يتجمع العشرات من اللبنانيين الميسورين مساء كل يوم اثنين في صالة صغيرة في منطقة «جسر الواطي» في العاصمة بيروت، حيث يدققون في قطع وتحف أثرية يتم نقلها بشكل شبه أسبوعي من سوريا إلى لبنان، معظمها تتخذ الطابع الحلبي والشامي القديم. ولا تكاد تمضي ساعة على بدء توافدهم حتى يجلسوا في صفوف بانتظار انطلاق المزاد العلني لشراء قطع يتعدى عمرها المائة سنة بأسعار تبدو خيالية للأكثرية منهم الذين يزورون عواصم العالم بحثا عن تحف مماثلة، باتت اليوم أقرب من أي وقت مضى إليهم.
هنا أبواب خشبية ضخمة نقشت عليها رسومات تعود لعصور سابقة، وهناك أجران وعواميد وأوان وفخاريات وحلي قد يتخطى عمر بعضها المائتي عام. حتى أثاث المنازل الحلبية والشامية القديمة من طراز العفش الخشبي المطعّم بالصدف، كله متوافر بأسعار مغرية في حال قصد الشاري الصالة قبل أيام من المزاد.
ولعل المفارقة أن هذه الصالة، التي كانت تحوي قبل اندلاع الأزمة في سوريا في عام 2011 كميات من هذه القطع، كانت تبقى لأسابيع وأشهر دون أن تجد لها شاريا لارتفاع أسعارها، أصبحت تشهد أسبوعيا على تغيير جذري بالبضاعة نظرا للكميات التي يتم نقلها من سوريا مما يؤدي تلقائيا لخفض سعرها.
وتتوزع هذه القطع والتحف حاليا على أكثر من صالة وعلى محلات صغيرة منتشرة خصوصا في منطقة البسطة في بيروت، كما في الأسواق القديمة لمدينة طرابلس الشمالية. ولا يجد البائعون أي مشكلة في عرض البضائع على واجهاتهم باعتبار أنهم مطمئنون لكونهم لا يستوردون قطعا أثرية يُمنع التداول بها، بل قطع تراثية (أنتيكات) تتيح القوانين اللبنانية والدولية عملية بيعها وشرائها.
ويقول «ح.ي» صاحب أحد هذه المحال، لـ«الشرق الأوسط»، إنهم كانوا يستوردون كميات أكبر من التحف قبل عام أو عامين.. «أما وقد بات معظم من أتقنوا هذه المهنة في سوريا يدركون قيمة ما يرسلونه إلينا، فقد تراجعت الكمية والنوعية»، لافتا إلى أن الكثير من القطع القيمة باتت ترسل مباشرة عبر تركيا إلى دول أوروبية.
وقد ألقى الجيش اللبناني في الأشهر الماضية القبض على مجموعات كانت تبيع تحفا أثرية لأشخاص ميسورين قاموا بشرائها ثم عمدوا إلى تسليمها إلى المرجعيات الأمنية المعنية.
وقالت مصادر عسكرية لـ«الشرق الأوسط» إن الجيش يتابع عن كثب عمليات تهريب آثار سورية وهو يُداهم أي موقع يُعتقد أنّه يحوي تحفا مماثلة، مذكرة بأنّه تم تسليم ثلاثة أجراس كنائس وكمية كبيرة من الأيقونات والصلبان والرسوم والتحف والكتب المقدسة القديمة والنادرة للجهات السورية المعنية، كان قد استولى عليها مسلحون من بلدة معلولا السورية.
وتولي وزارة الثقافة اللبنانية اهتماما بالغا لهذه القضية، وهي متعاونة إلى أقصى درجة مع المسؤولين السوريين للحد من تفاقم ظاهرة تهريب الآثار السورية. وهو ما أكّده وزير الثقافة روني عريجي، لـ«الشرق الأوسط»، لافتا إلى أن تجارة وتهريب الآثار موجودة منذ زمن إلا أنّها استفحلت مع تدمير المعالم الأثرية في سوريا وما تلاه من عمليات نهب وتهريب ممنهج إلى أسواق عالمية، حيث يتم بيع هذه القطع بهدف تمويل عمليات «داعش».
وأشار عريجي إلى أنه يتم في مرحلة أولى تهريب هذه القطع إلى الدول المجاورة للعراق وسوريا، موضحا أن تركيا تشهد أكبر عمليات من هذا النوع، وأضاف: «أما في لبنان فتهريب الآثار محدود نظرا للعمليات العسكرية على الحدود وانتشار الجيش على معظم المنافذ الحدودية مما يحد من حركة المهربين».
وشدّد عريجي على أنّه ليس من صلاحية وزارته مكافحة عمليات التهريب، باعتبارها من اختصاص القوى الأمنية.. «لكن وحين يتم إبلاغنا عن ضبط قطع أثرية نرسل خبراء للاطلاع عليها وتحديد مصدرها ونتواصل مع المعنيين في الدول المحددة لإعادتها إليهم»، لافتا إلى أنه وفي الفترة الماضية قد تم «ضبط قطع أثرية بعضها مزورة وقطع تراثية سرقت من الأديرة والكنائس والبيوت».
وأوضح عريجي أن وفدا من المديرية العامة للآثار في سوريا زار لبنان أخيرا واطلع على عدد من القطع ووضع تقريرا لتحديد مصدرها عملا بالاتفاقيات الدولية. وقال: «السبيل الوحيد حاليا للحد من هذه الأزمة هو توعية المجتمعات التي تعمد إلى شراء هذه القطع بوجوب عدم المشاركة في هذه الجريمة».
وتختلف القطع الأثرية عن تلك التراثية من حيث عمرها وفرادتها وارتباطها بهوية البلد. ويشير رئيس لجنة الآثار والتراث في مجلس بلدية طرابلس خالد تدمري إلى أن القطع التراثية يفوق عمرها المائتي عام، ولها قيمة تاريخية كبيرة، وهي تحف فريدة من نوعها تثبّت هوية بلد ما، يُعثر عليها من خلال حفريات مرخصة بإشراف مختصين، أو يتم تفكيكها من أبنية أثرية أو سرقتها من المتاحف. أما القطع التراثية فهي الأثاث والموبيليا التي يعود عمرها لعشرات ومئات السنوات، وقد باتت حاليا متوافرة بكثافة وتباع بشكل علني باعتبار أن هذه التجارة مسموح بها ومرخصة.
ويوضح تدمري أن العديد من العائلات السورية العريقة وبسبب حاجتها المادية قامت ببيع تراث أجدادها من أثاث ومخطوطات وحتى وثائق، كما أن بعض هذه التحف قد تمت لا شك سرقتها مع اشتداد المعارك والمواجهات ومغادرة العديد من السكان بيوتهم تاركين وراءهم إرثا تاريخيا.
ولم تعد عمليات بيع القطع الأثرية والتراثية على حد سواء مقتصرة على المحال التجارية، فقد امتلأت صفحات مواقع التواصل الاجتماعي بصور هذه التحف التي يتم بيعها بأسعار متفاوتة نظرا لعدم إدراك قيمتها الحقيقية.
وفي شهر مايو (أيار) الماضي، تم إطلاق صفحة على موقع «فيسبوك» تحت اسم «آثار للبيع من سوريا»، وتم نشر صور لمجموعة قطع أثرية أفيد بأنها من سوريا، وكتب تحتها «للبيع.. التواصل على الخاص.. المصدر سوريا والبيع والتسليم في تركيا».
وأفيد أخيرا بوصول قطع أثرية سورية وعراقية إلى متاحف أوروبية وأميركية، كما يتم بيع قسم كبير منها في مزادات علنية هناك. وهو ما دفع منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونيسكو) إلى إعلاء الصوت أكثر من مرة للتصدي لعمليات سرقة وبيع الآثار والتي ترتقي لمستوى «جرائم حرب». وحثت المنظمة على استخدام القوة العسكرية في مواجهة محاولات تدمير التراث الثقافي والحضاري في سوريا والعراق.
تحف من بيوت سورية تباع بالمزاد العلني في بيروت.. ومواقع التواصل تروّج
القطع السورية القيمة ترسل مباشرة عبر تركيا إلى دول أوروبية
تحف من بيوت سورية تباع بالمزاد العلني في بيروت.. ومواقع التواصل تروّج
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة