شكلت نسبة الأهداف التي سجلت في الجولات الأولى من دوري المحترفين السعودي هذا الموسم، علامة فارقة ليس فقط على صعيد تاريخ البطولة، بل على النطاق العالمي، حيث تصدر هذا الدوري معظم الدوريات الأوروبية الكبرى «تهديفياً».
فبعد مرور 6 جولات فقط، اهتزت الشباك 165 مرة، أي بمعدل يقارب 27.5 هدف في كل جولة، وهو رقم يعكس التغير الهجومي الكبير الذي طرأ على ملامح اللعبة في الملاعب السعودية خلال السنوات الأخيرة.
كانت الجولة الخامسة الأجمل والأكثر سخاءً تهديفياً، حين شهدت تسجيل 40 هدفاً في أسبوع واحد فقط، وهو مشهد لم يكن مألوفاً قبل أعوام حين كانت المباريات تُحسم بهدف يتيم أو تعادل سلبي يُخمد حماسها.
لكن سرعان ما جاءت الجولة السادسة لتعيد التوازن قليلاً، بعدما انخفض عدد الأهداف إلى 16 هدفاً فقط، وهو المعدل الأدنى منذ انطلاق الموسم. ومع ذلك، ظل المعدل العام مرتفعاً، وترك انطباعاً واضحاً بأن الدوري السعودي يسير في اتجاه هجومي بحت.
وعند مقارنته بأكبر خمس دوريات في أوروبا، بدا المشهد مثيراً للدهشة. وحده الدوري الألماني تفوّق رقمياً على نظيره السعودي بإجمالي 175 هدفاً بعد مرور 6 جولات، محتفظاً بسمعته كأكثر دوريات القارة متعة من حيث التسجيل والانفتاح التكتيكي.
أما الدوري الإسباني فجاء ثالثاً بـ162 هدفاً، متقدماً على الدوري الإنجليزي الممتاز الذي سجل 157 هدفاً في الفترة نفسها.
خلف هؤلاء، حلّ الدوري الفرنسي في المركز الخامس بإجمالي 152 هدفاً، بينما ظلّ الدوري الإيطالي وفياً لمدرسته الدفاعية القديمة، مسجلاً 143 هدفاً فقط ليحتل المرتبة الأخيرة في الغزارة التهديفية.
تلك الأرقام تعني ببساطة أن الدوري السعودي بات في مصافّ الدوريات الأكثر تهديفاً في العالم.
وبمعدل 2.75 هدف في المباراة الواحدة، تجاوز الدوري المحلي معظم الدوريات الأوروبية الكبرى.
ففي إنجلترا يبلغ المعدل 2.62 هدف، وفي إسبانيا 2.70 هدف، بينما يحافظ الدوري الألماني على الريادة بمعدل 2.92 هدف. أما الدوري الفرنسي فيسجل 2.57 هدف، ويظلّ الإيطالي الأقل إنتاجاً بـ2.38 هدف في المباراة.

هذه المقارنة الرقمية لا تبدو مجرد مصادفة، بل هي انعكاس مباشر لعدة تحولات شهدتها اللعبة في السعودية خلال المواسم الأخيرة. فالتغييرات العميقة في البنية الرياضية، واستقطاب الأندية الكبرى لمهاجمين من طراز عالمي، ساهما في رفع جودة المباريات ومستوى الفاعلية أمام المرمى.
ويُضاف إلى هذا التطور الهجومي البارز أن الملاعب السعودية باتت مسرحاً لتجارب تكتيكية متباينة، بين من يراهن على الضغط المتواصل وبين من يفضّل أسلوب البناء الهادئ والتمريرات القصيرة، ما خلق تنوعاً في طرق التسجيل، من الكرات الثابتة إلى الهجمات الخاطفة إلى الأهداف الجماعية التي تنتهي بلمسة فنية عالية. كل ذلك جعل من مشاهدة مباريات الدوري تجربة أكثر غنى وإمتاعاً، سواء للجمهور المحلي أو للمشاهد الأجنبي الذي بات يتابع البطولة عبر القنوات العالمية.
ومع هذا الصعود اللافت، يذهب بعض المحللين إلى القول إن الدوري السعودي يسير بخطى ثابتة ليصبح «البوندسليغا» الجديد في العالم العربي؛ أي الدوري الذي يجمع بين التنظيم والسرعة والمتعة. فبعدما كان التركيز في الماضي على الدفاع الصلب وإغلاق المساحات، بات الطابع الهجومي هو العنوان العريض للمرحلة الجديدة. وبدلاً من البحث عن نقطة التعادل، تسعى الأندية الآن إلى تحقيق الانتصار بأكبر عدد ممكن من الأهداف، إدراكاً منها أن الجماهير باتت تبحث عن المتعة قبل النتيجة.
واللافت أن هذه الطفرة التهديفية لم تأتِ على حساب التوازن العام للدوري. فالمباريات لا تزال محتدمة، والمنافسة على المراكز الأولى متقاربة، لكن الفارق أن كرة القدم السعودية أصبحت أكثر جرأة في الأسلوب، وأكثر انفتاحاً على المغامرة الهجومية.
وبينما تستمر الدوريات الأوروبية الكبرى في محاولاتها لإعادة الحيوية إلى مبارياتها عبر تعديلات تنظيمية أو مالية، يبدو أن الدوري السعودي حقق ذلك تلقائياً من خلال مزيج من المواهب، والاستثمارات، والشغف الجماهيري المتزايد.
ومع مرور الجولات المقبلة، يبدو أن هذا المعدل التهديفي لن يكون ظاهرة عابرة بل عنواناً لموسم يُتوقع أن يكون من الأكثر إثارة في تاريخ الدوري السعودي للمحترفين، حيث لا يكتفي الجمهور بالنتيجة، بل ينتظر كل أسبوع حفلاً جديداً من الأهداف والإبداع الفني.
وفي زمنٍ تتراجع فيه المتعة في بعض الدوريات الأوروبية خلف الانضباط التكتيكي، يظهر الدوري السعودي كأحد الاستثناءات القليلة التي ما زالت تمنح كرة القدم معناها الأصيل «الهجوم، والجرأة، والبحث الدائم عن الشباك».


