سياسات الصادق المهدي أبعدت السودان عن الغرب والجيران

وثائق الاستخبارات الأميركية كشفت عن أنه دفع ثمن الإطاحة بالنميري

الصادق المهدي (غيتي)
الصادق المهدي (غيتي)
TT

سياسات الصادق المهدي أبعدت السودان عن الغرب والجيران

الصادق المهدي (غيتي)
الصادق المهدي (غيتي)

عقب الإطاحة بالرئيس السوداني الأسبق جعفر نميري في أبريل (نيسان) من عام 1985، كانت هناك فترة فاصلة قصيرة في السودان، لم تتجاوز 14 شهرا، تولى السلطة خلالها مجلس عسكري انتقالي بقيادة الفريق عبد الرحمن سوار الذهب، قبل أن يسلم السلطة بدوره لحكومة منتخبة برئاسة الصادق المهدي ومجلس سيادة يرأسه أحمد الميرغني.
وبعد مرور نحو عامين على حكومة الصادق المهدي، تنبهت الاستخبارات المركزية الأميركية إلى أهمية تقييم فترة حكمه، فتم تكليف مجموعة من المحللين لتقديم تحليل لصناع القرار، حرصوا فيه على عدم تقديم أي توصيات أو نصائح، بل ترك المعلومات كما هي وإضافة بعض الخلفيات التي قد يجهلها صانع القرار الأميركي. وتستعرض «الشرق الأوسط» مضمون هذا التحليل إضافة إلى مضامين وثائق أخرى حواها ملف السودان في الفترة التي أزيح عنها ستار السرية من أرشيف الاستخبارات الأميركية.
بعد دراسة فترة الشهور الأولى من عهد الصادق المهدي، خرج محللو الاستخبارات الأميركية باستنتاجات تتمحور حول محاولة إثبات أن المهدي نهج سياسة مختلفة عن جعفر نميري أدت إلى نقل السودان من موالاة الغرب في السياسة الخارجية إلى وضع أقرب إلى الحياد، وأن هذه السياسة، أبعدت بلاده عن الغرب والدول المجاورة، كما كلفت السودان ثمنا باهظا على الصعيدين الخارجي والداخلي.
فعلى الصعيد الخارجي، اعتقدت وكالة الاستخبارات الأميركية، طبقا لما ورد في الوثيقة، أن سياسات المهدي أسفرت عن خسران بلده جزءا كبيرا من مساعدات داعميه التقليديين في الغرب؛ حيث إنهم خفضوا مساعداتهم العسكرية والاقتصادية بسبب طموحاته. لكن الوثيقة على غير عادة التحليلات الاستخبارية لم تدلل على صحة هذا الزعم بأرقام محددة عن حجم ما خسره السودان من معونات، كما لم توضح ما طموحات الصادق المهدي التي أجبرت الغرب على معاقبة بلاده. ورغم أن الوثيقة أوردت المهدي بصفته رئيسا للوزراء، فإنها تحدثت عنه كما لو أنه رأس الدولة، متجاهلة تماما الدور المناط برئيس مجلس السيادة أحمد الميرغني، وهو شريك أساسي في السلطة.

كلفة الحياد
فيما يتعلق بخسائر الصادق المهدي على الصعيد الداخلي فقد انعكس النقص في المساعدات الخارجية سلبا على نفوذ الصادق المهدي ومكانته داخليا؛ حيث أدى تدهور الأوضاع الاقتصادية للناس، إلى ارتفاع الأصوات المعارضة للمهدي التي وجدت في ذلك التدهور مادة خصبة لمهاجمة الصادق المهدي وحكومته وفقا لتقييم «سي آي إيه».
واعتقد المهدي - وفقا للوثيقة - أن سياسة الحياد الإقليمي مفيدة للحفاظ على حكمه وعلى أمن السودان في وسط إقليمي مضطرب. ومن بين الهموم الإقليمية للصادق المهدي، أن طموح القذافي هدد السودان في قلب الخرطوم، كما أن إيران قد تسعى لتسليح بعض الأطراف السياسية المتنافسة بما يشكل ذلك من خطورة نشوب صراع مسلح إضافي في السودان إلى الصراعات المسلحة القائمة. وفضلا عن ذلك، فإن السيادة السودانية على إقليم دارفور في غرب السودان مهددة إلى درجة تقلق الصادق المهدي، إضافة إلى أن متمردي حركة جون قرنق يمضون قدما في تحقيق مسارهم نحو الاستقلال عن الخرطوم.
ومن الواضح في الوثيقة أن وكالة الاستخبارات المركزية كانت غير مطمئنة لبقاء المهدي وتوقعت أن تتم الإطاحة به خلال أشهر قليلة، ولكن محلليها لم يعتبروا الإطاحة مدعاة للأسف عليه، بل أرادوا التعجيل بهذا الرحيل.
وتشير المعلومات الواردة في الوثيقة إلى أن الانطباع السائد وقتها عن حكومة المهدي أنها كانت على علاقة وطيدة مع الزعيم الليبي معمر القذافي على حساب مصر، غير أن المهدي يبرر ذلك بحرصه على عدم استعداء القذافي أو كما يقول: «تفاديا لشره وليس أملا في خيره».

