قراءة في الدستور الإيراني الحلقة (2 - 3): سلطة مطلقة للولي الفقيه.. ومؤسسات دستورية تعمل وفق إشارته

المشرع الإيراني وضع رديفًا للمؤسسات الراسخة التي تركها نظام الشاه مثل رئاسة الجمهورية يقابلها ولاية الفقيه والجيش يقابله الحرس الثوري والباسيج

الخميني في صورة له تعود إلى عام 1978 (غيتي)
الخميني في صورة له تعود إلى عام 1978 (غيتي)
TT
20

قراءة في الدستور الإيراني الحلقة (2 - 3): سلطة مطلقة للولي الفقيه.. ومؤسسات دستورية تعمل وفق إشارته

الخميني في صورة له تعود إلى عام 1978 (غيتي)
الخميني في صورة له تعود إلى عام 1978 (غيتي)

وضع المشرع الإيراني سلطات مطلقة للولي الفقيه، في الدستور، وجعل مؤسسات دستورية كثيرة تحت سلطته. كما قام بإنتاج مجموعةٍ من المؤسسات التي تقع جميعها تحت السلطة المباشرة للقائد، ومنها: مجلس صيانة الدستور، الذي يقوم بالإشراف على انتخابات مجلس خبراء القيادة ورئيس الجمهورية وأعضاء مجلس الشورى الإسلامي وعلى الاستفتاء العام. كما تم إنشاء مجلس جديد سمي «مجلس تشخيص مصلحة النظام» الذي يقوم بتحديد مصلحة النظام، والفصل بين سلطات الدولة، والذي يشكَّل بأمرٍ من القائد الذي يعيّن كل الأعضاء الدائمين والمؤقّتين فيه. ومجلس الأمن القومي الأعلى الذي تُعتبر قراراته المتعلقة بالسياسة العامة، مجرد توصياتٍ تحتاج إلى موافقة المرشد الأعلى، حتى يتمّ تنفيذها. وأيضا مجلس إعادة النظر في الدستور الذي تحتاج قراراته وتعديلاته إلى موافقة القائد، قبل أن تُطرح على الاستفتاء العام. وعمل المشرع الإيراني الذي لم يستطع التخلّص من المؤسسات التقليدية التي كانت فاعلةً ومتحكّمةً في عهد الشاه، لذا قاموا بإنتاج مؤسساتٍ رديفةٍ لها، مثل رئاسة الجمهورية يقابلها ولاية الفقيه، مجلس الشورى الإسلامي (البرلمان) يقابله مجلس صيانة الدستور، الجيش النظامي تقابله قوات الحرس الثوري والباسيج، المحاكم المدنية العادية يقابلها المحاكم الشرعية والمحاكم الثورية، المدارس والجامعات التقليدية يقابلها التعليم الديني التقليدي في الحوزات، جهاز الإذاعة والتلفزيون يقابله خُطب الجمعة التعبوية في المساجد. وجميع هذه المؤسسات كانت أداةً مناسبةً لتحقيق أعلى درجات الانضباط الجماهيري وراء الولي الفقيه والدولة، ولتكريس «التوأمة» بين المؤسسة الدينية والنظام السياسي.
ب – مؤسساتٌ دستورية تحت سلطة الولي الفقيه
كما لاحظنا، فقد قام الدستور الجديد بإنتاج مجموعةٍ من المؤسسات التي تقع جميعها تحت السلطة المباشرة للقائد، ومنها:
1 - مجلس صيانة الدستور (أو مجلس الرقابة على القوانين). وظيفته تفسير الدستور وضمان توافق القوانين التي يصدّق عليها البرلمان مع الدستور، وتطابقها مع أحكام الشريعة، والإشراف على انتخابات مجلس خبراء القيادة ورئيس الجمهورية وأعضاء مجلس الشورى الإسلامي وعلى الاستفتاء العام (99). ويتألف هذا المجلس من (12) عضوًا، نصفهم من الفقهاء العدول الذين يختارهم القائد الأعلى، والنصف الثاني من رجال القانون. وبالنظر إلى الأدوار التي يقوم بها هذا المجلس، يمكن اعتباره مجلسًا موازيًا أو مشرفًا على مجلس الشورى الإسلامي، بل ويتجاوز دور المجلس التشريعي، إلى ضابطٍ ومتحكّمٍ في هيكل العلاقات السياسية، من خلال قدرته على منع شخصياتٍ سياسية أو تياراتٍ بعينها - عبر رفضه بعض طلبات الترشيح، وغربلته لقوائم المرشحين للانتخابات الرئاسية والنيابية - من خوض التجربة الانتخابية، أو على إصدار