كانت أول ليلة لأندريس إنييستا في أكاديمية «لا ماسيا» الشهيرة، واحدة من أسوأ ليالي حياته.
كان عمره 12 عاماً فقط، انتُزع من قريته الصغيرة «فونتيالبيا» (عدد سكانها 2400 نسمة فقط) في جنوب إسبانيا، ومن حضن عائلته التي لم يفارقها يوماً. وجد نفسه وحيداً، على بُعد مئات الأميال من البيت.
وبحسب شبكة «The Athletic»، فقد كان إنييستا يحقق حلمه... لكن التجربة تركت أثراً غائراً. يصفها بأنها كانت «صدمة»، وأن ذلك الانتقال «أثّر عليه»، وربما كان عاملاً لاحقاً في إصابته بالاكتئاب في ذروة مجده الكروي، حتى وإن كانت الأمور «عادت إلى طبيعتها» فيما بعد.
اليوم، وقد بلغ 41 عاماً، اعتزل إنييستا كرة القدم في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، لكنه لا يزال يستخدم «المضارع» حين يتحدث عن اللعبة، «ربما لأنك لا تتوقف أبداً عن كونك لاعباً»، وربما لأنه لم يستوعب بعد تماماً فكرة أنه لن يخوض مباراة رسمية ثانية.
يقول: «أظن أنني سأشعر بالحنين طوال حياتي. أفتقد اللعبة. لكنك تدرك أن كرة القدم ليست الـ90 دقيقة فقط... بل كل ما يتطلبه الوصول إليها. في النهاية، هذا ما يرهقك».
يمر هذا الخريف عام كامل على حياة إنييستا الجديدة، ولا يبدو من قبيل الصدفة أن برشلونة «يكرّمه» بطريقة غير مباشرة عبر رحلاته في دوري الأبطال.
مباراته الجنونية مع كلوب بروج 3 - 3 جاءت في نفس الملعب الذي شهد أول ظهور له بقميص برشلونة عام 2002. واليوم، يزور «ستامفورد بريدج»... حيث سجّل أحد أهم أهداف مسيرته، ذلك الصاروخ في نصف نهائي 2009 الذي حمل برشلونة إلى النهائي قبل أن يحقق ثلاثية غوارديولا الأولى.
إنييستا اسمٌ ملتصق بغوارديولا، وتشافي، وبوسكيتس... بثلاثي صنعت كوّنياً لا يُنسى. فاز بكل شيء: 9 دوري، 6 كأس ملك، 4 دوري أبطال، يورو 2008 و2012، وكأس العالم 2010. وفي مونديال جنوب أفريقيا كان هو صاحب هدف البطولة، ذاك التسديد الخالد في شباك هولندا.
يضحك إنييستا حين يُذكر اسم «الكرُوكيتا».
حركة مراوغته الشهيرة: الكرة تنتقل من قدم لقدم بسرعة تجعلها تبدو كقطعة «كرُوكيتا» تتدحرج في مقلاة ساخنة.
يقول: «لاعباي المفضلان كانا غوارديولا ومايكل لاودروب. مراوغة لاودروب ألهمتني. كنت أجرّبها في التدريب، ثم في المباريات... ومع الوقت أصبحت جزءاً من لعبي».
قبل وصوله إلى برشلونة، كان يلعب كمحور دفاعي. وفي بداياته مع الفريق الأول لعب هناك أيضاً. كان يرى الملعب بعين قائد... لكن جسده لم يكن قد لحق بعد بمستوى الكرة الحديثة.
تغيّر مركزه كثيراً. ريكارد وضعه جناحاً، وغوارديولا أعاده إلى قلب الوسط، إلى حيث ينتمي، إلى جوار تشافي وبوسكيتس... هناك وُلد واحد من أعظم لاعبي خط الوسط في تاريخ كرة القدم.
ورغم أن البعض داخل النادي كان يعتقد أن تشافي وإنييستا لا يمكن أن يلعبا معاً أساسيين؛ لأن الفريق «يفتقد القوة الجسدية»، فإن الفكرة الآن تبدو سخيفة.