بين ليبيا ومصر
وجزم المحللون أن الإطاحة بالمهدي ستتم العام المقبل، دون أي إشارة أو تلميح إلى أن الوكالة ستلعب دورا في ذلك. واكتفى التقرير بالقول إن الإطاحة بحكومة المهدي ستكون في صالح الولايات المتحدة والغرب لأن من سيأتي بعده، حسب جزم الوكالة في حينه، عسكريون، والعسكريون السودانيون بطبيعتهم عمليون وأكثر واقعية في تعاملهم مع الغرب.
وكون التحليل تم إعداده لصناع القرار باسم الوكالة فيمكن اعتبار ما ورد فيه معبرا عن وجهة نظر الوكالة بوصفها مؤسسة وليس رأي محلل فردي؛ ولهذا يمكن القول إن الوكالة عادت وأنصفت المهدي في الوثيقة ذاتها، حيث أشارت إلى أن الصادق المهدي يمكن اعتباره من قادة العالم الثالث، ويتمتع بقدر كبير من الثقة بنفسه.
وكشفت الوكالة عن معلومات لديها بأن أكثر ما يضايق الصادق المهدي التعالي الذي كانت تبديه الجارة مصر، وكأن السودان لا يزال تابعا لها، أو أنه يتحتم على السودان أن يمضي في فلك القاهرة أينما سارت. واعتقد المهدي، طبقا لما يقوله لمن كان حوله، أن من الأسباب التي أطاحت بجعفر نميري تبعيته الكاملة للسادات ولحسني مبارك من بعده، لكن وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية عابت على الصادق المهدي من جانبها اعتقاده أن من حقه أن يحكم أسرته ويحكم طائفته ويحكم السودان في آن واحد، ولمحت الوكالة إلى أن هذا الاعتقاد نابع من الإيمان بالحق الإلهي وهو ما يتنافى مع الواقعية السياسية.
ووصف خبراء الوكالة الصادق المهدي بأنه واسع الثقافة وذو مؤلفات وغزير المعرفة في التاريخ والأديان. وما لم يشر إليه التحليل أن الثقافة شيء والسياسة شيء آخر، لا يلتقيان بالضرورة ولا يفترقان بالضرورة. ويخلص التحليل إلى أن حكم المهدي لن يعمر لأنه أمام خيارات صعبة ولن يتمكن من الاستمرار في سياسة الحياد والبقاء في السلطة. وإذا كان الصادق المهدي يعتقد أن انحياز نميري قد أطاح به، فإن وكالة الاستخبارات المركزية بالعكس من ذلك، ترى أن حياد المهدي هو الذي سيطيح به.