قوانين وتوصيات تكون في خدمة أشخاص أو فئةٍ بعينها. خصوصًا أنّ الدستور قد نصّ على أنه «لا مشروعية لمجلس الشورى الإسلامي، دون وجود مجلس صيانة الدستور (المادة 93). والرئيس الحالي لمجلس صيانة الدستور هو آية الله «أحمد جنّتي». ويهيمن المتشددون على هذا المجلس الذي صادق في 2015 على مشروع قانون يوافق بموجبه على «الاتفاق النووي» الذي توصلت إليه إيران مع السداسية الدولية (5+1)، ليفسح بذلك المجال أمام الحكومة لتنفيذ بنوده، والذي سينتج عنه رفع العقوبات الدولية المفروضة على إيران.
2 - مجلس تشخيص مصلحة النظام الذي يقوم بتحديد مصلحة النظام، والفصل بين سلطات الدولة (مجلس صيانة الدستور ومجلس الشورى الإسلامي)، والذي يشكَّل بأمرٍ من القائد الذي يعيّن كل الأعضاء الدائمين والمؤقّتين فيه. والرئيس الحالي لهذا المجلس هو «علي أكبر رفسنجاني». ويتكون من (31) عضوًا يمثّلون مختلف التيارات السياسية الإيرانية.
3 - مجلس الخبراء (أو مجلس الأوصياء)، ومهمة هذا المجلس حسب الدستور، تعيين أو عزل قائد الثورة الإسلامية، بعد وفاة الخميني. وقد قام بعزل آية الله منتظري من منصب نيابة الإمام الخميني، وتعيين حجة الإسلام علي خامنئي بديلاً منه، وكذلك قام بعد وفاة الخميني، بانتخاب خامنئي لمنصب الولي الفقيه الذي تستمر مدة شغله لهذا المنصب إلى حين وفاته. وهذا المجلس يضم (86) عضوًا من الفقهاء المنتخبين من الشعب، الذين يدرسون ويتشاورون بشأن كل الفقهاء جامعي الشرائط، وإذا تشابهت الصفات والشرائط بين أكثر من مرشَح، «يُفضّل مَن كان منهم حائزًا، على رؤية فقهية وسياسية أقوى من غيره» (المادة 109). والرئيس الحالي لهذا المجلس هو آية الله محمد يزدي.
4 - مجلس الأمن القومي الأعلى الذي تُعتبر قراراته المتعلقة بالسياسة العامة، مجرد توصياتٍ تحتاج إلى موافقة المرشد الأعلى، حتى يتمّ تنفيذها. وأمين المجلس الحالي هو وزير الدفاع السابق الجنرال علي شمخاني الذي عيّنه المرشد الأعلى ممثّلاً له، خلفًا لحسن روحاني الذي شغل المنصب لعدة سنواتٍ، قبل انتخابه رئيسًا لإيران في عام 2013. وقد صادق هذا المجلس أيضًا، على «الاتفاق النووي» الإيراني مع الدول الست، بصفته المرجع الأعلى للنظام في اتخاذ القرارات السياسية والعسكرية.
5 - مجلس إعادة النظر في الدستور الذي تحتاج قراراته وتعديلاته إلى موافقة القائد، قبل أن تُطرح على الاستفتاء العام.
6 - وبالإضافة إلى هذه المؤسسات التي تم تكريسها في الدستور، فقد تمّ بعد أسبوع واحد من نجاح الثورة، إنشاء «الحزب الجمهوري الإسلامي»، للقيام بتعبئة الجماهير في دعم مبادئ وقيم الثورة، وشكّلت جماعة «أنصار حزب الله » - الذراع العسكرية للحزب - مصدر قوةٍ إضافيةٍ له. وفي المقابل فقد تمّت تصفية الأحزاب الليبرالية واليسارية داخل المجتمع الإيراني، عن طريق القمع والترهيب والسجن والقتل والاغتيال والإعدام دون حصول أصحابها على محاكماتٍ نزيهة وعادلة. ولكن الخميني حلّ هذا الحزب لاحقًا، فيما استمر حزب الله في العمل، وقد قام بالكثير من أعمال العنف والترهيب داخل إيران، ويدين أعضاء هذا الحزب بالكامل للإمام الخميني وأفكاره فيما يتعلق بشكل إدارة الدولة والمجتمع.
