شهدت المناطق الفلسطينية، ولا سيما حدود قطاع غزة مع إسرائيل، يوماً دامياً أمس، قُتل فيه ما لا يقل عن 17 فلسطينياً، وأصيب أكثر من 1200 بجروح، في واحد من أسوأ أيام المواجهات مع قوات الاحتلال الإسرائيلي منذ شهور. ووقعت المواجهات خلال احتفال الفلسطينيين بـ«يوم الأرض» في القطاع والضفة وبقية مناطقهم في إسرائيل، لكن أكثرها دموية كان خلال تنظيم «مسيرة عودة» سلمية قرب السياج الحدودي الفاصل بين غزة وإسرائيل، التي أغرقها رصاص الاحتلال في بحر من الدماء.
وأعلنت «الهيئة الوطنية العليا لمسيرة العودة» التي تضم «حماس» وكافة الفصائل الفلسطينية، مساء الجمعة، انتهاء اليوم الأول لـ«مسيرة العودة»، داعية المتظاهرين إلى التراجع نحو الخيم التي إقامتها في المواقع الخمسة التي تبعد مئات الأمتار عن الحدود بين إسرائيل وقطاع غزة، بحسب ما أوردت وكالة الصحافة الفرنسية. وقال خالد البطش، رئيس الهيئة، في مؤتمر صحافي بمشاركة إسماعيل رضوان، القيادي في «حماس»: «نعلن انتهاء فعاليات اليوم الأول، وندعو جماهير شعبنا للعودة إلى الاعتصام والتخييم في الأماكن المحددة».
وأقام منظمو هذه المسيرة عشرات الخيم في خمسة مواقع تقع على بعد نحو سبعمائة متر عن الحدود مع إسرائيل، حيث اندلعت الجمعة مواجهات عنيفة وواسعة قتل خلالها 17 فلسطينياً وأصيب نحو 1200.
وأضاف البطش «نعلن أن اليوم هو يوم البداية، وسنواصل الاعتصام والتظاهر، وندعو شعبنا إلى الاستمرار وصولاً إلى يوم الزحف العظيم في 15 مايو (أيار) (لمناسبة الذكرى السبعين للنكبة)».
وقالت وزارة الصحة في قطاع غزة، إن 15 فلسطينياً قُتلوا في المواجهات، في حين أعلن الجيش الإسرائيلي أنه قتل اثنين آخرين حاولا تنفيذ هجوم مسلح قرب الحدود، وهو الأمر الذي لم تعلق عليه أي جهة فلسطينية حتى مساء أمس.
وأشارت وزارة الصحة في غزة إلى أربعة قتلى من سكان مناطق شمال القطاع، وثلاثة آخرين من سكان مدينة غزة، وآخر من وسط القطاع، وثلاثة آخرين من خان يونس، إلى جانب قتيل من رفح جنوب القطاع.
وسقط أول قتيل فلسطيني في قصف مدفعي استهدفه خلال تواجده في أرضه الزراعية شرق مدينة خان يونس جنوب قطاع غزة في ساعة مبكرة من فجر الجمعة. حيث كان يقوم بحراستها ليلاً قبل أن يتم استهدافه بقذيفة مدفعية. وقالت مصادر لـ«الشرق الأوسط»، إن اثنين من مجمل عدد القتلى أمس هما من عناصر «كتائب القسام» الجناح العسكري لحركة «حماس»، وقتلا برصاص قناصة الجيش الإسرائيلي، مشيرة إلى أن القتيلين هما جهاد فرينة وأحمد عودة، لكن «كتائب القسام» لم تصدر نعياً لهما.
وذكرت الوزارة، أن عدداً كبيراً من الجرحى تعرضوا لإطلاق نار متعمد من قناصة جيش الاحتلال في الأجزاء العلوية من أجسادهم؛ ما أدى إلى إصابة عدد منهم بجروح ما بين الحرجة والخطيرة، وبخاصة في الرأس والرقبة والصدر. وأشارت إلى أنها أجرت استعدادات مسبقة لتقديم العلاج لعدد كبير من الجرحى ميدانياً، لكنها أقرت بأن العدد الكبير من الشهداء والجرحى تسبب في نقص بالمعدات الطبية والأدوية المختلفة لعلاج المصابين. وناشدت الجهات المانحة توفير الأدوية والمواد الطبية الخاصة بأقسام الطوارئ والعمليات الجراحية والعناية المركزة بشكل عاجل.