جمعية الصحافيين السودانية
في تقرير آخر لافت، لكونه عن جمعية الصحافيين السودانية، وكان مختصرا لا يتجاوز الصفحتين، يبدو أن مصدره من السودان مرسل إلى واشنطن، وتحمل الوثيقة تاريخ 10 ديسمبر (كانون الأول)، ولكن العام لم يظهر في صورة الوثيقة المفرج عنها، وربما الأشخاص الواردة أسماؤهم في الوثيقة هم القادرون على معرفة العام الذي كتبت فيه.
يبدأ التقرير بإيراد معلومة أن الحكومة السودانية في إطار سعيها للسيطرة على جميع الصحف والدوريات الصادرة في البلاد، شجعت على تأسيس كيان للصحافيين السودانيين باسم جمعية الصحافيين ليكون الكيان بمثابة أداة غير مباشرة للحكومة لفرض الوصاية على الصحافة السودانية عن طريق قسم الصحافة في مكتب العلاقات العامة التابع للحكومة السودانية.
ويشير التقرير إلى أن شخصا باسم مايكل عيساوي كان يرأس قسم الصحافة في مكتب العلاقات العامة المشار إليه قبل أن ينتقل للقاهرة. أما جمعية الصحافيين السودانية فإنها تدار من قبل شخصيات سياسية أبرزهم: أحمد يوسف حازم رئيس الجمعية وهو كذلك ناشر صحيفة السودان الجديد، وكاتب ذائع الصيت في الصحافة السودانية وقت كتابة الوثيقة. أما الثاني فهو إسماعيل عتباني سكرتير الجمعية ومحرر صحيفة الرأي العام، وكان في السابق يرأس تحرير صحيفة صوت السودان. وتشير الوثيقة إلى أنه على الرغم من أن إسماعيل عتباني عضو في الحزب الاتحادي، فإنه تمكن من الحفاظ على موقف حيادي في الجمعية
وفي الفقرة الثانية من الوثيقة قائمة بأسماء أبرز الصحافيين الداعمين لجبهة الاستقلال وسياسات حزب الأمة وهم:
- عبد الرحيم أمين رئيس تحرير «النيل»، ثم انتقل إلى «الأمة»، ومحمد أحمد عمر، حل محل أمين في «النيل» وكان في السابق يرأس تحرير أسبوعية «الهادي»، ويوسف مصطفى تيناني، محرر سابق في «الأمة» وعضو في حزب الأمة، وعبد الله ميرغني سكرتير الحزب الاتحادي ورئيس تحرير «صوت السودان»، ومحمود فاضلي عضو حزب الأشقاء حتى منتصف عام 1948، ومكي عباس، صحيفة «الرائد»، ومحمد أمين بشير، «الأخبار»، وصالح عريبي، «التلغراف»، والفاتح النور، مجلة «كردفان»، وكمال ماجد، «يو إس بي يو»، وأمين رياض، «يو إس بي يو».
ومن غير المعروف ما سبب اهتمام وكالة الاستخبارات المركزية بهذه الأسماء، ولكن من المؤكد بشكل قاطع ألا أحد منهم يعمل مع الوكالة؛ لأنها في العادة تشطب أسماء المتعاونين معها ولا تسمح بظهور أسماء عملائها، حتى في الوثائق التي أزيح عنها ستار السرية. ومن الملاحظ في هذه الوثيقة ذاتها أن الوكالة عمدت إلى تسويد مصدر الوثيقة في صدر الصفحة الأولى لإخفائه ربما للأبد.

اهتمام أميركي بالوجود الفلسطيني في السودان
* تكشف الوثائق الأميركية المتعلقة بالسودان أن الاستخبارات المركزية كانت تبدي اهتمامًا كبيرًا بالوجود الفلسطيني في السودان، حيث إن السودان كان من ضمن الدول العربية التي اختيرت لاستضافة النازحين الفلسطينيين من لبنان بعد اجتياح إسرائيل لبيروت عام 1982.
وتحت عنوان: «معسكر محتمل للاجئي منظمة التحرير الفلسطينية بمدينة شندي السودانية»، تم إرسال تقرير سري في تلك الفترة إلى واشنطن من مصدر ذي صلة بالاستخبارات المركزية، من صفحة واحدة، جاء فيه:
1- معسكر ثان لاستقبال لاجئي منظمة التحرير الفلسطينية المنقول إلى السودان.
2- عنوان معسكر شندي المقرر استضافته لمقر منظمة التحرير الفلسطينية: «1 إن إم» غرب مدينة شندي، و«85 إن إم» شمال شرقي الخرطوم، ومن المتوقع أن يجري إخلاء المعسكر الأول بمدينة شندي والمخصص للاجئي منظمة التحرير الفلسطينية الكائن في «7 إن إم» جنوب شندي.
وتشير الرسالة المقتضبة إلى أن مشروع المعسكر الجديد لا يزال قيد الإنشاء ويتألف من خمسة مبان ثابتة، وثلاث خيام كبيرة، وثلاث خيام أخرى متوسطة، ونحو 180 خيمة صغيرة، غير أن الرسالة أكدت أن أربعة من تلك المباني الموجودة في المخطط الهندسي لم يبدأ مباشرة البناء فيها بعد، كما لم يتم نصب الخيام حتى الآن.
وأفادت الرسالة بأن فريق منظمة التحرير الفلسطينية بالسودان رفض الموقع المبدئي والمخصص لإعادة توطين لاجئيهم وأنه جرى تخصيص معسكر ثان داخل مرفق مخصص للأبحاث الزراعية بالقرب من مدينة شندي.