7 - في عام 1980 تمّ تشكيل «لجنة الثورة الثقافية» التي كان معظم أعضائها من علماء الدين. وقد تولت مهمة المراجعة الشاملة للمناهج التربوية وطواقم التدريس، بحيث أضافت مجموعةً من المناهج الفقهية في التعليم ما قبل الجامعي، بهدف خلق أجيالٍ جديدة تتبنَى قيم الثورة، وتكون مصدر قوةٍ للدولة الجديدة. وقد تمّ إغلاق الجامعات الإيرانية لما يزيد على السنتين، بغية التضييق على كل التيارات السياسية (القومية والليبرالية واليسارية و..) الفاعلة في داخل الجامعات. ولتأكيد النظام سيطرته على الجامعات، فقد أُضيفت شروط جديدة للالتحاق بها، تتضمن الحصول على شهادة بأن الطالب يؤمن بقيم الحكومة الإسلامية ومبادئها.
ج - المؤسساتُ الاجتماعية والاقتصادية في خدمة الآيديولوجيا
عرفت النخبة السياسية الجديدة، أي التيار الديني، وعلى رأسه الخميني، أن الأساس الديني لشرعية النظام، بعد هدم شرعية النظام البلهوي، لا يكفي وحده لاستمرار النظام، وأنه لا بدّ من تدعيم شرعية النظام الجديد، بطرقٍ وأساليب متعددة: أولاً من خلال إنشاء مؤسساتٍ اجتماعية واقتصادية وعسكرية وقضائية ودينية وتعليمية وأمنية وقمعية جديدة، تتوافق مع الآيديولوجيا الجديدة للنظام السياسي، والتي تقع فكرة ولاية الفقيه في صميمها، وثانيًا من خلال إعطاء دور مميز لرجال الدين وآيات الله في داخل البناء السياسي للدولة، وفي داخل تلك المؤسسات، لكي يتمكنوا من فرض رؤيتهم الدينية والفقهية على شكل هذه المؤسسات التي يتم من خلالها إدارة كل الشؤون في البلاد، وبالتالي إحكام قبضتهم على كل صغيرة وكبيرة في البلاد، وعلى كامل السلطة في إيران. وأغلب هذه المؤسسات تمّ إنشاؤها من خلال تأميم ومصادرة الأموال والشركات والمؤسسات الاقتصادية والتجارية والعقارية والبنكية التي كانت تابعة للشاه وحاشيته والمقرّبين من نظامه.
ومن أبرز تلك المؤسسات التي يتولى القائد والعلماء والفقهاء العدول الإشراف عليها:
1 - مؤسسة «المستضعفين» التي كانت تُعنى برعاية معوّقي الحرب وأُسرهم بعد اندلاع الحرب الإيرانية - العراقية، والتي تتمتع بميزانية ضخمة. وقد أُسندت إليها بعد عام 1989 مهام خارجية وأمنية، وساهمت في نشر النفوذ الإيراني عن طريق مساعدة المستضعفين من الشيعة في الدول المختلفة، وأبرزها لبنان.
2 - مؤسسة «الشهيد» التي كانت تتكفل بعوائل الشهداء الذين سقطوا في أثناء الحرب العراقية - الإيرانية، عن طريق دفع الرواتب الشهرية للأرامل، وتقديم الخدمات التعليمية والسكنية والرعاية الصحية لأبناء الشهداء.
3 - مؤسسة «إمداد الإمام» التي تُعنى بأعمال الإغاثة، وتقديم المساعدات المتنوعة للمحتاجين.
4 - مؤسسة «15 خرداد» التي أعلنت عن جائزةٍ مالية ضخمة (3.3 مليون دولار) لمن يقوم باغتيال سلمان رشدي صاحب كتاب «آيات شيطانية»، بغية اجتثاث المؤامرات المعادية للإسلام.
5 - مؤسسة «جهاد البناء» التي اهتمّت ببناء الجسور والطرق وغيرها من الأنشطة في أثناء الحرب.
وهذه المؤسسات ذات الطابع الخيري والإنساني والاقتصادي، قد مدّت عملها وأنشطتها الدعائية إلى خارج إيران، حيث قامت بإنشاء بعض المدارس والمراكز الثقافية والطبية في بعض الدول الأفريقية والعربية. وهي خارجةٌ عن رقابة الدولة، ولا تخضع لأي محاسبة قانونية أو إدارية، وهي تمتلك ميزانياتٍ ضخمة نتيجة الخُمس (أو سهم الإمام) والتبرعات المختلفة من رجال البازار (التجّار الإيرانيون) الداعم التقليدي لرجال الدين في إيران، وهي تخضع لمكتب الولي الفقيه القائد الذي يقوم بتوجيه الإنفاق فيها، بحسب ما يراه، وترتبط به ارتباطًا مباشرًا، تكوينًا وإدارة وتنفيذًا لتوجهاته وأجندته وأولوياته. وقد نجحت هذه المؤسسات التي تستفيد من موارد الدولة المالية والاقتصادية، في تثبيت قواعد الآيديولوجيا الجديدة، وفي توسيع قاعدة المستفيدين من النظام القائم، وفي الحصول على الولاء له من شرائح واسعة من الجماهير، ولا سيما الفقراء الذين كانوا وما زالوا، وقود الثورة، وفي نشر «التشيّع» خارج إيران.
