من مفارقات القدر المؤلمة، أن يرحل ذاك المخرج الذي كرّس حياته للقبض على ذاكرة شعبه، بمرض ألزهايمر. ومن المحزن حقا ألا تكون كل تلك الأفلام التي سجّلها المخرج جان شمعون ورحل (أول من أمس)، حول بؤس الحرب وغباء الطائفية، ومآل الحقد، قد أثمرت نفعا كبيرا في منطقة، كان يظن هو نفسه، أنّ عنفها في بؤرتين هما لبنان وفلسطين، فإذا بالخراب يدبّ في أوصالها جميعها. بأفلامه الوثائقية التي أعطاها كل جهده ونبضه، يوم كان الفيلم الطويل يحتاج تمويلا ومساندة وشروطاً، حرّر شمعون نفسه من السؤال والانتظار والارتهان. كانت تكفيه كاميرا وحماس، وعين ثاقبة وصدق لا ينضب، وقليل من المال، كي ينطلق في بلد كل ما فيه يستحق أن يكون فيلما وعبرة. بدأ حياته السينمائية مع الحرب وتوفي قبل أن يرى السلام. هو من أولئك الذين أسّسوا لسينما لبنانية جديدة، تناضل من أجل الإنسان والكرامة وحق البشري في أن يعيش كليته بصرف النظر عن دينه وانتمائه السياسي، قبل أن تطوى هذه الصفحة وتبدأ موجة أكثر مرحا وفرحا.
مع مارون بغدادي وجوسلين صعب وبرهان علوية ورندا الشهال، وآخرين، مضى في تشريح كوارث الحرب من خلال عيون ضحاياها وعذاباتهم. من بيروت إلى الجنوب وفلسطين، جالت كاميرات هؤلاء السينمائيين الذين انحازوا من دون أي التباس إلى السلم قبل أي شيء آخر، ولم يؤيدوا في أعمالهم طرفا أو يدينوا آخر، باستثناء إسرائيل. كانوا يدركون جيدا أنّ القتل لا يوصل إلى غاية، خصوصا حين يكون بين أبناء البلد الواحد.
جان شمعون كان سباقاً، هو ابن البقاع والبيئة الريفية، الذي ظنّ أنّ الزراعة طريقه، أو العلوم السياسية والاجتماعية، فإذا به يجد نفسه في «معهد الفنون الجميلة»، وقد افتتح أبوابه. ثمّ كان انتقاله لإكمال دراسته السينمائية في باريس منعطفا خصوصا أنّه تصادف مع ثورة 1968 التي أحدثت زلزالا اجتماعيا وطلابيا هناك.
بدأ الرجل ثورياً، فما كاد يعود إلى لبنان، وكان يُعدّ لتصوير فيلم عن فيروز، حتى اندلعت الحرب الأهلية، وبدأ البلد ينزلق إلى الجحيم. برنامجه الإذاعي الذي لا يزال يستذكره البعض مع زياد الرحباني «بعدنا طيبين، قول الله» بقفشاته واسكتشاته وسخرياته، بدأ علامة فارقة. ثم دخل عالم الإخراج الفعلي من خلال مسلسل تلفزيوني وأعمال وثائقية، وكرت سبحة الأفلام. صوّر «تل الزعتر» بالشراكة مع المخرجين مصطفى أبو علي وبينو أدريانو، عام 1976، «أنشودة الأحرار» عام 1978 تحية لحركات التحرر.