وتوافد أكثر من 30 ألف فلسطيني إلى الحدود للمشاركة في تلك المسيرات، رافعين الأعلام الفلسطينية، ومرددين شعارات تؤكد على حق العودة إلى أراضيهم المحتلة عام 1948. في حين أظهرت صور نشرتها وسائل إعلام إسرائيلية، أن المئات من الجنود الإسرائيليين وصلوا بحافلات إلى الجانب الآخر من الحدود، وسط انتشار عشرات القناصة والضباط الكبار من الجيش لمتابعة ما يجري على الأرض وعن قرب. كما نُشرت صور أخرى تظهر استخدام الجيش الإسرائيلي طائرات «دورون» صغيرة تلقي قنابل تتسبب في حرقة بالعيون وتلف في أعصاب الجسد في حال استنشاق الدخان المنبعث منها؛ ما زاد من عدد الجرحى في المناطق الحدودية. وحاول الاحتلال التشويش على بث وسائل الإعلام من المناطق الحدودية، كما عمل على تشويش الاتصالات وإرسال رسائل للمشاركين بعدم الاقتراب من السياج الأمني.
واتهم إيال زامير، قائد المنطقة الجنوبية في الجيش الإسرائيلي، حركة «حماس» بالزج بالفلسطينيين إلى الموت، واستغلال المظاهرات الشعبية لمحاولة وضع عبوات ناسفة على السياج الأمني والإضرار بالجنود، في حين قال الناطق باسم الجيش الإسرائيلي، إن جميع القتلى حاولوا الإضرار بالسياج الأمني وجميعهم من البالغين عمراً، مشيراً إلى أن قواته قامت بقتل فلسطينيين آخرين أطلقا النار من أسلحة رشاشة صغيرة تجاه الجنود، دون أن تقع أي إصابات في صفوف قوات الجيش التي ردت بقتلهم وقصف مواقع لـ«حماس» في المنطقة.
وأطلقت المدفعية الإسرائيلية ثلاث قذائف تجاه نقطة رصد لـ«كتائب القسام» شرق منطقة جحر الديك بعد تبادل لإطلاق النار بين مسلحين وقوات الجيش في تلك المنطقة، دون معرفة مصير المسلحين. وأفيد بأن طواقم طبية حاولت إخلاءهم، إلا أن الاحتلال أطلق النار تجاههم. وقالت مصادر خاصة لـ«الشرق الأوسط» في غزة، إن المسلحين الذين أطلقوا النار تجاه الجيش الإسرائيلي يتبعون حركة «الجهاد الإسلامي».
ولوحظ خلال المسيرات الحدودية مشاركة فاعلة من قيادات «حماس»، وفي مقدمهم إسماعيل هنية، رئيس المكتب السياسي للحركة، ويحيى السنوار، رئيس الحركة بغزة، حيث تنقلوا بين الجماهير المحتشدة وصافحوا المشاركين فيها من المسنين والشباب قبل أن يلقوا كلمات حماسية. وقال إسماعيل هنية في كلمة له، إن الشعب الفلسطيني يقود زمام المبادرة ويصنع الحدث من أجل القدس وحق العودة، مشدداً على أن «لا بديل عن فلسطين، ولا حل إلا بالعودة، ولا تنازل عن شبر واحد من هذه الأرض المباركة». واعتبر المشاركة الحاشدة من الجماهير الفلسطينية تأكيداً على «التمسك بالثوابت ورداً على قرار (الرئيس دونالد) ترمب ورفضاً لصفقته»، بحسب ما قال. وأضاف: «الشعب الفلسطيني يؤكد أنه موحَّد في خندق الثوابت، وعلى رأسها حق العودة والقدس ومواجهة الصفقات المشبوهة». وتابع: «غزة رغم المعاناة والحصار تخرج اليوم لحماية الثوابت ومسيرة اليوم هي البداية للعودة إلى كل أرض فلسطين».