وتجدر الإشارة إلى أن حزب الله اللبناني الذي يرتبط مذهبيًا وعقائديًا وآيديولوجيًا بإيران، ويتلقى منها معونات مالية تُقدّر بملايين الدولارات سنويًا، قد قام بإنشاء مؤسسات تحمل نفس الأسماء، وتقوم بنفس الأدوار والوظائف داخل البيئة الشيعية للحزب.
وهكذا يمكننا استنتاج أن القائمين على الثورة وصنّاع القرار، لم يستطيعوا التخلّص من المؤسسات التقليدية التي كانت فاعلةً ومتحكّمةً في عهد الشاه، لذا قاموا بإنتاج مؤسساتٍ رديفةٍ لها، تكون بمنزلة أذرع سياسية واقتصادية ودينية وعسكرية وأمنية للنظام، تحدّ من تأثيرها، وتضبط عملها بضوابط الرؤية الجديدة لمصلحة النظام: رئاسة الجمهورية يقابلها ولاية الفقيه، مجلس الشورى الإسلامي (البرلمان) يقابله مجلس صيانة الدستور، الجيش النظامي تقابله قوات الحرس الثوري والباسيج، المحاكم المدنية العادية يقابلها المحاكم الشرعية والمحاكم الثورية، المدارس والجامعات التقليدية يقابلها التعليم الديني التقليدي في الحوزات، جهاز الإذاعة والتلفزيون يقابله خُطب الجمعة التعبوية في المساجد.. وجميع هذه المؤسسات كانت أداةً مناسبةً لتحقيق أعلى درجات الانضباط الجماهيري وراء الولي الفقيه والدولة، ولتكريس «التوأمة» بين المؤسسة الدينية والنظام السياسي.
د - الأساس الإسلامي للنظام الإيراني
يقول الخميني: «إنّ المؤسسات الاستعمارية كلها وسوست في صدور الناس أن الدين لا يلتقي مع السياسة، وأنّ الروحانية ليس عليها أو ليس لها أن تتدخّل في الشؤون الاجتماعية، وليس من حقّ الفقهاء أن يعملوا لتقرير مصير الأمة. ومن المؤسف أن البعض منا قد صدّق هذه الأباطيل»(5)
وتعود نشأة المؤسسة الدينية في إيران إلى الدولة الصفوية في القرن السادس عشر، حينما قام مؤسس الدولة الشاه إسماعيل الصفوي (1487 - 1524) الذي ادّعى الانتساب إلى الإمام السابع موسى الكاظم، باستقدام العلماء من جبل عامل في لبنان والبحرين والجزيرة العربية، من أجل فرض عقيدة التشيّع في أوساط الجماهير الإيرانية التي كانت تدين بالمذهب السُنّي آنذاك. وقد أدّى قيام أول نظامٍ سياسي أو أول دولةٍ شيعيّة في التاريخ الإسلامي، في إيران، إلى صبغ «التشيّع» بصبغة قومية إيرانية (فارسية)، وإلى إيجاد التمايز بين التشيّع الإيراني والتشيّع العربي في لبنان أو الخليج العربي. وبعد نجاح الثورة الخمينية، تسلّمت المؤسسة الدينية من جديد، مقاليد السلطة بإيران، معلنةً تبنّي الدين الإسلامي قانونًا وحيدًا للبلاد، والمذهب الشيعي مذهبًا رسميًا للبلاد.
وقد حدثت معارضة - حتى من كبار رجال المؤسسة الدينية وآيات الله - على انخراط رجال الدين في الأمور السياسية اليومية، وعلى الطريقة التي نُفذت بها ولاية الفقيه التي تُعتبر العمود الفقري في النظام الجديد، وعلى تدخّل الفقهاء في الحكم بالصورة التي أقرّها الدستور، معتبرين أن دورهم يجب أن يقتصر على النصح والإرشاد والقضاء والفتوى في الأمور الفقهية. ورغم أنهم كانوا من كبار المنظرّين للثورة الإيرانية، فإن صراعًا قام بينهم وبين النظام الإيراني الجديد، انتهى بإسكات أصواتهم وإنهاء أدوارهم، إما بالعزل والوضع تحت الإقامة الجبرية (آية الله حسين علي منتظري) أو بالضغط