عمل سري في مجتمع حر
* رغم الإمكانات الكبيرة المتوفرة لوكالة الاستخبارات الأميركية فإن إلقاء نظرة فاحصة على معلومات محلليها عن الشأن السوداني تكشف عن مدى سطحية تلك المعلومات، أو في أحسن الأحوال يمكن وصفها بأنها لا تتناسب مع التوقعات بأن الوكالة لديها مخزون ثري من المعلومات والأسرار غير المعروفة.
ولكن في المقابل، ماذا عساها أن تعرف أكثر مما يعرفه المواطن السوداني، أو رجل الشارع الذي تصل إليه الأسرار أولا بأول دون تأخير. فمن المعروف أن السودان بطبيعته بلد مفتوح اعتاد مواطنوه على التعامل مع قضايا بلدهم بشفافية متناهية، فضلا عن أن العمل السياسي في السودان في كل العهود يجري على المكشوف، لا مجال فيه للخبايا والخفايا.
ومن الواضح أن وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية لم تهمل متابعة قضايا بلد في حجم قارة بأكملها، هو السودان، فقد كانت التقارير من حيث الكم كثيرة جدًا، ولكنّ محللي الوكالة لم يكن يسمح لهم بالنزول الميداني لاستشراف المعلومات من منابعها، فأثبتت مضامين التقارير أن محللا يجلس على مكتب وثير في لانغلي بولاية فرجينيا (المقر الرئيسي لوكالة الاستخبارات الأميركية)، سوف يصعب عليه أن يلم بأوضاع بلد متنوع الثقافات مثل السودان.
ومع ذلك فإن تقارير «سي آي إيه» عن السودان يمكن أن تكون مدخلا لتقييم مراحل عديدة من تاريخ السودان المعاصر، ويمكن لأصحاب الأسماء الواردة في كل تقرير من تقارير الاستخبارات الأميركية ممن لا يزالون على قيد الحياة، إثراء الموضوعات والفترات التاريخية التي تطرقت إليها التقارير بالمزيد من النقاش والتفنيد للمحتويات خصوصًا ما كان منها مثيرًا للجدل.
ومع إدراكنا لوجود قصور في معلومات الوكالة عن الشأن السوداني فإن العديد من التحليلات تستحق القراءة والتأمل، ومن بينها الوثائق التي رأينا تلخيصها وإبراز جزء من محتوياتها بالقدر الذي تسمح به مساحة الصفحة.



كيف أرضى السوريون ذائقة المصريين... وأثاروا قلقهم

عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)
عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)
TT

كيف أرضى السوريون ذائقة المصريين... وأثاروا قلقهم

عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)
عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)

فيما كانت الستينية كاميليا محمود تعبر بسيارتها أحد شوارع مدينة نصر بالقاهرة، لفتتها مطاعم كثيرة تزدحم واجهاتها بمواطنين اصطفوا لشراء «ساندويتش شاورما»، ما أثار لديها تساؤلات حول انتشار المطاعم السورية «بهذا الشكل المبالغ فيه»، على حساب نظيراتها المصرية، مبدية مخاوفها من «هيمنة اقتصادية سورية قد يكون لها تبعات أكبر في المستقبل».

كاميليا، التي كانت تعمل موظفة بإحدى شركات القطاع الخاص قبل بلوغها سن التقاعد، رصدت خلال السنوات العشر الأخيرة انتشاراً كبيراً للمطاعم السورية في مختلف الأحياء والمدن المصرية لا سيما مدينة 6 أكتوبر (غرب القاهرة) حيث تقطن. لم تستغرب الأمر في البداية، بل على العكس كان حدثاً جاذباً، ولو بدافع استكشاف ما تقدمه تلك المطاعم من نكهات جديدة وغير معتادة في المطبخ المصري، من الشاورما إلى الدجاج المسحب والكبة وغيرها.

صبغة شامية

خلال أكثر من عقد من الزمان، منذ تكثف التوافد السوري على مصر، زاد عدد المطاعم التي تقدم مأكولات سورية، لدرجة صبغت أحياءً بكاملها بملامح شامية، لا تُخطئها العين، ليس فقط بسبب أسياخ الشاورما المعلقة على واجهاتها، ولا الطربوش أو الصدرية المزركشة التي تميز ملابس بعض العاملين فيها، بل بلافتات تكرس هوية أصحابها وتؤكد ارتباطهم بوطنهم الأم، فعادة ما تنتهي أسماء المطاعم بكلمات من قبيل «السوري»، «الشام»، «الدمشقي»، «الحلبي».

طوابير أمام أحد المطاعم السورية (الشرق الأوسط)

محاولات تكريس الهوية تلك «أقلقت» كاميليا وغيرها من المصريين ممن باتوا يشعرون بـ«الغربة» في أحياء مثل «6 أكتوبر»، أو «الرحاب (شرق القاهرة)» التي باتت وكأنها «أحياء سورية وسط القاهرة». وتتساءل كاميليا في حديثها لـ«الشرق الأوسط»: «ألا يقتطع وجود السوريين من حصة المصريين في سوق العمل؟ ألا يشكل وجودهم خطراً سياسياً لا سيما مع هيمنة اقتصادية في قطاعات عدة؟».

بين «العشق» و«القلق»

رغم مشاعر القلق والغربة، فإن السيدة لا تخفي «عشقها» للمأكولات السورية. فهي تحرص بين الحين والآخر على الذهاب مع أسرتها لأحد تلك المطاعم، مستمتعة بنكهات متنوعة من أطباق «الشاورما والفتوش والكبة وغيرها». فـ«الطعام السوري لذيذ ومتنوع وخفيف على المعدة، وله نكهة مميزة»، وبات بالنسبة لها ولغيرها «عنصراً مضافاً على المائدة حتى داخل المنزل». وبالطبع لا يمكن لكاميليا إغفال «جودة الضيافة»، لا سيما مع كلمات ترحيبية مثل «تكرم عينك» التي تدخل كثيراً من البهجة على نفسها كما تقول.

حال كاميليا لا يختلف عن حال كثير من المصريين، الذين غيرت المطاعم السورية ذائقتهم الغذائية، وأدخلت النكهات الشامية إلى موائدهم عبر وصفات نشرتها وسائل إعلام محلية، لكنهم في نفس الوقت يخشون تنامي الوجود السوري وتأثيره على اقتصاد بلادهم، الأمر الذي بات يُعكر مزاجهم ويحول دون استمتاعهم بالمأكولات الشامية.

ومع موافقة مجلس النواب المصري، الثلاثاء الماضي، على مشروع قانون لتنظيم أوضاع اللاجئين، تزايدت حدة الجدل بشأن وجود الأجانب في مصر، لا سيما السوريون، وسط مخاوف عبر عنها البعض من أن يكون القانون «مقدمة لتوطينهم»، ما يعني زيادة الأعباء الاقتصادية على البلاد، وربما التأثير على حصة المواطن المصري في سوق العمل وفق متابعين مصريين.

مجلس النواب المصري وافق على مشروع قانون لتنظيم أوضاع اللاجئين (الشرق الأوسط)

تزايد عدد السوريين في مصر خلال العقد الأخير عكسته بيانات «المفوضية الدولية لشؤون اللاجئين» حيث ارتفع عدد السوريين المسجلين في مصر لدى المفوضية من 12800 في نهاية عام 2012 إلى أكثر من 153 ألفاً في نهاية عام 2023، ليحتلوا المرتبة الثانية بعد السودانيين ضمن نحو 670 ألف لاجئ وطالب لجوء مسجلين لدى المفوضية من 62 جنسية مختلفة.

جاءت هذه الزيادة مدفوعة بالحرب السورية، ودفعت مواطنيها إلى دول عدة، بينها مصر، لتبدأ المفوضية في تلقي طلبات اللجوء منذ عام 2012، مؤكدة دعمها «الفارين من أتون الحرب».

ومع ذلك، لا تعكس البيانات التي تقدمها مفوضية اللاجئين العدد الحقيقي للسوريين في مصر، والذي تقدره المنظمة الدولية للهجرة، بنحو 1.5 مليون سوري من بين نحو 9 ملايين مهاجر موجودين في البلاد.

لكن التقدير الأخير لا يُقره الرئيس السابق لرابطة الجالية السورية في مصر، راسم الأتاسي، الذي يشير إلى أن «عدد السوريين في مصر لا يتجاوز 700 ألف، ولم يصل أبداً لمليون ونصف المليون، حيث كان أعلى تقدير لعددهم هو 800 ألف، انخفض إلى 500 ألف في فترة من الفترات، قبل أن يعود ويرتفع مؤخراً مع تطورات الوضع في السودان». وكان السودان عموماً والخرطوم خصوصاً وجهة لكثير من السوريين عقب 2011 حيث كانوا معفيين من التأشيرات وسمح لهم بالإقامة والعمل حتى 2020.

دعوات مقاطعة

تسبب الوجود السوري المتنامي في مصر في انطلاق حملات على مواقع التواصل الاجتماعي بين الحين والآخر تنتقد السوريين، من بينها الدعوة لمقاطعة أحد المطاعم بسبب إعلان عن ساندويتش شاورما بحجم كبير، قال فيه مخاطباً الزبائن: «تعالى كل يا فقير»، مثيراً غضب مصريين عدوا تلك الجملة «إهانة».

حملات الهجوم على السوريين، وإن كانت تكررت على مدار العقد الماضي لأسباب كثيرة، لكنها تزايدت أخيراً تزامناً مع معاناة المصريين من أوضاع اقتصادية صعبة، دفعت إلى مهاجمة اللاجئين عموماً باعتبارهم «يشكلون ضغطاً على موارد البلاد»، وهو ما عززته منابر إعلامية، فخرجت الإعلامية المصرية قصواء الخلالي في معرض حديثها عن «تأثير زيادة عدد اللاجئين في مصر»، لتتساءل عن سبب بقاء السوريين كل هذه السنوات في بلادها، لا سيما أن «سوريا لم يعد بها حرب»، على حد تعبيرها.

وعزز تلك الحملات مخاوف من التمييز ضد المصريين في فرص العمل مع إعلان البعض عن وظائف للسوريين واللبنانيين والسودانيين فقط.

وانتقد رواد مواقع التواصل الاجتماعي المطاعم السورية باعتبارها «ليست استثماراً».

في حين طالب البعض بـ«إغلاق المطاعم السورية والحصول على حق الدولة من الضرائب»، متهماً إياهم بـ«منافسة المصريين بهدف إفلاسهم»، لدرجة وصلت إلى حد المطالبة بمقاطعة المطاعم السورية بدعوى «سرقتها رزق المصريين».

الهجوم على السوريين في مصر لا ينبع فقط من مخاوف الهيمنة الاقتصادية أو منافسة المصريين في فرص العمل، بل يمتد أيضاً لانتقاد شراء الأثرياء منهم عقارات فاخرة وإقامتهم حفلات كبيرة، وسط اتهامات لهم بأنهم «يتمتعون بثروات المصريين». وهو الأمر الذي يعتبره رئيس تجمع رجال الأعمال السوريين في مصر المهندس خلدون الموقع «ميزة تضاف للسوريين ولا تخصم منهم، فهم يستثمرون أموالهم ويربحون في مصر، وينفقون أيضاً في مصر بدلاً من إخراجها خارج البلاد»، بحسب حديثه لـ«الشرق الأوسط».

زحام لافت على مطعم سوري بشارع فيصل بالجيزة (الشرق الأوسط)

ووسط سيل الهجوم على المطاعم السورية تجد من يدافع عنهم، ويتلذذ بمأكولاتهم، باعتبارها «أعطت تنوعاً للمطبخ المصري».

كما دافع بعض الإعلاميين عن الوجود السوري، حيث أشار الإعلامي المصري خالد أبو بكر إلى «الحقوق القانونية للسوريين المقيمين في مصر»، وقال إن «أهل سوريا والشام أحسن ناس تتعلم منهم التجارة».

ترحيب مشروط

كان الطعام أحد الملامح الواضحة للتأثير السوري في مصر، ليس فقط عبر محال في أحياء كبرى، بل أيضاً في الشوارع، فكثيراً ما يستوقفك شاب أو طفل سوري في إشارات المرور أو أمام بوابات محال تجارية، بجملة «عمو تشتري حلوى سورية؟».

ويعكس الواقع المعيش صورة مغايرة عن دعوات الهجوم والمقاطعة المنتشرة على منصات التواصل الاجتماعي، عبر طوابير وتجمعات بشرية لشباب وأطفال وأسر تقف على بوابات المحال السورية لا يثنيها زحام أو حر أو مطر، عن رغبتها في تناول ساندويتش شاورما، «لرخص ثمنه، ومذاقه الجيد»، بحسب مالك مصطفى، شاب في السابعة عشرة من عمره، التقته «الشرق الأوسط» وهو يحاول اختراق أحد طوابير «عشاق الشاورما» التي تجمهرت أمام مطعم في حي الزمالك.

مصريون طالبوا بمقاطعة المطاعم السورية (الشرق الأوسط)

أما مدير فرع مطعم «الأغا» في حي الزمالك وسط القاهرة أيمن أحمد، فلم يبد «تخوفاً أو قلقاً» من تأثير حملات المقاطعة على المطاعم السورية، لا سيما مع «الإقبال الكبير والمتنامي على وجبات معينة مثل الشاورما والدجاج المسحب»، والذي أرجعه خلال حديثه لـ«الشرق الأوسط» إلى «النكهة المختلفة للمطبخ السوري التي أضافت طعاماً شعبياً جديداً أرضى ذائقة المصريين».

وكان إعجاب المصريين بالمطبخ السوري هو ما دفع مؤسس مطعم الأغا، رائد الأغا، الذي يمتلك سلسلة مطاعم في دول عربية أخرى، إلى الاستثمار في مصر ليفتح أول فروعه في الدقي (شمال الجيزة) عام 2021، ثم يقدم على افتتاح فرعين آخرين في الزمالك ثم مصر الجديدة، بمعدل فرع كل عام.

