تعيش كرة القدم المغربية اليوم واحدة من أكثر مراحلها ازدهاراً، ليس فقط من حيث النتائج، بل من حيث المنظومة التي صُنعت بعناية على مدى أكثر من 15 عاماً. نجاح لم يكن وليد الصدفة، ولا نتاج جيل ذهبي مؤقت، بل ثمرة مشروع وطني متكامل بدأ منذ عام 2008، حين أطلق العاهل المغربي الملك محمد السادس رؤيته الطموح في المناظرة الوطنية حول الرياضة بمدينة الصخيرات، محدداً ملامح طريق طويل جعل من كرة القدم قاطرة للتنمية، ومكوناً أساسياً في بناء الهوية الوطنية الحديثة.
وفي حديث خاص لـ«الشرق الأوسط»، أوضح الصحافي المغربي إبراهيم شخمان أن البداية الحقيقية للتحول كانت مع توجيهات ملكية واضحة تُركز على بناء قاعدة صلبة للعبة، من خلال الاستثمار في البنية التحتية والتكوين، فكانت «أكاديمية محمد السادس الدولية» لكرة القدم حجر الأساس، تلتها أكاديميات الأندية المحلية، وبرامج تكوين احترافية للمدربين والإداريين.
وأضاف أن الرؤية لم تقتصر على الجانب الفني فحسب، بل شملت أيضاً الحوكمة الجيدة داخل الاتحاد المغربي لكرة القدم، وهو ما أرسى دعائم عمل مؤسساتي منظم ومستدام.
وأشار شخمان إلى أن أحد أسرار هذا النجاح يكمن في «خلية الكشافين» التابعة للاتحاد المغربي المنتشرة في أوروبا، التي تقوم بعمل دؤوب لاكتشاف المواهب المغربية المهاجرة في دول مثل فرنسا وهولندا وبلجيكا وإسبانيا وألمانيا وإيطاليا. هؤلاء الكشافون يُشكّلون اليوم صداعاً حقيقياً للاتحادات الأوروبية التي تخسر المواهب مزدوجة الجنسية لصالح المغرب؛ لأن الروابط العائلية والوجدانية للمغاربة في المهجر تظل قوية، وهو ما يُسهل عملية استقطابهم للمنتخبات الوطنية. وتُدمج هذه المواهب أوروبية المنشأ مع خريجي الأكاديميات المحلية في تركيبة متجانسة، تُمثل اليوم أحد أكثر المنتخبات تنوعاً وقوة في القارة الأفريقية.
ويقول شخمان: «اليوم نحصد ثمار عمل مؤسساتي بدأ منذ سنوات، قائم على التخطيط والاستمرارية، لا على الصدف أو الحملات الموسمية». ويرى أن اعتماد المغرب على الأجهزة الفنية الوطنية كان خطوة حاسمة في طريق الاستقلال الكروي، إذ أثبتت التجربة أن المدرب المغربي الأقرب لفهم اللاعب المغربي نفسياً وثقافياً.
وأوضح أن للمدربين المغاربة نوعين رئيسيين: الأول هم أبناء الجالية الذين تكونوا في أوروبا لاعبين ثم مدربين، مثل وليد الركراكي المدير الفني للمنتخب الأول، ومحمد وهبي مدرب منتخب الشباب. أما النوع الثاني، فهم مَن نشأوا في المغرب، ثم احترفوا في أوروبا لاحقاً، وتلقوا تكويناً فنياً متقدماً، مثل طارق السكتيوي المتوّج ببرونزية أولمبياد باريس وبطولة أفريقيا للمحليين. كلتا الفئتين تجمع بين الفهم العميق للعقلية الأوروبية والانتماء للبيئة المغربية، وهو ما يمنحهما قدرة فريدة على التعامل مع لاعبين مختلفي الخلفيات والتكوين.
ويُضيف شخمان أن الاتحاد المغربي تبنّى هذا النهج بدعم من برامج التكوين القارية التي يُشرف عليها الاتحاد الأفريقي والـ«فيفا»، ما أسهم في إيجاد جيل جديد من المدربين المحليين المؤهلين علمياً ومهنياً. «الثقة بالمدرب المغربي أصبحت جزءاً من الهوية الكروية الجديدة للمغرب»، يقول شخمان، موضحاً أن هذه الثقة ليست شعاراً بل ثمرة عمل علمي طويل الأمد أسفر عن قيام «مدرسة مغربية» في التدريب تجمع بين الواقعية والطموح والجرأة.
أما على مستوى الهوية الفنية، فيؤكد شخمان أن المدرسة المغربية الكروية تميّزت بقدرتها على الجمع بين المهارة التقنية الأفريقية والانضباط التكتيكي الأوروبي، وهي توليفة نادرة في المنطقة. فاللاعب المغربي اليوم يتلقّى تكويناً أكاديمياً حديثاً، سواء في «أكاديمية محمد السادس» أو الأندية المحلية أو الأوروبية، ويُحضّر ذهنياً وبدنياً للتعامل مع أعلى مستويات التنافس.
ويرى أن النجاح الحالي ليس وليد جيل ذهبي فحسب، بل نتيجة عمل مؤسساتي طويل المدى صادف ظهور جيل موهوب. «نعيش اليوم تلاقي مشروع وطني مستمر مع جيل موهوب تربّى في بيئة احترافية. حين يفوز منتخب الشباب بكأس العالم، أو يُحقق منتخب الكبار إنجازات عالمية، فذلك ليس صدفة، بل امتداد لمسار بدأ منذ تأسيس الأكاديمية، واستمر عبر كل الفئات».
ويختتم شخمان قائلاً: «ما يميز المدرسة المغربية عن نظيراتها في العالم العربي هو فلسفة التكوين المنفتحة على التجريب والتطور، من دون التفريط في الهوية. فالمدرب المغربي يعيش تجربة متكاملة؛ إذ لعب في الخارج وتكوَّن فيه، ثم عاد ليقود منتخبه الوطني. وهذا ما يجعله يفكر بعقلية أوروبية، لكنه يحتفظ بروح اللاعب المغربي: الشغف، والذكاء الميداني، والقدرة على التكيف».
وتابع: «المدرسة المغربية تؤمن بأن التدريب ليس نقل أفكار جاهزة، بل بناء نموذج محلي ناجح؛ لذلك، أصبحنا نصدّر مدربين مغاربة ينجحون في الخارج (جمال السلامي والحسين عموتة مع الأردن مثلاً) تماماً كما نصدر لاعبين محترفين في الدوريات الكبرى)».