والترهيب والدفع إلى اعتزال العمل السياسي (آية الله محمود طالقاني) أو بالتجريد من اللقب والحرمان من التدريس (آية الله محمد كاظم شريعتمداري). وجريمة هؤلاء العلماء أنهم تجرّأوا على الاختلاف مع الخميني، وقاموا بمراجعاتٍ نقديةٍ لنظرية ولاية الفقيه المطلقة، لإظهار مواطن الخلل والزلل والخطورة في تطبيقاتها، ودعوا إلى العمل على تصحيحها قبل أن تصبح مصدرًا للاستبداد والديكتاتورية اللاهوتية التي لا يوجد فيها لـ«الشورى» أو للإرادة أو المرجعية الشعبية إذا ما تعارضت مع مرجعية القائد، أي دور أو قيمة.
وهذا ما حصل أيضًا مع الدكتور أبو الحسن بني صدر، الليبرالي والاقتصادي، والمعارض لنظام الشاه، الذي دعم الخميني وصوله إلى سدة الرئاسة، والذي رأى لاحقًا، بحكم انحيازه إلى منطق الدولة، أنّ على الفقهاء أن يعودوا إلى مساجدهم وحوزاتهم العلمية بعد انتهاء الثورة، وأن يُفتح المجال أمام الثورة المدنية. وكانت النتيجة أن رفض الخميني والتيار الديني هذا المطلب والتوجه، مما اضطر بني صدر إلى الهروب إلى خارج البلاد، حرصًا على حياته، وخوفًا من اتهامه بالخيانة العظمى. أما المهندس الليبرالي ذو التوجّه الإسلامي مهدي بازركان، المناصر للثورة على الشاه، الذي كلّفه الخميني بأول حكومةٍ بعد الثورة، بغية طمأنة القوى الليبرالية بأنه لن يؤسس دولةً دينيةً، فلم يلبث أن قدّم استقالته، بعد أن أدرك عجزه عن تأسيس حكمٍ ديمقراطي إسلامي منفتح، في ظلَ تنامي قوة ونفوذ التيار الديني في إيران بعد الثورة.
يقول الخميني: «إنّ تعاليم الأئمة كتعاليم القرآن، لا تخصّ جيلاً خاصًا، وإنما هي تعاليم للجميع في كل عصر ومِصر، وإلى يوم القيامة، ويجب تنفيذها واتّباعها»(6). وقد قام المشرّع الإيراني الذي كان يخطط كي يقبض التيار الديني بعلمائه وفقهائه ومجتهديه ومراجعه الدينية، على مفاصل الدولة الناشئة، بضبط كل مناحي الحياة بالضوابط والمعايير والموازين الإسلامية، بغية المطابقة التامة بين جهاز الدولة والنظام السياسي والإسلام، بحيث تصبح أي معارضةٍ أو نقدٍ أو رفض لهذا النظام، هي معارضةٌ ونقد ورفض للدين الإسلامي نفسه.
وقد ورد في مقدمة الدستور، أن الدستور «يجب أن يكون وسيلةً لتثبيت أركان الحكومة الإسلامية، ونموذجًا لنظام حكمٍ إسلامي جديد على أنقاض نظام الطاغوت السابق»، وأنّ إدارة المجتمع بناءً على التشريع الإسلامي، يجب أن يشرف عليها «علماء المسلمين المتّصفون بالعدالة والتقوى والالتزام (الفقهاء العدول)».
أما المادة الثانية، فقد نصّت على أنّ «نظام الجمهورية الإسلامية يقوم على الإيمان بالله الأحد (لا إله إلا الله) وتفرّده بالحاكمية والتشريع ولزوم التسليم لأمره»، وعلى أنّ «الموازين الإسلامية يجب أن تكون أساس جميع القوانين والقرارات المدنية والجزائية والمالية والاقتصادية والإدارية والثقافية والعسكرية والسياسية وغيرها.. ويتولّى الفقهاء في مجلس صيانة الدستور تشخيص ذلك» (المادة 4). ولا يغيب عن بال المشرّع الإشارة إلى أن ما يميّز الثورة التي قادها الخميني، عن «سائر النهضات التي قامت في إيران خلال القرن الأخير، إنما هي عقائديتها وإسلاميتها» (المقدمة).
ولذلك يجب على «مجلس الشورى إرسال جميع ما يصادق عليه، إلى مجلس صيانة الدستور الذي عليه دراسته وتقرير مدى مطابقته الموازين الإسلامية ومواد الدستور» (المادة 94)، وعلى السلطة القضائية «أن تمارس وظيفتها وفقًا للموازين الإسلامية، وتقوم بالفصل في الدعاوى وإقامة الحدود الإلهية» (المادة 61). أما الصحافة والمطبوعات فهي «حرّة في بيان المواضيع، ما لم تخلّ بالقواعد الإسلامية والحقوق العامة» (المادة 24)، ويجب على وسائل الإعلام (الإذاعة والتلفزيون)، أن تعمل «على نشر الثقافة الإسلامية.. وأن تحترز بشدة من نشر وإشاعة الاتجاهات الهدَامة والمعادية للإسلام» (مقدمة الدستور).
أما الأحزاب والجمعيات والهيئات السياسية والأقليات الدينية المعترف بها، فيقرر الدستور أنها «تتمتع بالحرية، بشرط ألا تناقض أسس القيم الإسلامية وأساس الجمهورية الإسلامية» (المادة 26). أما بالنسبة إلى الاقتصاد فيجب «بناء اقتصاد سليم وعادل وفق القواعد الإسلامية من أجل توفير الرفاهية والقضاء على الفقر وإزالة كل أنواع الحرمان «(المادة 3).
وحتى المجالس البلدية المنتخبة من الشعب «في المحافظات والأقضية والمدن والقرى، والموكلة بتنفيذ البرامج الاجتماعية والاقتصادية والعمرانية والصحية والثقافية والتعليمية وسائر الخدمات الاجتماعية - فيجب أن لا تتعارض قراراتها مع الموازين الإسلامية «(المادة 105). بالإضافة إلى ذلك، ينصّ الدستور على أنّ «الحكومة مسؤولةٌ عن إعداد البرامج والإمكانات اللازمة للتدريب العسكري لجميع أفراد الشعب، وذلك وفقًا للموازين الإسلامية «(المادة 151).
والحقيقة أن هذه التأكيدات المتتالية على عقائدية الثورة وإسلامية النظام، لا هدف من ورائها سوى تكريس سلطة رجال الدين في كل مناحي الحياة، ليصبحوا الجهة الوحيدة التي تمنح المشروعية لأي فعلٍ أو تحجبها عنه، وكذلك لربط حياة الناس ومصالحهم، برؤيتهم الدينية وفتاواهم وتفسيراتهم واجتهاداتهم الفقهية. ولا يتمّ ذلك إلا عن طريق تسييس الدين، وتديين السياسة، وإقحام البُعد اللاهوتي والغيبي والأسطوري، في الميدان السياسي والمالي والاقتصادي والعسكري، وإسباغ مشروعية إلهية على قرارات النظام ومشاريعه وطموحاته، التي تُقدّم للناس على أنها «تكليفات» شرعيّة من الإمام المعصوم. وبعبارة أخرى، إنّ هذا الإغفال المقصود للفروق الجوهرية بين الميدانين (الأرضي والسماوي، الواقعي والأسطوري، المعقول واللامعقول، السياسة والعقيدة الإيمانية..) ليس سوى وسيلة لتثبيت أركان الدولة الثيوقراطية، ولتفرّد الفقهاء (وليس الله) بالحاكمية والتشريع والتحليل والتحريم والسلطة والنفوذ ولزوم التسليم لأمرهم، ولتبرير أي ممارسات قمعية أو إلغائية ضد مَن يتمّ تصنيفهم بالخونة والعملاء والمتآمرين، ولإقفال الباب نهائيًا أمام حدوث أي تغيير مستقبلي.
ولعل الطريقة التي تعاملت بها السلطة الدينية - الأمنية مع «الثورة الخضراء» التي اندلعت تظاهرات واحتجاجات شعبية في إيران في عام 2009، ضد النظام، هي الدليل الساطع أولاً، على كيفية توظيف «العنف الشرعي» الذي تجابه به سلطةُ «الإمامة - الملكية» غير المقيّدة وغير المشروطة، أي التهديد بتغيير موازين القوى التي أرستها بقوة الدين والمقدس والعصمة والإمامة والإيمان والتقليد والاتّباع، وثانيًا على أنّ الجمهوريات الناشئة في العالم الثالث، ما هي إلا تطبيقات وتعبيرات شوهاء عن قيم الحداثة ومفاهيم الحرية والديمقراطية، وثالثًا، على أن هذا النظام اللاهوتي يستحيل أن يقدّم «نموذجًا «ناجحًا يصلح «تصديره» إلى خارج الحدود!
قراءة في الدستور الإيراني الحلقة (3 - 3) : القوات المسلّحة ذراع النظام القمعية.. وضع خاص وميزانية ضخمة
قراءة-في-الدستور-الإيراني-الحلقة-1-3-الخميني-سعى-لتكريس-السلطة-بالتمهيد-لقيام