بتعارفه على الفلسطينية المولودة لأم أميركية في عمّان مي المصري التي كانت عائدة بعد 4 سنوات من الدراسة في كاليفورنيا إلى مكان إقامتها بيروت، وجد أخيرا شريكة حياته. كانت الصبية قد رجعت من أميركا بعد أن أنهت تخصصها السينمائي ومعه بدأت فيلمها الأول «تحت الأنقاض» 1982 أثناء الحصار الإسرائيلي لبيروت، حين كانا يصعدان إلى السطح حيث يسكنان، ويجازفان في تصوير مشاهد قصف الطائرات الإسرائيلية رغم الخطورة التي يتعرضان لها مع مصورهما. ثم أخرجا معا سلسلة من الأفلام المشتركة، فيلم «زهرة القندول» (1985) الذي ذهب بهما إلى الجنوب بعد بيروت، وسلطا الضوء على دور النساء في مقاومة الاحتلال. بعده صورا معا «جيل الحرب» في متابعة لما آل إليه أناس ملأ العنف أيامهم وتفاصيل حياتهم، ثم استكملت السلسلة بـ«أحلام معلقة» عام 1992، وبقي التركيز على النساء خصوصا اللواتي خطف رجالهن أثناء الحرب، وتُركن لأقدارهن من أبرزهن في الفيلم، وداد حلواني التي دعت أهالي المخطوفين بعد أن يئست من العثور على زوجها لنكتشف في الفيلم أنّهم وصلوا إلى 17 ألفا بين مفقود ومخطوف. ويستكمل جان شمعون مطاردة آلام الحرب ونسائها من خلال قصة الطبيبة الجنوبية ليلى نور الدين في فيلم «رهينة الانتظار» عام 1994.
العمل مع زوجته مي أكسب أفلامه بعدا آخر. كانا يتقاسمان الإخراج معا أو الإنتاج والإخراج لضبط إيقاع العمل. وفي كل الحالات، هذا اللقاء العاطفي والفني واجتماعهما على رؤية إنسانية ووطنية مشتركة، جعل مشوارهما الثنائي، من التجارب الفريدة في السينما العربية الوثائقية، وأنتجت إضافة إلى الأفلام ابنتيهما اللتين كانتا تذهبان معهما إلى التصوير وصارتا فيما بعد شريكتين في المشروع السينمائي، خصوصا أنه كان قد أنشأ مع زوجته «ميديا للتلفزيون والسينما» و«نور للإنتاج».
كان لا بدّ من انتظار عام 2000، ليقدم جان شمعون على إخراج فيلمه الروائي الأول «طيف المدينة» الذي راكم كثيراً، على شخصيات ومسارات الوثائقيات التي سبقته، وبقي وفياً، من خلاله، لثيمة الحرب والألم من خلال قصة رامي الذي يهجر قريته الجنوبية اللبنانية هربا من القصف الإسرائيلي ويتوه في بيروت وفوضاها.
رحيل جان شمعون مفصل كما كان رحيل محمود درويش الذي سبقه بتسع سنوات بالتمام والكمال. ليس لأنّ شمعون ستيفن سبيلبيرغ السينما العربية، فهو ليس كذلك، ولا هو فيليني لبنان بكل تأكيد، كان بكل بساطة مخرجا إنسانيا، ملتزما لا بل وشديد العناد، في رؤيته. جعل للنساء دورا محوريا في أفلامه هو الذي لم يعرف والده، وتربّى في كنف أم علمته محبة الآخرين من دون تمييز بين أديانهم وانتماءاتهم، وكان يقول إنّه بقي وفيا لهذه الأم وسماحتها، مدركا للدور الكبير الذي يمكن أن تلعبه المرأة.
بغياب جان شمعون، وفي هذا الظرف الذي يمر به العرب بالذات، تبدو أفلامه التي لم تكن تعنى كثيرا بالجماليات وسحر المشاهد وإدهاش المتفرج، بقدر ما تهمها الرسالة وعمق المعنى، وإيصال الفكرة المخلصة، هي مما يستحق أن يحتفى به وتعاد مشاهدته.
جان شمعون حارب بكاميرته 40 عاماً من أجل السلام
أطاحت به الذاكرة وهو يحاول ترويضها
جان شمعون حارب بكاميرته 40 عاماً من أجل السلام
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة