«دون جوان المكتبات» ألبرتو مانغويل: لديّ 40 ألف كتاب... ومصيرها يقلقني

الكاتب الأرجنتيني قال لـ«الشرق الأوسط» إنه لم يقصد ابتكار نوع جديد من الأدب

مانغويل في مكتبته
مانغويل في مكتبته
TT

«دون جوان المكتبات» ألبرتو مانغويل: لديّ 40 ألف كتاب... ومصيرها يقلقني

مانغويل في مكتبته
مانغويل في مكتبته

قبل خمس عشرة سنة تقريباً، أطل علينا كاتب لم نكن، آنذاك، قد سمعنا به عربياً، اسمه ألبرتو مانغويل، أرجنتيني المولد، كندي الجنسية، مقيم في فرنسا، ليحدثنا عن القراءة التي حرث في تاريخها وفنونها. واستمرت الكتب المترجمة له عبر «دار الساقي»، لنقرأ عبرها انطباعات القارئ المثقف النهم لكتب الآخرين منذ بدأت الكتابة أشكالها الأولى مسمارية على ألواح الطين في بلاد الرافدين، حتى تبلورها بأبجدية واضحة واختراع آلة الطباعة.
ويمكن القول إن ألبرتو مانغويل قد أحدث نوعاً أدبياً جديداً، اسمه «علم القراءة»، دون أن يعي في حينها أنه يبتكر نوعاً أدبياً جديداً، كما يقول في حواره مع «الشرق الأوسط». وقد وجه قراءه عبر تلك الكتابات لمتابعة تفاصيل عميقة عن القراءة، وعن الكتب والمكتبات؛ كتب مثل «فن القراءة» و«تاريخ القراءة» و«يوميات القراءة» و«المكتبة في الليل»، وعناوين أخرى، احتفت بفعل القراءة وتطوره مثل أي تقاليد أخرى، بعد أن كانت الدراسات الحديثة تركز تاريخياً على اختراع الكتابة وتطورها. ومن أفضال مانغويل أنه أعاد الاعتبار للثقافة الإنسانية جمعاء، فلم يتوقف عند ثقافة محددة في قراءاته، فهو مطلع على آداب الشعوب القديمة، وعلى نتاج أدباء معاصرين، لهذا تزدحم مكتبته، وتتعدد غرفها وأماكنها إلى حد أنها وصلت إلى 40 ألف عنوان كتاب.
وهذا حوار تم معه عبر رسائل إلكترونية...
> بإصدارك كتباً عن القراءة، تاريخها وفنها، استحدثت ظاهرة غير مسبوقة في الأدب، بمعنى أصح: نوعاً أدبياً جديداً... كيف حدث أن قرأت كتباً معينة بطريقة أخرى غير الطريقة النقدية التقليدية؟
- لم أكن على دراية حينها بأنه كان نوعاً جديداً؛ إن تعريفات النوع الأدبي تتعلق بقيود لا أقبلها، وكل كاتب (ما لم يكن لديه أو لديها عقل بيروقراطي) يمزج ويناسب بين ما نتفق أو نختلف على تسميته «النوع». فلقد مزج براوننغ القصائد الشعرية مع المناجاة المسرحية، وجمع ابن بطوطة بين قصص الرحلات والسير الذاتية، وكتب بورخيس القصص الخيالية التي بدت مثل دراسات، كما أن أبو العلاء المعري نسج الكتابة اللاهوتية في الكوميديا الشعرية. ولأن القراءة بالنسبة لي هي الوسيلة الطبيعية لتجربة العالم، فإن تعليقاتي على ما أقرأ هي نوع من أنواع السير الذاتية والنقد والأبحاث التاريخية، وفي بعض الأحيان مقتطفات من قصص مختلفة.
> أتساءل عما إذا كان بين أكوام الكتب الضخمة في مكتبتك... هناك كتب (وربما مؤلفون معينون) لديهم تأثير أعمق على شخصيتك من مؤلفات ومؤلفين آخرين.
- بكل تأكيد، غير أن كثيراً من هذه التأثيرات يتوقف على الزمن والمكان. في لحظات معينة، كانت كتب تشيسترتون والقديس يوحنا، وكتب أليس (سلسلة كتب للمراهقين للكاتبة فيليس رينولدز نايلور)، ذات تأثير رهيب على نفسي. وفي لحظات أخرى، كان تأثير مسرحية «الملك لير» و«الليالي العربية» عميقاً عليّ. أما الآن، فإنني أعاود باستمرار القراءة لميشيل دي مونتين ودانتي، على وجه التحديد. وكذلك بورخيس وستيفنسون وأبو نواس وفيرجينيا وولف وكالفينو وأولغا سيداكوفا وصادق هدايت وكافكا وميغيل هرنانديز ومحمود درويش وسينثيا أوزيك ونورمان مانيا وخوان رولفو. ويبدو أن القائمة ممتدة بلا نهاية.
