحب ذلك ارتفاع في إيجارات المساكن.
لم ترتفع الإيجارات كثيراً، مقارنةً بانهيار سعر صرف العملة المحلية، كما يفيد به الصحافي وسام محمد، لكن في الوضع الذي تعيشه تعز، وبالنظر إلى أن هذا الانهيار يشمل الجميع بمن في ذلك الموظفون الحكوميون الذين فقدت رواتبهم نحو 70 في المائة من قيمتها، يصبح رفع الإيجارات مرهقاً.
ارتفعت الإيجارات إلى ما يقارب 80 في المائة خلال العامين الأخيرين حسبما يقول محمد، بسبب الاستقرار النسبي الذي عاشته المدينة نتيجة توقف المعارك في أطرافها، وتخفيف حدة القصف على الأحياء السكنية، والتحسن الملحوظ في الأوضاع الأمنية، وعودة النازحين، وهو ما استغله المؤجرون.
ويشير إلى أن وجود فروع لمنظمات دولية تستأجر شققاً أو مباني بالعملات الأجنبية (الدولار أو الريال السعودي)، أغرى المؤجرين بطرد المستأجرين وتأجير عقاراتهم للمنظمات أو كبار موظفيها، في حين يقف القانون إلى جانب المؤجرين. كما يتفق معه في ذلك المحامي صلاح أحمد غالب، الذي يعزو الأمر لجمود التشريعات القانونية وعدم تحديثها.
يتفق محمد وغالب ومصدر قضائي في تعز في إفادتهم لـ«الشرق الأوسط» على أن القانون تمت صياغته منذ زمن بعيد من طرف ملاك العقارات، ولم يجرِ تحديثه أو تعديله ليستوعب المتغيرات الكثيرة خلال العقود الماضية، فالقضايا الكثيرة التي تشهدها أجهزة القضاء تنتهي لصالح المؤجرين، رغم أن السلطة المحلية في تعز أصدرت تعميماً بمنع الإخلاء، إلا أنه ليس أقوى من القانون.
صمود ومكافأة بالطرد
يتفق محمد والمحامي غالب على أنه بإمكان السلطة المحلية في تعز تعديل الكفة قليلاً لصالح المستأجرين بتفعيل قانون ضرائب العقارات المجمد منذ بداية الحرب، والذي سيحدّ من رفع الإيجارات، كما يستنكر المحامي غالب السرعة التي ارتفعت بها إيجارات بعض المنازل من 30 ألف ريال إلى 150 ألف (الدولار يساوي 1490 ريالاً يمنياً في المناطق المحررة).
ويتحسر وسام محمد لأن تعز عندما هجرها ثلثا سكانها في بداية الحصار، كان مالكو العقارات أول الهاربين، بينما بقي البسطاء ليدافعوا عنها، وعندما أصبح الوضع أقل خطورة عاد ملاك العقارات لفرض زيادات في الإيجارات. وفي مفارقة مؤلمة، وفق وصفه، يواجه كثير ممن صمدوا في وجه الحصار قضايا في المحكمة ومضايقات وتهديداً بالطرد.
ويدعو المحامي غالب القضاء إلى رفض أي دعوى إخلاء شقة مؤجرة ما لم يكن المدعي مسدداً للضرائب، كوسيلة للحد من طرد المستأجرين، وأن يقوم قطاع الصناعة والتجارة بتحديد سعر رسمي للشقة الواحدة حسب عدد غرفها ووضع حدين أعلى وأدنى كنوع من التوازن والعدالة بين الطرفين.
أما المصدر القضائي، الذي رفض الكشف عن بياناته لحساسية منصبه؛ فطالب المستأجرين بالتنبه والحذر واتخاذ احتياطات تساعد القضاء على إنصافهم، مثل كتابة عقود إيجار بمدد إيجارية طويلة الأمد، وعدم الركون إلى اتفاقات شفوية أو الثقة بالملاك، متمنياً حدوث تعديل قانوني عاجل يحقق العدالة.
واستدرك: «نحن ندرك معاناة المستأجرين وجشع واستغلال المؤجرين بحكم أن غالبية موظفي السلك القضائي يسكنون بالإيجار؛ غير أننا لا نستطيع الحكم إلا بما يقره القانون رغم تعاطفنا مع المستأجرين، أو على الأقل نحاول حل القضايا بالصلح والتوفيق».
قاضٍ آخر تحدث لـ«الشرق الأوسط» عن عدم قبول دعاوى الإخلاء حسب قرار رئيس محكمة استئناف تعز، وإلزام الملاك بنسبة معقولة لرفع الإيجارات بسبب الأوضاع المعيشية القاسية، داعياً المستأجرين المنتظمين في دفع الإيجارات إلى رفع شكاوى ضد الملاك في حال مطالبتهم بزيادة أو اتخاذ إجراءات تعسفية ضدهم.