العلاقة «التلغرافية» مع تشافي، هل يمكن تدريب ذلك التفاهم الأسطوري بينهما؟
يجيب إنييستا: «مثلما تعيش مع شخص، يعرف أحدكما الآخر مع الوقت. تعرف تحركاته، ما يفضّله، ما يتجنّبه. وتشافي وبوسكيتس من أذكى من لعب اللعبة، وهذا يجعل الفهم أسهل بكثير».
ويضيف: «كنا نُطوّر بعضنا في كل شيء. عندما تعرف أن زميلك سيمرر لك في اللحظة المثالية، وفي المكان المثالي، تصبح لاعباً أفضل. كل لحظة تعليم. كل يوم تتعلم شيئاً جديداً».
كانا يتحركان كـ«مغناطيسين»، وكأن بينهما خيطاً غير مرئي.
كيف حوّل الثلاثي «قصر القامة» إلى أفضلية؟
يُسأل إنييستا: كيف تغلبتم على الفرق الأقوى جسدياً؟
فيرد: «الأمر يتعلق بالتوازن. لم يكن كل الفريق طوله 1.70م. نحن عرفنا نقاط قوتنا. كرة القدم ذكاء؛ أن تعرف ماذا تفعل وكيف تفعله. اخترنا أسلوباً يبرز ما نجيده... ونجح لأنه منحنا النتائج».
أهدافه... قليلة ولكن خالدة، سجّل 57 هدفاً فقط لبرشلونة، و13 مع المنتخب... لكن بعضها من الأكثر أسطورية في التاريخ.
مثل هدفه أمام بلجيكا عام 2008، حين مرر فابريغاس له الكرة، راوغ بـ«كرُوكيتا»، ونفّذ «كُبري» على الحارس.
يقول: «من أجمل أهدافي. الحركة، المساحة الضيقة، تمرير الكرة من بين قدمي الحارس... كان كل شيء مثالياً».
ثم يأتي هدف تشيلسي 2009: «كانت المباراة ضائعة. تذكرت أنني ركضت إلى حدود المنطقة لعل الكرة ترتد. ثم وصلت إلى ميسي، وعندما خرج إليه مدافعو تشيلسي، تركوني لحظة... كانت تلك اللحظة هي كل شيء. التسديدة ذهبت إلى المكان الوحيد الممكن. أمام حارس طوله متران... كان مستحيلاً تقريباً».
وبالطبع... هدف نهائي كأس العالم 2010: «كنت أقول لنفسي: يجب أن نتجنب ركلات الترجيح... بأي ثمن. عندما لعب توريس الكرة ثم فابريغاس، كنت جاهزاً. كنت أنوي لعب كرة عرضية، لكن انتهى بي الأمر إلى أن أسجّل. وكان الأمر رائعاً، أليس كذلك؟».
احتفل بتيشيرت أبيض كتب عليه: «داني خاركي، دائماً معنا» تكريماً لصديقه الذي رحل فجأة عام 2009... في نفس الفترة التي كان فيها إنييستا يغرق في اكتئاب صامت.
عن محنته النفسية يتحدث بأمانة: «كنت في القاع تماماً. مجرد حضور التدريب كان صعباً. لكنني أجبرت نفسي، حتى لو لـ10 دقائق. كانت تلك الدقائق حبّات رمل تبني شيئاً إيجابياً. بمساعدة كثيرين، تجاوزت تلك الفترة. كانت أياماً قاسية جداً».
نبوءة غوارديولا
عام 1999، حين كان إنييستا قائداً لفريق الشباب، سلّمه غوارديولا كأس أفضل لاعب في البطولة، وقال له كلمات لن ينساها: «بعد سنوات، سأكون في المدرجات أشاهدك تفعل مع الفريق الأول ما فعلته اليوم».
يقول إنييستا: «أحتفظ بقميص يحمل تلك الكلمات. أحد أكثر لحظات حياتي قيمة. تخيّل: بعد سنوات يصبح قدوتك هو مدربك... ثم يحدث كل ما حدث».
وكلمة فيرجسون التي لم ينسها، قبل نهائي 2009، قال السير أليكس: «لست مهووساً بميسي... إنييستا هو الخطر الحقيقي».
حين يسمعها الآن... يبتسم: «لقد أحببت كرة القدم... بكل ما فيها».