> قلت ذات مرة إن الإلحاح للحصول على كتاب وامتلاكه «هو نوع من الرغبات التي لا يمكن مقارنتها بأية متعة أخرى»... أنت تكتب أيضاً الآن الرواية وغيرها، فهل متعة الكتابة تماثل متعة القراءة عندك؟
- إن الرغبة في اقتناء كتاب ما لا يمكن مقارنتها بالرغبات الأخرى، بسبب أنها لا ترتبط بالأنانية أو الجشع أو الشهوة، بل إنها الدافع الذاتي لأن تكون جزءاً من شيء أعظم منك، وأن تنتمي إلى كوكبة قد تمنحك معنى حقيقياً لوجودك في الحياة، وتلك الإرادة هي التي تستكمل المكتبة التي تعبر عن كينونتنا. وإنني أتوق كثيراً لاقتناء كتاب ما، كما قد أتوق تماماً لأصبع مفقودة.
> ذكرت صحيفة «ذي سكوتلاند أون صنداي» ذات مرة أن «ولع الكاتب الأرجنتيني ألبرتو مانغويل بالقراءة يشبه كازانوفا وولعه بالنساء»... هل راق لك مثل هذا التشبيه؟
- أجده طريفاً للغاية. لقد وصفني جورج شتاينر بتعبيره «دون جوان المكتبات»، وإنني أحب التفكير في الكتب بطريقة إيروتيكية.
> كم تضم مكتبتك من عناوين تقريباً؟
- لديّ في حدود 40 ألف عنوان كتاب.
> وماذا تنوي أن تفعل بهذا الموروث الكبير من الكتب... هل ستهديها لاحقاً لمكتبات وطنية مثلاً أم ستتركها لعائلتك؟
- بصراحة، حتى الآن لا أدري ماذا سأفعل بهذه الكتب، ولكن من المؤكد أن عائلتي لا تريد أن تتورط بعبء مكتبة بهذا الحجم.
بورخيس يشبه كتبه
> قرأت لبورخيس لمدة أربع سنوات كاملة، وهو الذي كان مديراً للمكتبة الوطنية في خمسينات القرن الماضي، المنصب الذي تشغله أنت الآن... فهل يمكنك إخبارنا عن كتبه المفضلة؟ وأي أنواع الكتب التي كان يفضلها أكثر من غيرها؟
- كان بورخيس يقرأ الأدب الإنجليزي بصورة أساسية، بيد أن الكتابات الشرقية والعربية كان لها أبلغ الأثر على أعماله الأدبية. كان يحب القصص الملحمية، وكان لديه ذوق خاص لأدب العنف والمشاعر المرهفة. وتأتي القوة الكبيرة في كتاباته، كما أعتقد، من مقدرته الفريدة على تحويل كل شيء يقرأه إلى «بورخيس». ومن بين أفضل الكتاب المقربين إليه كان ستيفنسون وكيبلينغ وتشيسترتون وكارلايل ودي كوينسي وروبرت فروست وإيكا دي كويروز ودانتي.
> ذكرت في كتابك حول بورخيس أنه لم يلتزم أبداً بالانتهاء من قراءة كتاب ما. كقارئ، هل تلتزم أنت دائماً بإنهاء قراءة أي كتاب في حال عدم الاستمتاع بقراءته؟
- أبداً، أنا أشرع في قراءة صفحة أو صفحتين من أي كتاب، فإن لم يغرني ما أقرأه بالاستمرار والمواصلة، فإنني أتخلى عن ذلك الكتاب فوراً. ربما أعاود قراءته مرة أخرى في المستقبل، غير أن علاقتي المبدئية به تكون قد انقطعت.
> هل تشعر أن هناك فارقاً بين بورخيس كإنسان وبين كتبه؟ لقد أدركت أنك لم تذكر كتبه بين تلك المفضلة لديك، بحسب قائمة في لقاء صحافي معك. صحح لي إن أغفلت شيئاً.
- بورخيس الإنسان تقاسم مع بورخيس الكاتب سمات كثيرة، بينها الذكاء والدعابة والاعتبارات الأخلاقية، ولكنني لم أتعرف عليه بصورة مقربة ووثيقة، وأعتقد أن الصديق الحقيقي الوحيد لديه كان أدولفو بيوي كاساريس؛ لقد كان بورخيس حريصاً على خصوصيته. وما من شك في أن كتب بورخيس هي من ضمن الكتب المفضلة عندي، وأعتقد أنك اطلعت على قائمة عن كتبي المفضلة باللغة الإنجليزية، وترجمات بورخيس إلى اللغة الإنجليزية هي شيء أمقته.
> برأيك هل اتهم بورخيس بمعاداة القومية الأرجنتينية لمجرد أنه تبنى الميثولوجيا والتراث الأجنبي في كتاباته، مثل «الليالي العربية»، متجاهلاً الميثولوجيا الوطنية؟