مسيرة العودة الكبرى
من جهته، قال يحيى السنوار، قائد «حماس» في غزة، إن مسيرة العودة الكبرى «رسالة من شعبنا الفلسطيني للمحاصرِين بأن يعيدوا حساباتهم، وأنه على العالم أن يلتقط هذه الرسالة»، مبيناً أن الشعب الفلسطيني لن يقبل باستمرار الحصار المفروض عليه. وشدد على أن فعاليات مسيرة العودة الكبرى لن تتوقف وستستمر، مؤكداً أن الشعب الفلسطيني سيعود إلى أراضيه التي هُجر منها. وقال «إن مسيرة العودة ستستمر ولن تتوقف حتى ننطلق في اللحظة الحاسمة التي نقتلع فيها هذه الحدود الزائلة». واعتبر أن الشعب الفلسطيني يدشن اليوم مرحلة جديدة من نضاله وكفاحه الوطني على طريق التحرير والعودة، مشيراً إلى أن مسيرة العودة «تصوّب المسار، وتؤكد أنه لا يمكن التفريط والتنازل».
وأعلنت هيئة تنسيق مسيرة العودة عن انتهاء فعالياتها مساء أمس (الجمعة)، داعية إلى تواصل الاعتصام، وإلى أن يشارك فيه سكان الضفة والقدس وفلسطينيو الداخل والشتات.
وفي الضفة الغربية، أصيب عشرات الفلسطينيين في مسيرات حاشدة شهدتها مدن وبلدات في الضفة الغربية ضمن المسيرات الأسبوعية كل يوم جمعة؛ احتجاجاً على القرار الأميركي بشأن الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل. واشتبك فلسطينيون غاضبون مع الجنود الإسرائيليين في رام الله والبيرة وفي قرية بدرس غرب رام الله وفي قرية قصرة جنوب شرقي نابلس، وأمام الحرم الإبراهيمي في الخليل، وفي قرية كفر قدوم شرق محافظة قلقيلية. ورشق المتظاهرون الجنود بالحجارة والزجاجات الفارغة، في حين أطلق الإسرائيليون الرصاص الحي والمطاطي وقنابل الغاز والصوت.
واتهمت السلطة الفلسطينية إسرائيل باستخدام سياسة الإعدام الميداني ضد المتظاهرين العزل في قطاع غزة، وحمّلت الحكومة الإسرائيلية المسؤولية الكاملة عن ذلك. وأدان أمين سر اللجة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، صائب عريقات «العدوان الإسرائيلي المدروس، وعمليات الإعدام الميداني على الحراك السلمي والحضاري لأبناء شعبنا العزّل، وإعدام 10 شهداء وجرح ما يرنو على 1000 جريح (حتى صياغة البيان)، واستهداف المتظاهرين السلميين بالرصاص الحي والقنابل الغازية والصوت، بما في ذلك استهداف الطواقم الطبية». وحمّل عريقات حكومة الاحتلال الإسرائيلية ودول العالم قاطبة «المسؤولية الكاملة عن حياة وسلامة أبناء شعبنا العزّل من المتظاهرين السلميين»، وطالب المجتمع الدولي «بالخروج عن صمته وإداناته اللفظية والتدخل العاجل في اتخاذ الإجراءات الفورية لردع جرائم إسرائيل ووقف مجازرها بحق أبناء شعبنا ومحاسبتها عملاً بأحكام القانون والشرعية الدولية».
الاستعداد الإسرائيلي للمسيرات الفلسطينية
وكانت إسرائيل قد استعدت للمسيرات الفلسطينية بإطلاق حملة إعلامية كبيرة ترافقت مع حشود عسكرية وتهديدات بإطلاق الرصاص على كل من يقترب من الجدار في قطاع غزة تحديداً. وأعلنت أنها نشرت مئات القناصة على طول الحدود لإطلاق الرصاص على كل من يقترب من الشريط الحدودي. ودفعت بقوات كبيرة وأرتال الدبابات والمجنزرات لتتخندق بشكل علني فوق كل مرتفع، وأرسلت إلى الجو طائرات الرصد. وأعلنت كل المناطق المتاخمة للشريط الحدودي منطقة عسكرية مغلقة. ولم تتردد في إطلاق الرصاص الكثيف بهدف الإصابة، فضلاً عن الآلاف من قنابل الغاز المسيل للدموع. وزعمت أنها تخشى من قيام «حماس» باستغلال الفوضى العارمة لتنفيذ عمليات تفجير كبيرة ضد الإسرائيليين. وقام رئيس أركان الجيش، غابي ايزنكوت، بالإشراف شخصياً على ممارسات جنوده لقمع المسيرات.
