فتح إعلان السعودية أخيراً عن إرسال رائدي فضاء سعوديين إلى محطة الفضاء الدولية خلال الربع الثاني من العام الحالي، إحداهما سيدة، في خطوة هي الأولى من نوعها، باب التساؤلات حول توجهات السعودية الجادة نحو الاستفادة من اقتصاد الفضاء باعتباره قطاعاً مستقبلياً عملاقاً تتقاطع فيه رؤى عالمية نحو الاستدامة والتكنولوجيا.
وأعلنت السعودية إنشاء «المجلس الأعلى للفضاء» برئاسة ولي العهد، وتعديل هيئة الاتصالات لتكون تحت اسم «هيئة الاتصالات والفضاء والتقنية» ليكثر معه الحديث عن الاستثمارات والصناعات المتوقعة في هذا المجال، والعوائد المرجوة في المرحلة المقبلة على الناتج المحلي، والتي أشار إليها وزير الاتصالات وتقنية المعلومات في وقت سابق، بقوله إن التركيز سيكون على صناعة سوق الفضاء وتحفيز البحث والابتكار فيه، ومن ثم الانتقال نحو مرحلة تنظيمه وحوكمته.
هذا القرار وضع السعودية ضمن المبادرين لقيادة الفضاء الجديد وتبنِّي أنشطته الناشئة، كما أنه سيسهم في توفير البنية التحتية الداعمة لتمكين القطاع وازدهاره، في حين ستلعب الهيئة دوراً محورياً في استحداث التنظيمات والتراخيص والتنسيق والتعاون مع منظمي الفضاء محلياً وعالمياً، وبناء العلاقات مع الجهات الفاعلة في الصناعة، وتوفير الخبرات والقدرات التنظيمية الوطنية بالقطاع.
صنع الكفاءات
وأطلقت الهيئة السعودية للفضاء في سبتمبر (أيلول) الماضي، برنامج المملكة لرواد الفضاء، الذي يهدف لتأهيل كوادر وطنية متمرسة لخوض رحلات فضائية طويلة وقصيرة المدى، وكذلك يهدف البرنامج أيضاً إلى تأهيل رواد الفضاء السعوديين للمشاركة في التجارب العلمية والأبحاث الدولية والمهام المستقبلية المتعلقة بالفضاء.
ويرمي البرنامج للاستفادة من الفرص الواعدة التي يقدمها قطاع الفضاء وصناعاته عالمياً والإسهام في الأبحاث، التي تصبّ في صالح خدمة البشرية في عدد من المجالات ذات الأولية مثل الصحة والاستدامة وتكنولوجيا الفضاء.
وبعد أقل من 6 أشهر فقط، قالت وكالة الأنباء السعودية، الأسبوع الماضي، إن رائدة الفضاء ريانة برناوي، ورائد الفضاء علي القرني سينضمان إلى طاقم مهمة فضائية تنظمها «سبايس إكس» بهدف «بناء القدرات الوطنية في مجال الرحلات المأهولة لأجل البشرية، والاستفادة من الفرص الواعدة التي يقدمها قطاع الفضاء وصناعاته عالمياً».
وذكرت أنّ «الرحلة العلمية ستنطلق من الولايات المتحدة الأميركية إلى محطة الفضاء الدولية، بينما سيشارك كذلك كل من رائدي الفضاء السعوديين مريم فردوس وعلي الغامدي في التدريبات، من دون أن يكونا جزءاً من المهمة إلى الفضاء».
وهنا لا بد من الإشارة إلى أن الأمير سلطان بن سلمان بن عبد العزيز، هو أول رائد فضاء عربي شارك في رحلة للفضاء انطلقت من الولايات المتحدة أيضاً في عام 1985، لكنها المرة الأولى التي يشارك فيها سعوديان في رحلة إلى محطة الفضاء الدولية.
إعلان «ناسا»
وأعلنت وكالة «ناسا»، أخيراً، أنّ برناوي والقرني سيقلعان «في ربيع عام 2023» من مركز كيندي الفضائي في فلوريدا بالولايات المتحدة على متن صاروخ تابع لشركة «سبايس إكس» باتجاه محطّة الفضاء الدولية.
وأوضح بيان «ناسا» أنّه سيرافق رائدي الفضاء السعوديين في رحلتهما شخصان آخران هما بيغي ويتسون، وهي رائدة فضاء سابقة في «ناسا» ذهبت إلى محطة الفضاء الدولية ثلاث مرات حتى الآن وستتولّى قيادة المهمّة، في حين سيكون الشخص الرابع رجل الأعمال الأميركي جون شوفنر، لفترة 10 أيام.