- عارض بورخيس الحمقى من أنصار القومية الأرجنتينية الرعناء، الذين كانوا مثل أولئك الذين قالوا، وفقاً للمؤرخ اليوناني القديم بلوتارخس، إن قمر إسبارطة هو أكثر جمالاً وبهاء من قمر أثينا. وقال إنه يمكننا أن نكون أرجنتينيين بأن نكون عالميين.
> ما أهدافك بوصفك مديراً للمكتبة الوطنية في الأرجنتين الآن؟ ومجلتكم تنشر باللغة الإسبانية، فهل فكرتم في نشر إصدارات بلغات أخرى، مثل الإنجليزية، بغية الوصول إلى قطاع أكبر من الجمهور؟
- لقد فكرت في الأمر، وكم أود القيام به، ولكن تنقصنا الميزانية الكافية للتنفيذ. أود أن تكون المكتبة الوطنية مكتبة عالمية حقاً، ونحن نوقع على اتفاقيات مع كثير من المكاتب الوطنية في بلدان أخرى حول العالم. كما أننا نعمل على تنظيم معرض مشترك مع مدير مجلس المكتبات العامة في القاهرة، خالد الخميسي؛ معرض كبير يحمل عنوان «بورخيس والعالم العربي».
> حصلت أخيراً على جائزة «فورمنتور دي لاس ليتراس» المرموقة، لإنجازاتك على مدى حياتك الأدبية... هل تشعر بأن الجائزة هي نوع من أنواع المكافأة للكاتب على جهده الشاق؟ وفي هذا الصدد، هل سبق لك أن قرأت لمؤلفين ما وشعرت بالدهشة لأنهم لم يحصلوا حتى الآن على أية جوائز؟
- الجائزة هي ثمرة آراء بعض القراء (في لجنة تحكيمها). وإن كان تولستوي في هيئة للحكم على أعمال شكسبير، لم يكن ليمنح شكسبير الجائزة لأن تولستوي كان يمقت الملك لير. إن الجوائز تتعلق بالآراء ليس إلا، وهو السبب في أن بورخيس أو محمود درويش لم يحصلا على جائزة نوبل، في حين أن داريو فو وبوب ديلان حصلا عليها. واليوم، لو لي حق القرار، كنت سأمنح جائزة نوبل إلى نورمان مانيا أو سيس نوتبوم أو آن كارسون أو مارغريت أتوود أو إيان ماك - إيوان.
المكتبات والحروب
> وصفت إعادة افتتاح المكتبة الوطنية اللبنانية، التي دمرت خلال الحرب الأهلية عام 1975، بأنه «مشروع سياسي للمصالحة بين جموع الشعب اللبناني». أود أن أضيف أنه مما يؤسف له، كما تعلم، أن المئات من الكتب النادرة المطبوعة والمخطوطات التي لا تقدر بثمن، وغيرها من المعالم الأثرية، قد نالها الدمار أو النهب أو الحرق في البلدان التي مزقتها الحروب، مثل العراق وسوريا واليمن وفلسطين. وأعتقد أنهم في حاجة إلى اهتمامكم كأحد الكتاب البارزين في العالم الآن.
- أوافقك الرأي تماماً، وهذا هو السبب في أنني أثناء تقريظ أحد الكتب لملحق صحيفة «التايمز»، أشرت إلى أنه عندما تعرضت المنازل الفلسطينية للنهب في عام 1948، سُرقت الكتب والمخطوطات من بيوت الفلسطينيين ثم ظهرت مرة أخرى في المكتبة الوطنية الإسرائيلية. وعندما أغلق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، بشكل تعسفي، المكتبة الأوكرانية في موسكو، وأمر بسجن مديرها، قررت أن افتتح فرعاً للمكتبة الأوكرانية داخل المكتبة الوطنية في الأرجنتين، حيث توجد الآن. لا يمكننا التغافل عن أعمال السرقة والقرصنة والرقابة القميئة، ولا أن نلتزم الصمت المطبق حيالها، وإلا صرنا شركاء في تلك الجرائم.
> نشرت «دار الساقي» أغلب كتبك المترجمة إلى العربية. وبالنسبة لي، الترجمة جيدة للغاية. هل أنت على علم بترجمة أخرى غير التي نشرتها «دار الساقي»، أعني باللغة العربية؟
- أعتقد أن هناك ترجمة أخرى، ولكنني لا أذكر أين تمت. لقد كانت «دار الساقي» مخلصة لأعمالي على مدى سنوات؛ منذ أيام السيدة الرائعة مي غصوب، الصديقة العزيزة التي أفتقدها كثيراً.