تركيا والعراق لتعزيز التعاون في مجالات الأمن ومكافحة الإرهاب

جانب من الاجتماع الخامس لآلية التعاون الأمني رفيع المستوى بين تركيا والعراق على هامش منتدى أنطاليا الدبلوماسي الأحد (الخارجية التركية)
جانب من الاجتماع الخامس لآلية التعاون الأمني رفيع المستوى بين تركيا والعراق على هامش منتدى أنطاليا الدبلوماسي الأحد (الخارجية التركية)
TT
20

تركيا والعراق لتعزيز التعاون في مجالات الأمن ومكافحة الإرهاب

جانب من الاجتماع الخامس لآلية التعاون الأمني رفيع المستوى بين تركيا والعراق على هامش منتدى أنطاليا الدبلوماسي الأحد (الخارجية التركية)
جانب من الاجتماع الخامس لآلية التعاون الأمني رفيع المستوى بين تركيا والعراق على هامش منتدى أنطاليا الدبلوماسي الأحد (الخارجية التركية)

أكد الاجتماع الخامس لآلية التعاون الأمني رفيع المستوى بين تركيا والعراق تطابق وجهتي نظر البلدين في التعامل مع تهديد حزب العمال الكردستاني واعتباره «تنظيماً إرهابياً».

وقال وزير الخارجية التركي، هاكان فيدان، إن العراق يتعامل حالياً مع حزب العمال الكردستاني، على أنه «تنظيم إرهابي».

وأضاف فيدان في تصريحات، عقب الاجتماع الخامس لآلية التعاون الأمني رفيع المستوى بين تركيا والعراق، الذي عقد على هامش منتدى أنطاليا الدبلوماسي الرابع الأحد: «في الوقت الحالي، يتم التعامل مع حزب العمال الكردستاني على أنه (تنظيم إرهابي) من قبل العراق».

صورة تذكارية للوفدين التركي والعراقي قبل الاجتماع الخامس للآلية الأمنية في أنطاليا الأحد (الخارجية التركية)
صورة تذكارية للوفدين التركي والعراقي قبل الاجتماع الخامس للآلية الأمنية في أنطاليا الأحد (الخارجية التركية)

ولفت إلى أن الحكومة العراقية كانت أعلنت العام الماضي، حزب العمال الكردستاني «تنظيماً محظوراً»، لكن لا يؤثر إن كان التصنيف يشير إلى أنه تنظيم «محظور» أو «إرهابي»؛ يكفي أنه تنظيم غير شرعي، وما يهم هنا هو الموقف المتخذ تجاه هذا الحزب.

وكان مجلس الأمن الوطني العراقي أعلن حزب العمال الكردستاني، الذي يخوض صراعاً مسلحاً ضد تركيا منذ عام 1984 خلف نحو 40 ألف قتيل كما تقول أنقرة، تنظيماً محظوراً، في أعقاب زيارة الرئيس التركي رجب طيب إردوغان للعراق في 22 أبريل (نيسان) 2024.

ودعا وزير الخارجية التركي، هاكان فيدان، في مؤتمر صحافي مشترك مع نظيره العراقي فؤاد حسين خلال زيارته لبغداد في 26 يناير (كانون الثاني) الماضي، إلى شن معركة مشتركة للقضاء على تنظيم «داعش» وحزب العمال الكردستاني (الإرهابيين).

