يساور عدد من مسؤولي وساسة ليبيا في شرق البلاد وغربها قلق متزايد من ملف «شبح توطين المهاجرين غير النظاميين»، بعد أن عاد بقوة إلى واجهة الأحداث، إثر تصريحات صدرت عن وزير في حكومة «الوحدة الوطنية» المؤقتة، التي يرأسها عبد الحميد الدبيبة، في إطار تسويقه مبررات تطبيق نظام «الكفيل الخاص» في إدارة ملف العمالة الوافدة.
وفي بلد استقبل نحو 2.5 مليون مهاجر غير نظامي منذ 2011، وفق تقديرات رسمية، أبدت حكومة الدبيبة على لسان وزير العمل، علي العابد، مخاوف من «التوطين»، على اعتبار أن «تواجد المهاجر لعشر سنوات في البلاد يمنحه فرصة للحصول على الجنسية (وفق التشريع الليبي)، وقد يعطيه حق التصويت على دستور البلاد»، في بلد يُحكم بإعلان دستوري منذ عام 2011، وفق مقابلة للعابد مع قناة محلية.
ويعرف تشريع صادر عن البرلمان الليبي العام الماضي التوطين بأنه «إدخال الأجانب إلى ليبيا بقصد اتخاذها موطناً دائماً لهم، بتأشيرة صحيحة أو بغير تأشيرة»، وكذلك «بقاء الأجنبي في ليبيا بعد انتهاء المدة المحددة لإقامته فيها، أو بعد زوال سبب دخوله»، علماً أن مجرد «دخول الأجنبي أو إقامته دون سبب معلوم هو دليل على أن السبب هو التوطّن في ليبيا».
مخاوف دستورية
إلى جانب المخاطر الدستورية المحتملة، يخشى مراقبون من تهديدات «التوطين» للأمن القومي الليبي، على اعتبار أنه قد ينذر «باختراقات أمنية خطيرة، ويتسبب في ارتفاع معدلات الجريمة في بلد غير مؤهل لاستضافة المهاجرين، ويقع تحت الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة»، وفق تعبير الدكتور محمد حسن مخلوف، أستاذ العلاقات الدولية بجامعة بنغازي.
وفي خطوة وُصفت بأنها «إجراء احترازي»، اختارت حكومة الدبيبة قطع الطريق «أمام التوطين»، عبر استحضار تطبيق نظام «الكفيل»، وإلزام «صاحب العمل بإخراج العامل خارج البلاد بعد 3 سنوات من تواجده»، وذلك بعد تسجيله في منصة إلكترونية حكومية (منظومة «وافد») بإثباتات، تشمل عقد العمل وتأشيرة إقامة، وفق وزير العمل بحكومة غرب ليبيا.
رفض سيناريو «التوطين»
تصريحات العابد لم تكن الأولى الصادرة عن حكومة عبد الحميد الدبيبة؛ إذ سبق لوزير الداخلية المكلف، عماد الطرابلسي، أن عبّر عن رفضه سيناريو «التوطين»، وتمسك في تصريحات أطلقها في شهر أكتوبر (تشرين الأول الماضي) بأن ليبيا «دولة عبور للمهاجرين وليست المقصد».
وفي حين تواجه ليبيا معضلة الانقسام السياسي المستمر بين حكومتين، الأولى برئاسة الدبيبة في غرب البلد، والأخرى مكلفة من البرلمان في الشرق برئاسة أسامة حماد، لكن هذا الانقسام بدأ يتلاشى قليلاً أمام مخاوف «التوطين».
ففي إجراء استباقي مبكر، أقرّ مجلس النواب في أغسطس (آب) من العام الماضي تشريعاً يقضي بـ«مكافحة توطين الأجانب في ليبيا». وأقرّ القانون عقوبات، تتراوح بين الغرامة والحبس، ومصادرة الأموال لمن قصد التوطن في ليبيا، أو من آوى أجنبياً أو شغَّله بقصد توطينه. وكان اللافت اشتراط وجود «كفيل ليبي الجنسية للأجنبي المتواجد في البلاد»، يكون مسؤولاً عن جميع الإجراءات الخاصة بالأخير.