مقالات ذات صلة

لودفيغ فتجنشتاين... ثورة هادئة على الفلسفة التقليدية

كتب لودفيغ فتجنشتاين... ثورة هادئة على الفلسفة التقليدية

لودفيغ فتجنشتاين... ثورة هادئة على الفلسفة التقليدية

ضمن سلسلة «الفلسفة» التي تصدر عن الهيئة المصرية العامة لقصور الثقافة، صدرت طبعة جديدة من كتاب «لودفيغ فتجنشتاين» للباحث المصري الراحل د. عزمي إسلام.

رشا أحمد (القاهرة)
كتب «وجوه لا تغيب»... بورتريهات ترسم ملامح رموز ثقافية وفنية

«وجوه لا تغيب»... بورتريهات ترسم ملامح رموز ثقافية وفنية

يقدم كتاب «وجوه لا تغيب: بورتريهات في محبة مبدعين» للناقد المصري الدكتور علاء الجابري حالة من القراءة التحليلية الممزوجة بالمعلومات وبالتأمل.

عمر شهريار
كتب صراع الإمبراطوريات والأفكار في القرن التاسع عشر

صراع الإمبراطوريات والأفكار في القرن التاسع عشر

عن دار «صفصافة» للنشر في القاهرة، صدرت حديثاً رواية «الروزنامجي» للروائي المصري هشام البواردي، وتطرح تساؤلات جذرية عن الأرض والمرض.

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
ثقافة وفنون «هيئة الكتاب» المصرية تنشر أعمال شكري عياد وشاكر عبد الحميد وعبد الحكيم راضي

«هيئة الكتاب» المصرية تنشر أعمال شكري عياد وشاكر عبد الحميد وعبد الحكيم راضي

تعاقدت «الهيئة المصرية العامة للكتاب» مع أسرة الناقد والأديب الراحل الدكتور شكري عيّاد؛ لإصدار وإتاحة مؤلفاته الكاملة ضمن خطط الهيئة لإحياء التراث النقدي العربي

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
ثقافة وفنون «لا مفاتيح هناك»... المدينة حين تتحول إلى مسرح عبثي

«لا مفاتيح هناك»... المدينة حين تتحول إلى مسرح عبثي

تتخذ رواية «لا مفاتيح هناك»، للروائي المصري أشرف الصباغ، من السخرية نهجاً لها، سخرية من الذات ومن العالم، ومن المدينة الكبيرة التي لا ترحم.

عمر شهريار

لودفيغ فتجنشتاين... ثورة هادئة على الفلسفة التقليدية

لودفيغ فتجنشتاين... ثورة هادئة على الفلسفة التقليدية
TT

لودفيغ فتجنشتاين... ثورة هادئة على الفلسفة التقليدية

لودفيغ فتجنشتاين... ثورة هادئة على الفلسفة التقليدية

ضمن سلسلة «الفلسفة» التي تصدر عن الهيئة المصرية العامة لقصور الثقافة، صدرت طبعة جديدة من كتاب «لودفيغ فتجنشتاين» للباحث المصري الراحل د. عزمي إسلام (1931- 1987) والذي يتناول التأثير اللافت لهذا المفكر النمساوي على الفلسفة المعاصرة.

وُلد فتجنشتاين في فيينا لأسرة صناعية ثرية ومثقفة، ثم اتجه إلى دراسة هندسة الطيران في مدينة «مانشستر» الإنجليزية، قبل أن يتخلى عن هذا الاتجاه ويتحول تماماً إلى المنطق والرياضيات في جامعة «كامبريدج» متأثراً بالمفكر البريطاني برتراند راسل الذي أشرف على دراسته للفلسفة. تطوع في جيش بلاده خلال الحرب العالمية الأولى وأمضى فترة معلماً في قرية نمساوية، ثم عاد لاحقاً إلى بريطانيا كأستاذ.

ويعد كتابه «رسالة فلسفية منطقية» أبرز مؤلفاته والذي نُشر لأول مرة عام 1921 ويذهب فيه إلى أن حدود اللغة هي حدود عالمنا، وما لا يمكن التعبير عنه بها يجب الصمت عنه، أما «تحقيقات فلسفية» فنشر بعد وفاته عام 1951 ويؤكد فيه على أن المعنى الحقيقي للكلمات يكمن في سياقها الاجتماعي وليس في مدلولها الاصطلاحي البحت، وهي الفكرة التي كان لها تأثير بالغ على مجلات أخرى كالأدب وعلم النفس.

ويشير المؤلف إلى أنه حصل على أطروحة الدكتوراه في فلسفة المفكر النمساوي لأن أفكاره كانت نقطة تحول حاسمة في تاريخ الفكر الفلسفي الحديث ويرجع ذلك إلى أهمية المنهج الذي تبناه، وهو المنهج التحليلي المنطقي، يتناول عبارات اللغة التي نصوغ فيها الأسئلة والمشكلات الفلسفية، حيث أثبت أن معظم هذه المشكلات ليست بمشكلات حقيقية وأنها لم تنتج إلا عن سوء استخدام اللغة.

أصبح إسهام فتجنشتاين أشبه ما يكون بالثورة الهادئة على الفلسفة التقليدية، وذلك لأنها غيرت من مفهومها ومجالها ووظيفتها فأصبحت الفلسفة لديه عبارة عن تحليل للغة وانتقل مجال البحث فيها من البحث في الأشياء في ذاتها كالوجود من حيث هو موجود أو العلة أو المطلق أو الجوهر أو اللامتناهي أو العدم إلى البحث في العبارات والألفاظ التي يقولها الفلاسفة وتحليلها لبيان ما له معنى منها وما لا معنى له، أو لبيان الصحيح منها والخاطئ بناء على اتفاقها أو اختلافها مع قواعد الاستخدام العادي المنطقي. ومن ثم تغيرت مهمة الفلسفة فأصبحت تنصب على تحليل مشكلات الفلسفة بدلاً من إقامة أنساق فكرية أو ميتافيزيقية جديدة. وتأثر بأفكاره بشدة عموم التيار الفكري الوضعي التحليلي.