أغلى المدن إيجاراً
تعد مدينة عدن أغلى المدن اليمنية في إيجار المساكن، لكونها العاصمة المؤقتة للبلاد منذ ثماني سنوات، وتتابع موجات النزوح إليها خلال السنوات الماضية، ويعيش سكانها معاناة صعبة بوصول الإيجارات إلى مستويات قياسية.
وبلغت نسبة زيادة الإيجارات أكثر من 400 في المائة عمّا كانت عليه قبل الحرب طبقاً لرواية الصحافي اليمني عبد الرحمن أنيس، الذي يوضح أن هذا الارتفاع لا يتناسب بأي شكل من الأشكال مع رواتب ومداخيل الموظفين، ناهيك بالعاطلين والعاملين بالأجر اليومي، بينما يرفض ملاك العقارات توقيع عقود لمدة أكثر من عام.
ويتابع أنيس: «يبلغ متوسط الإيجارات في عدن 150 ألف ريال يمني لمن يؤجرون بالعملة المحلية، ويجري رفعها باستمرار، حيث سعر الدولار في المناطق المحررة يبلغ 1490 ريالاً، غير أن الغالبية يؤجّرون بالعملات الأجنبية، وتحديداً الدولار والريال السعودي، وغالباً لا تكفي رواتب كبار موظفي الدولة لسداد إيجارات منازلهم، وكثيراً ما تذهب رواتب اثنين أو ثلاثة من أفراد العائلة للإيجار».
وفي حي المنصورة الذي يقع شمال المدينة، يصل إيجار بعض الشقق إلى 1000 ريال سعودي، و500 ريال سعودي كحد أدنى للشقق الصغيرة، بينما تتراوح الإيجارات زيادةً أو نقصاناً في بقية الأحياء حسب قربها من قلب المدينة وتوفر الخدمات وحال الشقق والبنايات، ويوضح أنيس لـ«الشرق الأوسط» أنه من النادر أن تصل قضايا الإيجارات إلى المحاكم حيث يجري حلها غالباً لدى السلطة المحلية.
لجنة حكومية في عدن
لجأ الكثير من النازحين إلى عدن للسكن في أطراف المدينة، تحديداً في حي دار سعد، حيث الإيجارات أرخص بكثير، لكنّ البنايات متهالكة وضيقة وسيئة التهوية كما يصفها الناشط الاجتماعي عمر عبدان، الذي يعمل في تقديم المساعدات للنازحين وذوي الدخل المحدود في عدن.
وبشكل شبه يومي يدخل عبدان منازل بعض النازحين في حي دار سعد، حيث وجد منهم من يسكن في محل يتكون من غرفة واحدة، وبعضها من دون حمامات مقابل مبالغ تصل إلى 80 ألف ريال، ويضطرون لاستخدام حمامات جيرانهم أو حمامات المساجد.
في أواخر العام قبل الماضي شكل محافظ عدن أحمد حامد لملس، لجنة مكلّفة بعدد من المهام الخاصة بالقضايا الاقتصادية والمعيشية بينها إلزام وإخضاع معاملات وعقود إيجارات العقارات لاستخدام العملة الوطنية، إلا أن اللجنة واجهت الكثير من الصعوبات والعقبات.
يؤكد عبد الرؤوف زين وكيل محافظة عدن ورئيس اللجنة، لـ«الشرق الأوسط» أنه تم إبلاغ الحكومة بأن ضبط الإيجارات مرتبط باستقرار الاقتصاد المحلي وسعر العملة الوطنية، وأن تحقيق إنجاز في هذا الشأن يأتي ضمن إنجازات اقتصادية ومعيشية.
وحاولت اللجنة إلزام المؤجرين بالتعامل بالعملة الوطنية، إلا أن عدم استقرار أسعار الصرف حال دون تنفيذ ذلك بشكل كامل، رغم تمكنها من تحقيق بعض الالتزام بالتعاون مع بعض الجهات الضبطية مثل المحاكم والنيابات والمكاتب التنفيذية الأخرى، غير أن الشكاوى أصبحت تأتي من جهة المؤجرين أيضاً بحجة أن تغير سعر العملة المحلية يؤثر عليهم في المقابل.
ويأمل زين، من أصحاب رؤوس الأموال ومالكي العقارات، التعاون مع الحكومة في سبيل الحد من تدهور الأوضاع الاقتصادية والمعيشية، والالتزام بالتعامل بالعملة المحلية، وتخفيف الأعباء عن المواطنين، منبهاً إلى أن محافظة عدن تدخلت في هذا الملف بشكل رئيسي رغم أنه من اختصاص جهات حكومية أخرى مثل قطاع الأشغال.