على النقيض، تُغضب حملات الهجوم المتكررة رئيس تجمع رجال الأعمال السوريين بمصر، الذي يرفض الاتهامات الموجهة للسوريين بـ«أخذ رزق المصري والحصول على مكانه في الوظائف والاستثمار»، لا سيما أن «السوري استثمر وفتح مطعماً أو مصنعاً ووفر فرص عمل أيضاً ولم يأخذ محل أو مطعم مصريين».

استثمارات متنوعة

يتحدث الأتاسي بفخر عن الاستثمارات السورية في مصر، ووجودها في قطاعات اقتصادية عدة، منها أكثر من 7 آلاف مصنع سوري في مجالات مختلفة، في مدن العاشر من رمضان والعبور وغيرهما، لكن المواطن المصري ربما لا يرى من الاقتصاد السوري في بلاده سوى المطاعم «كونها أكثر اتصالاً بحياته اليومية».

ويبدي الأتاسي اندهاشه من كثرة الحملات على المطاعم السورية، رغم أن «أغلبها وخاصة الكبيرة فيها شركاء وممولون مصريون، وبعضها مصري بالكامل وبه عامل سوري واحد».

ليست الصورة كلها قاتمة، فإعلامياً، يجد السوريون في مصر ترحيباً، وإن كان مشروطا بـ«تحذير» من عدم الإضرار بـ«أمن البلاد»، وهو ما أكده الإعلامي المصري نشأت الديهي في رسالة وجهها قبل عدة أشهر إلى السوريين في مصر رداً على الحملات المناهضة لهم.

وهو ترحيب عكسته وسائل إعلام سورية في تقارير عدة أشارت إلى أن مصر «حاضنة للسوريين».

وهو أمر أكد عليه موقع الجالية بتأكيد الحديث عن تسهيلات قدمت لرجال أعمال سوريين وأصحاب مطاعم، من بينها مطاعم في حي التجمع الراقي بالقاهرة.

و«مدينة الرحاب» تعد واحدة من التجمعات الأساسية للسوريين، ما إن تدخل بعض أسواقها حتى تشعر بأنك انتقلت إلى دمشق، تطرب أذنك نغمات الموسيقى السورية الشعبية، وتجذبك رائحة المشاوي الحلبية، وأنت تتجول بين محال «باب الحارة»، و«أبو مازن السوري»، و«ابن الشام» وغيرها، وتستقطبك عبارات ترحيب من بائعين سوريين، «أهلين»، و«على راسي» و«تكرم عيونك».

«حملات موجهة»

انتشار السوريين في سوق التجارة لا سيما الغذاء فسره مساعد وزير الخارجية المصري الأسبق رخا أحمد حسن، في حديثه لـ«الشرق الأوسط»، بأن «بلاد الشام بشكل عام قائمة على المبادرة الفردية، فجاء السوري برأسمال بسيط وبدأ مشروعاً عائلياً وباع ما أنتجه في إشارات المرور، قبل أن يتوسع ويحول مشروعه إلى مطعم».

رصد حسن بنفسه تنامي الإقبال على المطاعم السورية في حي الشيخ زايد الذي يقطنه، لا سيما أنهم «ينافسون المنتج المصري في الجودة والسعر»، معتبراً الحملات ضدهم «تحريضية تنطوي على قدر من المبالغة نتيجة عدم القدرة على منافسة ثقافة بيع أكثر بسعر أقل».

وتثير حملات الهجوم المتكررة مخاوف في نفس الكاتب والمحلل السياسي السوري المقيم في مصر عبد الرحمن ربوع، وإن كانت «موجودة على مواقع التواصل الاجتماعي، ولا وجود لها في الشارع المصري»، حيث يشير في حديثه لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «على مدار السنوات الماضية لم تتغير المعاملة لا من الشعب المصري أو الجهات الرسمية في الدولة».

السوريون في مقدمة مؤسسي الشركات الاستثمارية في مصر (الشرق الأوسط)

وبالفعل، أثرت المطاعم السورية إيجابياً في سوق الأكل المصري، ورفعت من سويته، بحسب ربوع، رغم أنها لا تشكل سوى جزء صغير من استثمارات السوريين في مصر التي يتركز معظمها في صناعة الملابس، وربما كان تأثيرها دافعاً لأن تشكل الجزء الأكبر من الاستهداف للسوريين في حملات يراها ربوع «سطحية وموجهة وفاشلة»، فلا «تزال المطاعم السورية تشهد إقبالاً كثيفاً من المصريين».