واعتمد المؤلف في دراسته لفلسفة فتجنشتاين على مؤلفاته نفسها فضلاً عن بعض محاضراته بالجامعة، وكذلك محاضراته الخاصة التي نشرت في الكتابين «الأزرق» و«البني»، وأيضاً ملاحظاته عن المنطق والرياضيات كما رجع كذلك إلى ما نشر من رسائله إلى براترند راسل، ولم يكن ذلك بالمهمة اليسيرة نظراً لصعوبة كتاباته وتعقيداتها حتى إن كثيرين من تلامذته والباحثين عموماً كانوا يصفونه بـ«الفيلسوف المتعب للغاية».

ولد لودفيغ يوهان فتجنشتاين في السادس والعشرين من أبريل (نيسان) 1889 وكان والده مهندساً مرموقاً يشغل منصباً قيادياً في صناعة الحديد والصلب بالنمسا، كما كان لأم فتجنشتين أثر بالغ في خلق الميل الفني القوي في الأسرة، فقد كانت هي وزوجها موسيقيين من الدرجة الأولى حتى لقد أصبح المنزل في وقت ما مركزاً لحياة موسيقية جميلة وخاصة حينما كان يتردد عليهم صديق الأسرة الحميم يوهان برامز، الموسيقار العالمي الشهير.

اهتم فتجنشتاين أثناء دراسته في «كامبريدج» بالفلسفة وبأسس الرياضيات الحديثة اهتماماً كبيراً كما استفاد من النشاط الفكري الضخم الذي كان موجوداً في الجامعة قبيل الحرب العالمية الأولى، إذ كان راسل في أوج تفكيره الفلسفي والمنطقي وأخرج هو وألفريد نورث هوايتهد كتابهما «مبادئ الرياضيات» الذي يعد أحد العلامات المميزة في تاريخ المنطق.

على الرغم من اكتساب فتجنشتاين في إنجلترا للجنسية الإنجليزية، فإنه لم يكن معجباً بأساليب الإنجليز في الحياة كما كان يكره الجو الأكاديمي في كامبريدج في ذلك الوقت وحينما انتهت مدة زمالته في كلية ترينتي عام 1930 فكر في زيارة الاتحاد السوفياتي وزاره بالفعل مع أحد أصدقائه. وحين توفي في 29 أبريل 1951 في منزل الطبيب الذي كان يعالجه في بريطانيا، كانت آخر عبارة قالها لزوجة الطبيب: «قولي لهم إنني قد عشت حياة رائعة».

مال إلى البساطة في كل شيء وكان ذلك واضحاً من ملابسه ومن أثاث حجراته في الجامعة، فلم يكن يتمسك في ملابسه بالطريقة التقليدية مثل الأساتذة بل كان يرتدي دائماً بنطلوناً خفيفاً وقميصاً مفتوح الصدر بلا رباط عنق. وتكشف طريقته في إلقاء محاضراته عن أكثر من جانب من جوانب شخصيته، مثل البساطة والجدية والإخلاص للعمل والحب الشديد للحق وأحياناً الخشونة والجفاء والقسوة.

يؤكد فتجنشتاين أن المعنى الحقيقي للكلمات يكمن في سياقها الاجتماعي وليس في مدلولها الاصطلاحي البحت

لم تكن محاضراته تأخذ الطابع التقليدي، وإنما كانت أشبه باجتماعات برغم إصراره على تسميتها بالمحاضرات. كان يتكلم بلغة إنجليزية وبلهجة الرجل الإنجليزي المثقف وكان صوته رناناً عالي النبرة، وإن لم يكن منفراً، ولم تكن الكلمات تخرج من فمه متدفقة، بل بعد جهد كبير. وجهه كان سريع الحركة بطريقة ملحوظة كما كان معبراً جداً أثناء الحديث وكانت عيناه عميقتين، وغالباً ما كانتا تحملان شيئاً من القسوة في التعبير.

لم تكن مؤلفات فتجنشتاين كثيرة متعددة حتى إنه لم ينشر في حياته إلا كتاباً واحداً هو «رسالة منطقية فلسفية» ومقالاً له بعنوان «بعض ملاحظات على الصورة المنطقية» وبقية ما نشر عدا ذلك كان كله بعد وفاته.

وأهم ما يلاحظ في كتاباته خلوها تماماً من كل زخرفة أدبية أو رطانة في الأسلوب، فنجدها بسيطة قوية تعتمد على خصوبة الخيال، وهو ما تأثر بها كثير من الأدباء لاحقاً. استخدم التحليل كمنهج في الفلسفة لا كغاية، فهو لا يستهدف التحليل لمجرد تقسيم العالم إلى مجموعة من الوقائع أو رد اللغة إلى عدة قضايا أو رد المعنى إلى طريقة استخدامنا للألفاظ، إنما هو يستخدمه لكي يوصله إلى غاية أبعد من ذلك، وهي توضيح المشكلات الفلسفية التي إذا ما وضع معظمها تحت مجهر التحليل زال عنها كل غموض، واتضح أنها مشكلات زائفة أو أنها ليست بمشكلات أصلاً، على حد تعبيره.