وأتت زيارة فيدان للعراق وسط دعوات متكررة من تركيا لحل «وحدات حماية الشعب الكردية»، التي تقود قوات سوريا الديمقراطية (قسد) في شمال شرقي سوريا بعد سقوط نظام الرئيس بشار الأسد. وتوعدت أنقرة بشن عملية جديدة عبر الحدود ضد «الوحدات الكردية» ما لم تتم معالجة مخاوفها.

جانب من مؤتمر صحافي مشترك بين وزير الخارجية العراقي والتركي في بغداد في يناير الماضي (رويترز)
جانب من مؤتمر صحافي مشترك بين وزير الخارجية العراقي والتركي في بغداد في يناير الماضي (رويترز)

وقال فيدان في بغداد: «أود أن أؤكد بقوة على هذه الحقيقة: حزب العمال الكردستاني يستهدف تركيا والعراق وسوريا، ومن أجل مستقبل منطقتنا وازدهار شعوبنا، يتعين علينا أن نخوض معركة مشتركة ضد الإرهاب، يتعين تدمير (داعش) وحزب العمال الكردستاني بكل ما أوتينا من قوة».

وفي 10 مارس (آذار) الماضي وقع قائد «قسد»، مظلوم عبدي، اتفاقاً مع الرئيس السوري الانتقالي، أحمد الشرع، قضى باندماج «قسد» في مؤسسات الدولة السورية. وعَدّت «قسد» أن هذا الاتفاق أسقط المطالبات التركية بحل الوحدات الكردية وخروج مقاتليها من سوريا.

وأطلقت تركيا في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي مبادرة، دعمها إردوغان، أسفرت عن نداء وجهه الزعيم التاريخي للحزب، عبد الله أوجلان، الذي يمضي عقوبة بالسجن المشدد مدى الحياة في جزيرة إيمرالي غرب تركيا، للحزب لعقد مؤتمره العام وإعلان حل نفسه وإلقاء أسلحته.

ووصف فيدان الاجتماع الخامس للآلية الأمنية بأنه كان «مثمراً للغاية»، لافتاً إلى أنه تم إعداد نص بيان مشترك، كما استعرض الجانبان الأعمال المنجزة حتى الآن في مجال الأمن.

وقال فيدان إن تركيا والعراق يتابعان عن كثب التطورات في المنطقة، و«قمنا خلال الاجتماع بمراجعة المشكلات الأمنية القائمة، وعلى رأسها مكافحة الإرهاب، بالإضافة إلى التطورات الأمنية المحتملة».

فيدان التقى نظيره العراقي فؤاد حسين على هامش منتدى أنطاليا الدبلوماسي (الخارجية التركية)
فيدان التقى نظيره العراقي فؤاد حسين على هامش منتدى أنطاليا الدبلوماسي (الخارجية التركية)

وترأس فيدان الوفد التركي في اجتماع الآلية المشتركة، الذي ضم كلاً من وزير الدفاع يشار غولر، ورئيس المخابرات إبراهيم كالين، ونائب وزير الداخلية منير كارا أوغلو.

في المقابل، ترأس وزير الخارجية العراقي فؤاد حسين وفد بلاده، الذي ضم كلاً من وزير الدفاع ثابت العباسي، ومستشار الأمن القومي قاسم الأعرجي، ورئيس هيئة «الحشد الشعبي» فالح الفياض، ووزير داخلية إقليم كردستان العراق ريبر أحمد، ورئيس جهاز المخابرات حميد الشطري، ورئيس دائرة الدول المجاورة في وزارة الخارجية العراقية محمد رضا الحسيني.

وعقد فيدان وحسين لقاء ثنائياً قبل اجتماع الآلية الأمنية، الذي بحث سبل تعزيز التعاون الأمني بين البلدين، والتنسيق المشترك في القضايا ذات الاهتمام المشترك، بما يسهم في دعم الأمن والاستقرار الإقليمي.

كما تناول تعزيز التفاهم الذي تطور بين تركيا والعراق في مجال الأمن، وبخاصة في مكافحة نشاط حزب العمال الكردستاني، من خلال خطوات ملموسة إضافية.

وكان الاجتماع الرابع للآلية المشتركة عقد في أنقرة في 15 أغسطس (آب) 2024، وناقش العلاقات والتطورات الإقليمية مع التركيز على التعاون في مجال الأمن ومكافحة الإرهاب بين البلدين؛ وتم توقيع مذكرة تفاهم بشأن التعاون العسكري والأمني ومكافحة الإرهاب بين البلدين.