واستخدم مسؤولون أمنيون رفيعو المستوى، على رأسهم وزير الأمن الإسرائيلي، أفيغدور ليبرمان، والناطقان بلسان الجيش والحكومة، اللغة العربية لمخاطبة الفلسطينيين في قطاع غزة لثنيهم عن المشاركة في المسيرة. وكثفت إسرائيل أيضاً مساعيها الإعلامية والدبلوماسية لسحب الشرعية من فعاليات مسيرة العودة الكبرى، ولتحميل حركة «حماس» مسؤولية المسيرة، وما سيترتب عليها من مواجهات وإصابات.
وتوجه كل من ليبرمان ومنسق عمليات الحكومة في المناطق المحتلة، يوآف مردخاي، والمتحدث باسم رئيس الحكومة، أوفير جندلمان، والناطق بلسان الجيش الإسرائيلي، أفيخاي أدرعي، باللغة العربية لكتابة منشورات على صفحاتهم في مواقع التواصل الاجتماعي في محاولة للتأثير على الفلسطينيين، ومنعهم من الخروج في المسيرة. وشاركوا في فيديوهات تحريضية وترهيبية، تُظهر الجيش يطلق الرصاص على فلسطيني، وشاركوا في نشر فيديو آخر يُظهر مسلحين قرب الحدود لتبرير أعمال القتل، كما ركزوا على تسمية مسيرة العودة الكبرى «مسيرة الفوضى» واستخدام وسم «حماس تستغلكم» وكتابة المنشورات بهذه الروح. وكتب ليبرمان على صفحته في «تويتر»: «إلى سكان قطاع غزة: قيادة حماس تغامر في حياتكم. كل من يقترب من الجدار يعرّض حياته للخطر. أنصحكم مواصلة حياتكم العادية والطبيعية وعدم المشاركة في الاستفزاز».
«مش حرام؟»
ونشر جندلمان شريطين مصورين يومي أمس وأول من أمس، في أحدهما هدد الفلسطينيين بإطلاق الرصاص الحي عليهم مثل الشخص الذي يظهر في الفيديو وهو يتلقى رصاصة من الجنود، وفي نهاية الفيديو تظهر كلمات «حماس ترسلكم للمظاهرات وتعرّض حياتكم للخطر». وكتب معلقاً على صفحته في «فيسبوك» «مش حرام؟ هذا أقل ما سيواجه كل من يحاول أن يجتاز الجدار الأمني الفاصل بين قطاع غزة وإسرائيل. كما يعلم كل فلسطيني في قطاع غزة، حماس لا ترسل أبناء قادتها إلى الجدار وهي تعلم جيداً لماذا. لا تنجروا وراء محاولاتها لاستغلالكم من خلال مسيرة الفوضى. أعذر من أنذر».
ونشر فيديو آخر قبل ظهر أمس، زعم فيه أن مسلحين من «حماس» يتواجدون قرب الجدار الحدودي العازل، في مسعى لتبرير إطلاق الرصاص القاتل ضد الفلسطينيين. وكتب جندلمان معلقاً على الفيديو: «إرهابيون مسلحون ينتمون لحماس وقفوا قبل قليل قرب الجدار الأمني الفاصل بين قطاع غزة وإسرائيل في إطار مسيرة الفوضى التي ترسل آلاف الفلسطينيين، بعضهم يحملون السلاح، ليجتازوا الجدار من أجل التسلل إلى أراضينا. لكل دولة الحق بحماية حدودها وهذا ما نفعل». بدوره، كتب أدرعي على صفحته: «مش باصات سلمية ولا باصات مخيم صيفي مثل باصات الطلاب في القاهرة، بل هي باصات الفوضى التي ستجلب الأطفال والنساء إلى ساحة قتال بينما سيبقى قادة الحركة في منازل تتمتع بكهرباء على مدار الساعة».