وقد عبر عن هذا المعنى تعبيراً دقيقاً بقوله: «إن معظم القضايا والأسئلة التي كُتبت عن أمور فلسفية ليست كاذبة، بل هي خالية من المعنى، فلسنا نستطيع إذن أن نجيب عن أسئلة من هذا القبيل، وكل ما يسعنا هو أن نقرر عنها أنها خالية من المعنى، فمعظم الأسئلة والقضايا التي يقولها الفلاسفة إنما تنشأ عن حقيقة كوننا لا نفهم منطق لغتنا، فهي أسئلة من نوع السؤال الذي يبحث فيما إذا كان الخير هو نفسه الشيء الجميل على وجه التقريب، وإذن فلا عجب إذا عرفنا أن أعمق المشكلات ليست في حقيقتها مشكلات على الإطلاق».


«وجوه لا تغيب»... بورتريهات ترسم ملامح رموز ثقافية وفنية

«وجوه لا تغيب»... بورتريهات ترسم ملامح رموز ثقافية وفنية
TT

«وجوه لا تغيب»... بورتريهات ترسم ملامح رموز ثقافية وفنية

«وجوه لا تغيب»... بورتريهات ترسم ملامح رموز ثقافية وفنية

يقدم كتاب «وجوه لا تغيب: بورتريهات في محبة مبدعين» للناقد المصري الدكتور علاء الجابري حالة من القراءة التحليلية الممزوجة بالمعلومات وبالتأمل في حياة ومسيرة عدد من المبدعين والمفكرين والفنانين المؤثرين في مجالاتهم، مستخدماً الصورة القلمية في رسم ملامحهم الثقافية والشخصية، مازجاً المعلومة بالتأويل، ومطوفاً حول عدد من الرموز الثقافية منذ نهاية القرن التاسع عشر وحتى نهايات القرن العشرين، في مجالات معرفية مختلفة، كنوع من التحية لهم ولمنجزهم وتراثهم، الذي يمثل زاداً ثقافياً مهماً لمن جاء بعدهم من أجيال لاحقة، حتى لو اختلفوا مع تلك المنجزات.

الكتاب الصادر في القاهرة عن «دار المعارف» يبتعد فيه مؤلفه عن الكتابة الأكاديمية والنقدية التي يتوقعها القارئ من ناقد وأكاديمي، مفضلاً أن يقدم أسلافه عبر لغة رشيقة ومكثفة، لا تخلو من التقدير والإعجاب والتأثر بهؤلاء الرموز، لكن دون تقديس، يقول في المقدمة: «لم يتحمس الكتاب للشخصيات وإن لم ينكر محبتها، ولم يرتد ثوب الدفاع عنها، وإن اعترف بوجود مثالب فيها، وتعامل مع العيوب والنقائص بوصفها جزءاً من طبيعتها البشرية، وركز على أبعاد الإنجاز لديها، واعتبرها مكمن التميز وسط أمواج من العاديين»، فقد حاول الجابري رسم صور لشخصيات احتلت في قلوب الأجيال وعقولها مكانة رائقة، لاستكشاف مفتاح كل شخصية.

يقدم الكتاب بورتريهات عن 16 شخصية ثقافية شهيرة، هم: أمينة السعيد، مي زيادة، جمال الدين الأفغاني، رجاء النقاش، سهير القلماوي، عبد الحميد جودة السحار، عبد الرحمن شكري، لطيفة الزيات، أحمد أمين، يحيى حقي، محمد عبده، جورجي زيدان، أسامة أنور عكاشة، سعد الله ونوس، ميخائيل نعيمة، وعاطف الطيب.

يبدأ الكتاب ببورتريه عن الصحافية المصرية الرائدة، والناشطة النسوية، أمينة السعيد، التي كانت ضمن أول دفعة جامعية تضم فتيات، والتي ترأست دار الهلال العريقة، فكانت أول امرأة تترأس مؤسسة صحافية، وتولت رئاسة تحرير مجلة «حواء»، كما كانت وكيلة نقابة الصحافيين في سابقة لا تتكرر كثيراً. وبعيداً عن الصحافة، كتبت القصة القصيرة، وكانت في أعمالها الأدبية تركز على المثالب الاجتماعية ونقد المجتمع ومشكلاته ومناقشة عاداته المتجمدة وعيوبه الداخلية. ويركز المؤلف على علاقتها بأبيها الذي أصر على أن تكمل دراستها الجامعية ولا تتزوج قبل إنهائها، وكان هذا وعدها له، ثم علاقته بزوجها بعد ذلك، ويرى الجابري أنه بسبب هذه العوامل «لا تجد عند أمينة السعيد نزق النسويين الجدد، أو كراهية مخبوءة للرجل دون داع».