ولا تجد تلك «الحملات الموجهة» صدى سياسياً، ففي فبراير (شباط) من العام الماضي وخلال زيارة لوزير الخارجية المصري السابق سامح شكري إلى دمشق، وجه الرئيس السوري بشار الأسد الشكر لمصر على «استضافة اللاجئين السوريين على أراضيها وحسن معاملتهم كأشقاء»، بحسب إفادة رسمية آنذاك للمتحدث باسم الخارجية المصرية السفير أحمد أبو زيد، أشار فيها إلى تأكيد شكري أن «السوريين يعيشون بين أشقائهم في مصر كمصريين».

لكن يبدو أن هناك تطوراً أخيراً «أثار قلقاً كبيراً لدى السوريين وهو قرار إلغاء الإقامات السياحية»، فبحسب ربوع، معظم الأجانب في مصر وبينهم السوريون كانوا يقيمون في البلاد بموجب إقامات سياحية طويلة، لا سيما الطلاب وكثير ممن ليس لديهم عمل ثابت ويأتي قرار إلغاء تجديدها مقلقاً لأنه سيجبر كثيرين على الخروج من البلاد والعودة مرة أخرى كل فترة، وهو القرار الذي يرغب الأتاسي في أن يشهد إعادة نظر من جانب السلطات المصرية خلال الفترة المقبلة كونه «يفرض أعباءً جديدة على السوريين لا سيما الطلاب منهم».

«استثمارات متنامية»

ويشكل السوريون نحو 17 في المائة من المهاجرين في مصر، وهم «من بين الجنسيات التي تشارك بإيجابية في سوق العمل والاقتصاد المصري، وتتركز مشاركتهم في الصناعات الغذائية والنسيج والحرف التقليدية والعقارات»، وبحسب تقرير لـ«منظمة الهجرة الدولية» صدر في يوليو (تموز) 2022، أوضح أن «حجم التمويل الاستثماري من جانب نحو 30 ألف مستثمر سوري مسجلين في مصر، قُدر بمليار دولار في عام 2022».

وفي عام 2012 جاء السوريون في مقدمة مؤسسي الشركات الاستثمارية، عبر تأسيس 365 شركة من بين 939 شركة تم تأسيسها خلال الفترة من ما بين يناير (كانون الثاني) وأكتوبر (تشرين الأول)، بحسب بيانات «الهيئة العامة للاستثمار» في مصر.

ولا توجد إحصائية رسمية عن حجم الاستثمارات السورية في مصر الآن، لكن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي أشار، في تقرير نشره عام 2017، إلى أن «اللاجئين السوريين استثمروا في مصر 800 مليون دولار». وهو نفس الرقم الذي تبنته هيئة الاستثمار المصرية في تصريحات تداولتها وسائل إعلام محلية.

لكنه رقم يقول رئيس تجمع رجال الأعمال السوريين إنه «لا يعدو كونه الرقم التأسيسي الذي بدأ به السوريون مشروعاتهم في مصر، ثم تنامى مع الوقت»، إضافة إلى أن «هناك الكثير من الأنشطة الاقتصادية غير مسجلة في هيئة الاستثمار المصرية».

مطعم سوري في وسط البلد (الشرق الأوسط)

حملات الهجوم المتكررة على السوريين لن تمنعهم من الاستثمار في مصر، فهي من وجهة نظر الموقع «ناتجة عن نقص المعلومات وعدم إدراك لطبيعة وحجم مساهمة السوريين في الاقتصاد»، إضافة إلى أن «المتضرر الأكبر من تلك الحملات هما الاقتصاد والصناعة المصريان»، لا سيما أنها «تتناقض مع سياسة الحكومة الرامية إلى تشجيع الاستثمار».

فقد جاء المستثمر السوري بأمواله لمصر واستثمر فيها، و«أنفق أرباحه فيها أيضاً»، فهو بذلك قادر على «العمل... ولم يأت ليجلس في المقاهي».

بالفعل «لا يحصل السوريون على إعانات من الدولة، بل يعملون بأموالهم ويدفعون ضرائب، ومثل هذا الحملات تقلل من دور مصر التاريخيّ أنها ملجأ لكل من يضار في وطنه أو يتعرض للخطر»، بحسب مساعد وزير الخارجية المصري الأسبق، الذي اعتبر الهجوم المتكرر عليهم «محاولة لإظهار السوريين بأنهم سبّب مشكلات البلاد، وهو غير صحيح».

وفي الوقت الذي يعول فيه الموقع على الإعلام لـ«نشر الوعي بأهمية وجود السوريين في مصر»، لا تزال الستينية كاميليا محمود حائرة بين «عشقها» للمأكولات السورية، و«مخاوفها» من التأثير على اقتصاد بلادها، ما يتنقص من متعتها ويعكر مزاجها وهي تقضم «ساندويتش شاورما الدجاج» المفضل لديها.