توجه اقتصادي
وفي الجانب الاقتصادي فإن لغة الأرقام التي أشار إليه وزير الاتصالات السعودي عبد الله السواحة، بأن اقتصاد الفضاء تريليونياً على مستوى العالم، يؤكد ما ذهب إليه المختصون على أهمية القرار الذي جاء في وقت مهم للنهوض ودعم التجربة السابقة، خاصة مع تحويل المشروع إلى وكالة، الذي سيرفعه رئيس مجلس إدارة الهيئة السعودية للفضاء خلال الفترة المقبلة، وهذا يتوافق مع النسق الذي اتبعته السعودية في طرح البرامج والمشاريع التي تتوافق مع قدراتها المالية والبشرية في إيجاد صناعات تكميلية لهذا القطاع، وسوق متخصصة في عالم الفضاء.
اتفاقيات فضاء
وكانت السعودية من خلال الهيئة، أبرمت في وقت سابق العديد من الاتفاقيات والعقود منها اتفاقية «أرتميس» مع وكالة الفضاء الأميركية «ناسا»، للانضمام للتحالف الدولي في مجال الاستكشاف المدني واستخدام القمر والمريخ والمذنبات والكويكبات للأغراض السلمية، والتي تتضمن الانضمام للتحالف العالمي لعودة الإنسان مجدداً إلى القمر، والتي تدخل هذه الاتفاقية ضمن خطط السعودية للابتكار، التي جرى الإعلان عنها.
عناية حكومية
ويعطي ترؤس ولي العهد الأمير محمد بن سلمان لـ«المجلس الأعلى للفضاء» قيمة وقوة لهذا القطاع الحيوي، كما ذكر وزير الاتصالات وتقنية المعلومات أن «ترؤس ولي العهد للمجلس الأعلى للفضاء هو رسالة واضحة لما يمثله القطاع من أهمية استراتيجية كونه الاقتصاد التريليوني العالمي المقبل، والمحرك الأساسي لتحفيز الابتكار وإلهام الأجيال المقبلة»، فيما ستتركز أدوار «المجلس الأعلى للفضاء» على ثلاثة عوامل رئيسية تتمثل في اعتماد السياسات والاستراتيجيات لبرامج القطاع، والموافقة على خططه السنوية ومراقبة تنفيذ استراتيجيته الوطنية، وتحقيق التوافق مع مختلف القطاعات والاحتياجات الوطنية.
التحول السعودي
وقرار إنشاء المجلس جاء متوافقاً مع التحولات الصناعية والاقتصادية التي تعيشها السعودية مرتكزة في ذلك على الخطوات الأولية التي قامت بها الهيئة السعودية للفضاء منذ تأسيسها في عام 2018 والتي كان الهدف منها قراءة المستقبل في هذا القطاع، والتي نتج عنها إبرام اتفاقية في منتصف مارس (آذار) مع وكالة الفضاء البريطانية، للتعاون في مجال الاستخدام السلمي للفضاء الخارجي تهدف لتوفير إطار للتعاون في الأنشطة الفضائية، خاصة أن القرار جاء في إطار التكامل في التنظيم بين عالم الاتصالات والفضاء والتقنية منها الطيف الترددي، والشبكات غير الأرضية، وحجز المدارات، وشبكات الأقمار الصناعية، والتقنيات الناشئة الفضائية.
أقمار سعودية
وما بين أعوام 2000 و2019 تمكنت المملكة من إطلاق 16 قمراً صناعياً سعودياً إلى الفضاء بإشراف مدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية «كاكست» سُجل آخرها القمر السعودي للاتصالات «SGS1» الذي أطلِق في 6 فبراير (شباط) 2019 حاملاً توقيع الأمير محمد بن سلمان بن عبد العزيز ولي العهد السعودي، الذي كتب عليه عبارة «فوق هام السحب».
ويعمل القمر السعودي (SGS1) على خدمة قطاع الاتصالات الفضائية الحديثة المتعددة التي تشمل اتصالات النطاق العريض والاتصالات العسكرية الآمنة، وتوفير الاتصالات للمناطق شبه النائية والمناطق المنكوبة لاستخدامها في شتى مجالات التنمية المستدامة مثل: تطبيقات (اتصالات النطاق العريض عالي السرعة، والاتصالات الآمنة للجهات الحكومية) وسيتم تشغيل وإدارة القمر من خلال محطات تحكم أرضية متطورة في المملكة.
خريطة دولية
ويرى الدكتور فيصل آل فاضل، عضو مجلس الشورى السعودي، أن قرار إنشاء المجلس الأعلى للفضاء، يأتي ضمن القرارات التي اتخذتها السعودية في المجالات الاقتصادية والاجتماعية كافة، التي تهدف في مجملها إلى وضع السعودية في موقعها الطبيعي على الخريطة الدولية في العلوم والاقتصاد والسياسة، وهذه الفروع الثلاثة تعتمد على ركيزتين؛ الكوادر، والاستراتيجية التي تبنيها الدول للوصول إلى مبتغاها وتحقيق أهدافها، وهو ما عملت عليه السعودية منذ سنوات عدة، وتسير في هذا النهج للوصول إلى القمة.
وشدد آل فاضل على قوة المجلس، التي يستمدها من ترؤس ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، وعلى التجربة السابقة في شكل الهيئة، وهذان عاملان يدعمان التوجه السعودي في تكثيف قدراتها العلمية والأبحاث في هذا القطاع، إضافة إلى الجانب الاستثماري، الذي ستكون له عوائد كبيرة على الاقتصاد السعودي على المستوى المنظور والبعيد، خاصة أن هذا القطاع تخرج من رحمه مجموعات قطاعات وخدمات مساندة تزيد في التنوع الاقتصادي، موضحاً أن التقديرات تشير إلى أن حجم الاستثمار في هذا القطاع يتجاوز 2 تريليون.
عشرون شركة
وتعمل هيئة الفضاء، حالياً، على استقطاب 20 شركة ناشئة في مجالات سياحة الفضاء والاستكشاف واتصالات الأقمار الصناعية والتصوير الفضائي، وصقل مهاراتهم في تنظيم المشاريع، وفهم عملائهم المستهدفين بشكل أفضل، كما سيمكنهم البرنامج من العمل والتواصل مع موارد عالمية عالية المستوى لتعزز فرص نجاحهم، وذلك بالشراكة مع «Techstars» التي تعد شركة استثمارية عالمية توفر الوصول إلى رأس المال، والإرشاد الفردي، وشبكة عالمية، وبرمجة مخصصة لرواد الأعمال في المراحل المبكرة.
اقتصاد الفضاء
وتشير تقارير إلى أن عالم الفضاء رحب، ويمثّل قوة اقتصادية للدول في تفرعاته، التي تشمل تطوير وتوفير المنتجات والخدمات الفضائية للمستخدمين النهائيين، كما أنه يشكل سلسلة طويلة من القيم المضافة من الجهات الفاعلة في البحث والتطوير من خلال الشركات المصنعة للأجهزة والمعدات الفضائية، إلى مقدمي المنتجات والخدمات الفضائية التي يتم تقديمها للمستخدمين النهائيين.
ووفق تقرير ستانلي مورغان لعام 2018، يبلغ حجم اقتصاد الفضاء في العالم 360 مليار دولار، بينما من المتوقع أن يصل إلى 1.1 تريليون دولار في عام 2040م و2.7 تريليون دولار بحلول عام 2050. يشكل حصة مجموعة العشرين النصيب الأكبر بنحو 92 في المائة منه. وبلغ اقتصاد الفضاء العالمي في عام 2018 ما يعادل 320 مليار دولار، مقسمة للإنفاق الحكومي بقيمة 66 مليار دولار، والإنفاق المدني قرابة 63 في المائة والإنفاق العسكري 3 في المائة.
وهنا يؤكد عضو مجلس الشورى آل فاضل، أن اقتصاد الفضاء مهم في الدخل المحلي لأي دولة، إذ تشير التقديرات لوجود تباين في حجم اقتصاد الفضاء بين دول مجموعة العشرين، حيث يبلغ متوسط الإنفاق الحكومي على برامج الفضاء في عام 2018 نحو 3.3 مليار دولار، في حين بلغ إجمالي الإنفاق الحكومي على القطاع في أكبر خمسة اقتصادات في الفضاء 87 في المائة من إجمالي الإنفاق الحكومي في بقية دول مجموعة العشرين، مؤكداً أن القطاع سيفتح مجالاً كبيراً في الوظائف بين الكوادر المتدربة ذات الاختصاصات الفنية المعقدة.
القطاع الخاص
يلعب القطاع دوراً محورياً في صناعة الفضاء وما يترتب عليه من عوائد مادية ونجاحات في تقوية هذا القطاع بالخدمات الأساسية والمساندة التي يحتاجها عالم الفضاء، إذ حقق - وفقاً لآخر الإحصائيات - عوائد ضخمة قوامها 254 مليار دولار شملت في مجملها 6 أنشطة رئيسية تضمنت خدمات وتطبيقات الاتصال عبر الأقمار الصناعية بنحو 36 في المائة، وشرائح وأجهزة استقبال للملاحة عبر الأقمار الصناعية 23 في المائة، كذلك معدات وأجهزة أرضية بنحو 23 في المائة، وتصنيع الأقمار الصناعية بـ9 في المائة، إضافة إلى تطبيقات الفضاء والاستشعار عن بعد، وخدمات إطلاق المركبات والرحلات الفضائية البشرية بنحو 5 في المائة لكل نشاط.
لذلك، فإن الفترة المقبلة حبلى بالكثير من التطورات في هذا القطاع، وستتسارع خطوات الاستفادة منه في مكوناته كافة، وسيهتم القطاع الخاص بالدخول فيه، وخاصة الشركات العاملة في مجال التقنية التي سيكون لها دور في مواكبة الطفرة الاقتصادية في عالم الفضاء، مما يفرض على السعودية حجز موقعها على خريطة الاقتصاد المحلي والدولي في هذا القطاع الواعد.