وينتقل الكتاب إلى مي زيادة، وأثرها في الحياة الثقافية العربية، رغم محاولة حبسها في الرسائل المتبادلة بينها وبين العديد من المثقفين، ويرى المؤلف أن مي «لم يجن عليها شيء مثل انفتاحها على الآخرين فتعددت صورها، حتى لم يبق إلا ظلال لا تعكس شيئاً قاطعاً، فمي التي رسمها العقاد تختلف عن التي رسمها شبلي شميل، عن صورتها لدى الأب أنستاس الكرملي، عنها لدى الرافعي وطه حسين وسلامة موسى ولطفي السيد وولي الدين يكن وأنطون الجميل وغيرهم. لقد اقتربوا جميعاً منها، وكل منهم رآها من وجهة نظره هو، فظن أن روايته هي الزاوية الفاصلة الحقيقية الوحيدة، حتى كأن الإنسانة ليس لها وجود، وإنما هناك وجود لظلالها، وانعكاسات لرسمها، وأشكال لسطورها على الورق».

ويبدأ بورتريه جمال الدين الأفغاني بمشهد شديد الجدة، وهو مشهد أحفاده وهم يتعلقون بالطائرة الأميركية هرباً مما يخشون منه في بلادهم، ورغبة في الهرب منها فوق طائرة المستعمر، في حين كان جدهم الأفغاني يحمل على عاتقه طوال مسيرته مناهضة الاستعمار، وانتقل بين مصر والهند وعدة دول أخرى منادياً بالتحرر من الاستعمار، ويعرج المؤلف على جهوده في الصحافة والفكر والتجديد، وعلاقته بتلاميذه مثل الإمام محمد عبده وغيره، وكراهية الحكام له، وطرده من أكثر من بلد، لأنه كان مصدر خطر لكثير منهم، ويرتابون في وجوده في بلادهم.

ينتقل الكتاب بعد ذلك للناقد والصحافي المصري رجاء النقاش، المعروف عنه أنه كان مكتشف الأصوات الإبداعية الجديدة، فقد كتب عن الطيب صالح ومحمود درويش في بداياتهما، وكانت كتابته النقدية نموذجاً للتوسط بين الأكاديمية الجافة والتغطية الصحافية السريعة، وكتب عن الشعر والقصة والرواية والمسرح، وقد ترأس مجلتي الهلال والكواكب في مصر، و«الراية» و«الدوحة» في قطر، وتنقل بين صحف ومجلات روزاليوسف والأخبار، وأحيا الصحافة الثقافية بعد ركودها لفترة.

وفي بورتريه عن الأكاديمية والناقدة سهير القلماوي، يرصد الجابري مواطن رياداتها المتعددة وقتالها على جبهات لا تنتهي، فقد كانت أول فتاة تحصل على الماجستير تحت إشراف طه حسين في جامعة القاهرة، فكانت تلميذته النجيبة، وسافرت إلى فرنسا لإعداد رسالتها للدكتوراه عن «ألف ليلة وليلة»، وقد كافحت للاعتراف بالأدب الشعبي إلى جوار الآداب الرسمية، كما كانت أول أستاذة في جامعة القاهرة وأول امرأة تتولى رئاسة قسم اللغة العربية، وأول رئيسة للهيئة العامة للكتاب، وهي التي أطلقت معرض القاهرة الدولي للكتاب عام 1969، كما كانت لها الريادة في أدب الأطفال، والكتابة فيه، والمطالبة بالاهتمام به، فضلاً عن حضورها الثقافي خارج جدران الجامعة، ومحاولة مواكبة أحدث المناهج النقدية التي كانت جديدة آنذاك.

ويرسم الكتاب صورة للكاتبة والمترجمة والمناضلة اليسارية الدكتورة لطيفة الزيات، التي «جسدت حياتها مرحلة من الجهد النسائي، حتى شكلت حضوراً طاغياً لوجوهها المتعددة؛ مناضلة سياسية أو مترجمة أو أستاذة جامعية أو مبدعة سرد من عيار فريد»، ويتوقف عند أهمية عدد من أعمالها الأدبية والسيرية مثل «الباب المفتوح» و«الشيخوخة» و«حملة تفتيش» و«أوراق شخصية» و«صاحبة البيت» و«الرجل الذي عرف تهمته»، وكذلك عند منهجها في النقد.

وعن يحيى حقي، الموظف ذي الأصول التركية والهوى الصعيدي، يقول إنه خرج من تجربة عمله في وزارة الخارجية برؤية أكثر اتساعاً، فزار تركيا وإيطاليا وفرنسا والسعودية، بما أتاح بعداً إنسانياً واضحاً لتجربته، تجاور فيها الغربي مع غيره من التأثيرات، هذا الخليط الذي جمع المتفرقات، فتعلم التركية والألمانية والإيطالية، مضيفاً إلى الموروث المصريٍ نظيره العربي، الذي يحل بالقوة داخل الوعي المصري وظواهره، وكلك أثر الثقافة العربية على سواها.