وعدّ متابعون صدور القانون آنذاك بمثابة رد فعل عملي على جدل حاد واكب مؤتمر روما حول الهجرة في يوليو (تموز) 2023، واستدعى تحذيراً من رئيس الحكومة المكلفة من البرلمان، أسامة حماد، للأطراف المشاركة في هذا المؤتمر من اتخاذ قرارات تسمح بتوطين المهاجرين في ليبيا، حسب تعبيره.
إلا أن ساسة ليبيين، ومن بينهم عضو المجلس الأعلى للدولة، أحمد أبو بريق، أشاروا إلى وجود مبالغة وتهويل في الحديث عن «التوطين»؛ إذ عدَّه أبو بريق ضمن «هواجس لدى البعض»، معتقداً في تصريح لـ«الشرق الأوسط» أن «ما يسمى التوطين رهن لقوانين البلد نفسها، ولا يمكن فرضه على أي دولة إلا عبر اتفاقيات أو قوانين».
وفي خطوة عملية ترجمت توجهات ومخاوف حكومة الدبيبة، كان إعلان وزارة العمل إطلاق مبادرة تخصيص «سكن لإقامة العمالة الوافدة فقط»، في حين قالت الوزارة إنه «مسعى قطع الطريق على أي فرصة للتوطين، أو الإقامة داخل الأحياء السكنية، وإلزام العمالة بالخروج والعودة من البلاد في مدة أقصاها ثلاث سنوات من تاريخ دخولها الرسمي»، وفق نص القرار.
ولم يتوقف الأمر عند حدود ليبيا؛ إذ دخلت المنظمة الدولية للهجرة على الخط، مع تصريحات صدرت عن نيكوليتا جيوردانو، رئيسة بعثة المنظمة لدى ليبيا، حيث تحدثت المسؤولة الدولية في وقت سابق هذا الأسبوع عن استراتيجية دولية لتحسين إدارة الهجرة في ليبيا، وضمان قدرة المهاجرين على المساهمة بشكل آمن ومنتظم في التنمية الاقتصادية في ليبيا، معتبرة أن «80 في المائة منهم يأتون من دول مجاورة، مثل النيجر والسودان ومصر وتشاد، ومعظمهم يبحث عن فرص عمل قصيرة أو طويلة الأجل».
وفي رد فعل فوري رافض مقترح المسؤولة الدولية، أدرج تجمع الأحزاب الليبية تصريحاتها في سياق «خطة توطين المهاجرين، والإيحاء للرأي العام العالمي والمحلي بأن الأفارقة في طريق هجرتهم يقصدون الإقامة في ليبيا وليس عبور البحر لأوروبا». في حين ذهب الأكاديمي الليبي مخلوف إلى الحديث عن «محاولات أوروبية للمضي بهذا السيناريو إلى النهاية».
أما بالنسبة لمراقبين أوروبيين، ومن بينهم الباحثة الفرنسية المتخصصة في الشأن الليبي، فيرجيني كولومبييه، التي رصدت «مخاوف عميقة الجذور بين الليبيين»، فقد أشارت من جهتها إلى ما عدته «تفسيراً خاطئاً لتصريحات المسؤولة في المنظمة الدولية للهجرة».
وتنطلق الباحثة الفرنسية من حقيقة أن «ليبيا بلد عبور رئيس للمهاجرين المتجهين إلى أوروبا، إلى جانب أنها وجهة للمهاجرين الباحثين عن فرص اقتصادية»، معيدة التذكير بأن ليبيا «كانت سوق عمل جذابة خلال عهد الرئيس السابق القذافي»، رغم ما عدته «انتشاراً لسوء معاملة العمال الأجانب، خصوصاً القادمين من أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى».
وفي هذا السياق، خلصت كولومبييه في تصريح لـ«الشرق الأوسط» إلى تفسير ترويج المنظمة الدولية للهجرة، بدعم من الاتحاد الأوروبي وإيطاليا، لاتفاقيات تنقل العمالة بين ليبيا وبلدان المنشأ للمهاجرين، وذهبت إلى القول بأن تحقيق الاستقرار السياسي وتحسن الأوضاع الأمنية في ليبيا، «يقلل من تدفقات المهاجرين غير النظاميين إلى أوروبا».