سعى ناجي عيسى، محافظ مصرف ليبيا المركزي، في أول تحرك من نوعه، بين الحكومتين المتنازعتين على السلطة في ليبيا، لتفكيك تعقيدات الإنفاق العام «المزدوج»، من خلال مناقشة سُبل إصلاح الوضع الاقتصادي، وتفعيل «الميزانية الموحدة».
وفي لقاءين متتابعين ما بين مقري المصرف في العاصمة طرابلس وبنغازي، أجرى عيسى مباحثات مع رئيسي الحكومتين عبد الحميد الدبيبة، وأسامة حمّاد، تمحورت حول ضرورة ترشيد الإنفاق، وسد «الفجوة بين الإيرادات والمصروفات»، والتحذير من زيادة بند الرواتب.
وتتصاعد فاتورة الإنفاق على الرواتب في ليبيا بوتيرة كبيرة، فمنذ عام 2009 قفزت من 9 مليارات دينار إلى 67.6 مليار دينار خلال عام 2024، حسب «المصرف المركزي». (الدولار يساوي 5.47 دينار في السوق الرسمية)، و(7.12 دينار في السوق غير الرسمية).
واستهل عيسى تحركاته بمناقشات أجرها في طرابلس مع أعضاء اللجنة المالية بمجلس النواب، مساء الأربعاء، أعقبها باجتماع مع الدبيبة في مقر المصرف، تناول «تداعيات الإنفاق العام على الوضعين الاقتصادي والمالي، وآثاره على قوة الدينار الليبي».
وقال المصرف إن محافظه تطرَّق خلال اجتماعه برئيس حكومة «الوحدة» إلى «ضرورة الشروع في تنفيذ حزمة من الإصلاحات الاقتصادية، لرفع وتحسين مستوى معيشة الليبيين وفق خطة عمل سريعة»، مرتكزاً في ذلك إلى أن الإيرادات النفطية الموردة للمصرف «شهدت تحسناً ملحوظاً خلال هذا الأسبوع».
ونقل المصرف عن الدبيبة «تأكيده أن حكومته بدأت فعلياً تطبيق آلية جديدة لاستيراد المحروقات، بعيداً عن نظام المبادلة السابق»، معرباً عن أمله في أن تتعاون جميع الجهات المعنية «للاضطلاع بدورها لاستمرار توفّر الوقود، وتحقيق الاستقرار في هذا القطاع الحيوي».
واتفق الطرفان في ختام الاجتماع على تنسيق الجهود بين حكومة والمصرف بشأن صرف رواتب أبريل (نيسان) مطلع الأسبوع المقبل، كما شددا على «ضرورة اتخاذ جملة من الإصلاحات في السياسات الاقتصادية - المالية، والنقدية والتجارية، بهدف تعزيز الإيرادات السيادية وتحسين سبل جبايتها؛ بالإضافة إلى اتخاذ كل التدابير لدعم قيمة الدينار الليبي، بما يُحافظ على استقرار سعر الصرف، ويُحقق الاستدامة المالية للدولة».
وسبق لـ«المصرف المركزي» التحذير في السادس من أبريل الحالي من خطورة الإنفاق العام «المزدوج» من جانب حكومتي «الوحدة» المؤقتة في طرابلس، والمُكلفة من مجلس النواب في بنغازي، مشيراً إلى أنه «ساهم في اتساع واختلال الفجوة بين الطلب والعرض من العملات الأجنبية؛ وحال دون المحافظة على استقرار سعر الصرف، والرفع من قيمة الدينار الليبي».
وكان المصرف قد أعلن في بيان مفصّل أن حجم الإنفاق العام المزدوج خلال 2024 بلغ 224 مليار دينار، وأشار إلى أن حكومة الدبيبة أنفقت 123 ملياراً، في حين جاء نصيب نظيرتها 59 ملياراً.
وتسبب الحديث عن «الإنفاق الموازي» في تسخين الجبهة بين «الحكومتين». فيما حمّل الدبيبة حكومة حمّاد، التي سماها «الموازية»، مسؤولية «الإنفاق من دون الرجوع إلى مؤسسات الدولة؛ ما أدَّى إلى تداعيات على الاقتصاد الوطني، تمثَّلت في استنزاف الاحتياطي النقدي»، وردَّ الأخير متهماً حكومة طرابلس بـ«اتباع أسلوب التدليس في إعطاء المعلومات المغلوطة».
وكان حمَّاد قد رفع إلى رئيس مجلس النواب، عقيلة صالح، مشروع قانون «الميزانية الموحدة» للعام الجديد، وصفت بأنها «الأضخم»؛ حيث تتجاوز 174 مليار دينار، وسط اعتراضات واسعة عليها من أطراف كثيرة بسبب عدم مراعاتها الأزمة التي يعانيها الاقتصاد الليبي راهناً.
وركَّز لقاء عيسى بحماد في مدينة بنغازي، التي وصلها صباح (الخميس)، على تداعيات الأوضاع الاقتصادية والمالية الحالية في ليبيا. وقالت حكومة حمّاد إن الاجتماع، الذي حضره نائب المحافظ مرعي البرعصي، ومديرو الإدارات بالمصرف، تناول أيضاً «تداعيات الإنفاق العام على الأوضاع الاقتصادية والمالية في البلاد، وتأثيرها على العملة الرسمية».
وتحدَّث حمّاد عن «العمل والتنسيق مع إدارة المصرف، وتسخير الجهود كلها لبناء اقتصادٍ وطني متماسك، قادر على مواجهة التحديات الحالية، وتحقيق مستقبل أفضل لأجيالنا القادمة»، معلناً عن «حزمة من الإصلاحات» لمواجهة التحديات الاقتصادية.
وتتضمن هذه الحزمة، حسب حماد، «تحسين إنتاج مؤسسة النفط، وإلغاء نظام مبادلة الخام، واستحداث آلية شفافة لتوفير المحروقات، وتفعيل قانون الرواتب الموحد لتحقيق العدالة الاجتماعية، والعمل على توازن الرواتب بين القطاعين العام والخاص، إلى جانب توحيد الأجهزة الرقابية لتعزيز الشفافية».
وقال عيسى إن «الإنفاق هو محور الأوضاع الاقتصادية». مشيراً إلى تحذيره السابق من «الفجوة بين الإيرادات والمصروفات»، وذهب إلى أن العجز في النقد الأجنبي بليبيا «جاء نتيجة ارتفاع الطلب، وعدم قدرة المصرف على تلبيته».
ودعا عيسى خلال الاجتماع إلى «ضرورة الاتفاق على ميزانية موحدة»، و«مراجعة سياسة دعم المحروقات؛ واستبدال الدعم النقدي بها»، كما حذَّر من «زيادة بند الرواتب، واستنزاف خزينة الدولة».
ونقلت حكومة حماد عن المحافظ إشادته بـ«مشروعات التنمية»، خاصة في مدينة درنة، وبـ«حزمة الإصلاحات» التي قدَّمها حماد، وقال «إنها ضرورية لحل الأزمة الاقتصادية». فيما قال حماد إن مصرف ليبيا المركزي «يُشكّل ركيزة أساسية في مسار الإصلاح الاقتصادي»، مؤكداً أهمية تعزيز دوره في «رسم السياسة النقدية، وتحقيق الاستقرار المالي، ودعم توحيد المؤسسات والشفافية، واستعادة الثقة بمؤسسات الدولة».