وتتوالى البورتريهات التي تحاول التقاط ما هو جوهري في كل شخصية من التي يتناولها الكتاب، بعناوين تحاول تلخيص روح كل شخصية، مثل «عبد الحميد جودة السحار... حتمية التقاء السينما بالأدب»، و«عبد الرحمن شكري... الرائد المنسي والمنسحب النبيل»، و«أحمد أمين يسدد الكثير من ديون التراث»، و«الإمام محمد عبده الإصلاحي الذي رحل سريعاً»، و«جورجي زيدان أو الناهض للتحيزات»، و«أسامة أنور عكاشة... سيناريست بدرجة مناضل»، و«سعد الله ونوس... أمواج مسرحية وموسيقار كبير»، و«ميخائيل نعيمة والتمرد على النمط»، و«عاطف الطيب... العزف بالكاميرا».


صراع الإمبراطوريات والأفكار في القرن التاسع عشر

صراع الإمبراطوريات والأفكار في القرن التاسع عشر
TT

صراع الإمبراطوريات والأفكار في القرن التاسع عشر

صراع الإمبراطوريات والأفكار في القرن التاسع عشر

عن دار «صفصافة» للنشر في القاهرة، صدرت حديثاً رواية «الروزنامجي» للروائي المصري هشام البواردي، وتطرح تساؤلات جذرية عن الأرض والمرض، عن الغياب والبحث عن الحكايات التي تقال، وتلك التي تظل مدفونة في الحجر والجسد والخرائط القديمة، عبر سرد يمتزج فيه التاريخ بالأسطورة، والسياسة بالروح، والقرية بالميناء، في نسيج سردي نابض بالحياة، ويلامس أسئلة الإنسان الكبرى: عن العدالة والخلاص والمعنى.

في مصر أثناء القرن التاسع عشر، بين انتشار الطاعون، والصراع الخفي بين الإمبراطوريات، يصل الطبيب الإنجليزي كامبل إلى الإسكندرية، باحثاً عن رائحة الأرض الحقيقية، وحقيقة نفسه الممزقة بين الحنين والخسارة، إذ تلاحقه ذكرى ابنته «ليزا» التي اختفت مع أمها، ويقوده قدره إلى أعماق مجتمع مكلوم، تتشابك فيه خرافات الخلاص مع يقين العلم، وتلتبس فيه المعجزة بالداء. وفي قلب هذا العالم، يقف الروزنامجي، كاتب الضرائب الذي يعرف كيف تباع القرى وتوزع الأحلام، ليسجل بأمانة زائفة تقسيم البلاد والعباد.

الرواية حافلة بالشخصيات مختلفة المرجعيات الثقافية والاجتماعية والعرقية والدينية، بما يجعلها ساحة للحوار والجدل الثقافي والسياسي، خصوصاً في لحظات سياسية مأزومة، ووباء يطارد الجميع، فضلاً عن الأزمات الشخصية والوجودية لكل منهم، وتساؤلاته الروحية العميقة، وتتوزع الأحداث على خمسة فصول رئيسة، كل منها له عنوان، وهي: كامبل الإنجليزي، حياة النفوس، دلال الحبشية، المتصاحبون، الروزنامجي. وعلى مدار هذ الفصول يتنامى الصراع على السلطة والوجود والأفكار والمكتسبات، بل على الحياة، إذ تفتتح الرواية أحداثها على الوباء وانتشاره، واحتجاز الناس في محجر صحي انتظاراً للموت الذي يفتك بهم، دون العثور على دواء مناسب يعطي بعضاً من الأمل، وفي ظل هذه الأجواء يتصارع الوعي الخرافي والعقل العلمي.

يذكر أن هشام البواردي روائي مصري، من مواليد 1977 بمحافظة المنصورة، شمال القاهرة، وحاصل على بكالوريوس الصيدلة من جامعة الأزهر عام 2000، وحصل على المركز الأول في مسابقة إحسان عبد القدوس الأدبية عن روايته «الحياة عند عتبات الموت»، كما وصلت روايته «الرجل النملة» للقائمة القصيرة لجائزة ساويرس الأدبية عام 2017.

من أجواء الرواية: «تحولت الأمتعة والملابس إلى كتلة من رماد أسود، يعبث به الهواء ويطير، أمرهم كامبل ألا يدخلوا الدير مرة أخرى، وألا يقربوه، وألا يقيموا حتى صلواتهم على عتباته، وأن يتفرقوا في الأرض لو أحبوا. فزعوا من طلبه، وجُنُّوا حين طالبهم بإحضار الجير والتحاريق حتى يطهر الدير. فتح حقيبته وبحث عن قلم، عن دهان، عن لون يرسم به العلامة النكدة على بابه، وأخبرهم أن المكان موبوء، ويجب فعل هذا حفاظاً على الإنسان والحياة. اندفع الرهبان، جميعهم، ناحية كامبل، وحملوه، وقذفوا به بعيداً عن باب الدير. وتسلح كل واحد منهم بكل ما استطاع من أسلحة للاعتداء عليه لو نهاهم، وقالوا في نفس واحد: من أنت حتى تحظر بيت الرب وتمنع الخراف من دخوله؟! لم تقدر على فعل شيء للخادم أيها العاجز، فلتفعل شيئاً يُذهب الطاعون، لو تقدر».