سنوات السينما

المخرج سام بكنباه مع جيمس كوبرن خلال التصوير
المخرج سام بكنباه مع جيمس كوبرن خلال التصوير
TT

سنوات السينما

المخرج سام بكنباه مع جيمس كوبرن خلال التصوير
المخرج سام بكنباه مع جيمس كوبرن خلال التصوير

«بات غارِت وبيلي ذ كِـيد» (1973)
الغرب الأميركي الساحر
بجمال غارب

أفلام الوسترن التي دارت حول شخصية بيلي ذ كِـد التي عاشت بالفعل في الغرب الأميركي قبل قرنين، بالعشرات. هو بطل سيئ فهمه في بعضها، وشرير لطيف في بعضها الآخر، ومجرم خطير في بعضها الثالث. هو شاب نحيف وطويل القامة ويدافع عن الفقراء والمعرضين للخطر هنا، وشخصية لا ترحم صغيراً أو كبيراً هناك.
الحقيقة بقيت مفقودة ولا تزال، إلا في صفحات بعض الكتب ربما. لكن فيلم سام بكنباه، أحد أفضل مخرجي أفلام الغرب الأميركي ومن بين أكثرهم تميّـزاً، هو الفيلم الأكثر جدارة بالاعتماد عليه مرجعا. لا يكترث لتصنيف بطليه على نحو تقليدي، بل يجعل المواجهة بينهما جزءاً من المواجهة الأبدية بين الفرد والنظام. فعل بكنباه ذلك من قبل هذا الفيلم («الزمرة المتوحشة» و«كلاب من قش») وبعده أيضاً («أوسترمان ويك إند» و«صليب من حديد»). لكن المعضلة التي واجهها هنا هي أن بطله المعبّـر عن الفرد المتمرد كان بالفعل قاتلاً لا يمكن تبرير أعماله. هذه المعضلة قام بكنباه بتجاوزها عبر العودة إلى الجذور: بيلي قاتل وغاريت (الذي بدوره كان شخصية حقيقية) رجل القانون. لن يدافع بكنباه عن القاتل، بل سيجعل رجل القانون، المارشال بات غارِت، الوجه الآخر لبيلي. المرآة التي يرى غارِت عدّوه بيلي فيها، ويرى بيلي عدوّه غارِت فيها أيضاً.
ما ساعده على صنع هذا التماثل أن بات غارِت وبيلي ذ كيد (اسمه الحقيقي ويليام بوني) كانا شريكين في تأليف عصابة السرقة التي جابت الغرب الأميركي من قبل أن ينفصل بات غاريت ويصبح رجل قانون. وعندما فشلت كل المحاولات في الإيقاع ببيلي تمّـت الاستعانة به من هذا المبدأ بالتحديد. منذ تلك اللحظة، فإن بات سينظر بعينين مختلفتين: عين تحن إلى الصداقة الأولى وتفتقد الحرية التي كان ينعم بها، وأخرى تعبّـر عن القانون ورغبة صاحبها في فرضه مهما كانت هذه المواجهة النفسية أولاً (والفردية بينه وبين بيلي ثانياً) صعبة.

شاعرية جميلة
القبض على بيلي ذ كيد يأتي في مطلع الفيلم سهلاً ولو بعد معركة تنتهي بمقتل من معه وباستسلامه. يُـقاد بيلي مكبّـلاً إلى سجن المدينة، حيث يودع في زنزانة الشريف أولينجر (أو جي أرمسترونغ) يساعده في حراسته الشاب ج. بِـل (مات كلارك). أولينجر هو نوع من المتزمتين والمتدينين ويكنّ لبيلي الكراهية الشديدة. حين يقتل بيلي الشاب ج. بِـل ويخرج من الزنزانة يدرك أولينجر أن حياته انتهت. سيقتله بيلي في وسط الشارع ويفر من جديد.
سيطلب بات المساعدة من رجال قانون آخرين، بينهم مخضرم اسمه ألاموسا (جاك إيلام) وشريف لا يقل سناً في الحياة والخبرة أيضاً هو بايكر (سلِـم بيكنز). كلاهما من وجوه سينما الوسترن المعتادين تجدهما في أفلام الخمسينات وما بعد مميزان بمفردات تعبير لازمة. لكنهما هنا يبديان عمقاً مختلفاً رغم قصر دوريهما. ألاموسا يجابه بيلي ويموت في مبارزة خدعه فيها المجرم ليضمن حياته. بايكر يواجه بيلي الذي حط في مزرعته. هو وزوجته يشتركان في المواجهة لكن بايكر يُـصاب في بطنه. وفي مشهد تخاله من إخراج تاركوڤسكي ذاته، يضع الممثل بيكنز يده على جرحه الغائر ويتوجه إلى حيث النهر القريب ليموت عنده، تماماً كما تفعل الفيلة. ليس في مقدور زوجته (كاتي جواردو) سوى النظر إليه بعينين دامعتين. الموت عند بكنباه لم يكن لإبهاج المشاهدين بالدم والعنف، بل تعبير عن قسوة داكنة وشاعرية جميلة حتى في أحلك لحظاتها. مغني الكانتري والوسترن كريس كريستوفرسون في دور بيلي أفضل من بول نيومان في الدور نفسه تحت إدارة مخرج جيد آخر هو آرثر بن. كريستوفرسون عاد وظهر في فيلم بكنباه المهدور «قافلة» (1978) بفاعلية أقل. دور بات غاريت أدّاه جيمس كوبرن الذي عاود كذلك لعب فيلم آخر لبكنباه هو «صليب من حديد» (1977). لكن «بات غاريت وبيلي ذ كيد» يبقى الفيلم الذي منحا فيه القدر الأكبر من التعبير عن قدراتهما الخاصة.
سام بكنباه يظهر في دور قصير: نجار توابيت يتحدث عن موت الأشياء عما كانت عليه. بعد ذلك ليس هناك لمزيد من شرح هذه النقطة. الفيلم بذاته يمثّـل هذا الموت لغرب بديع وحكاياته التي آلت إلى الموت بدورها.



8 أفلام عن أزمات الإنسان والوطن المُمزّق

«من المسافة صفر» (مشهراوي فَنْد)‬
«من المسافة صفر» (مشهراوي فَنْد)‬
TT

8 أفلام عن أزمات الإنسان والوطن المُمزّق

«من المسافة صفر» (مشهراوي فَنْد)‬
«من المسافة صفر» (مشهراوي فَنْد)‬

تُحرّك جوائز «الأوسكار» آمال العاملين في جوانب العمل السينمائي المختلفة، وتجذبهم إلى أمنية واحدة هي، صعود منصّة حفل «الأوسكار» وتسلُّم الجائزة وإلقاء ما تيسَّر له من تعابير فرحٍ وثناء.

لا يختلف وضع العام الحالي عن الوضع في كل عام، فجميع آمال العاملين في هذه الصّناعة الفنية المبهرة يقفون على أطراف أصابعهم ينتظرون إعلان ترشيحات «الأوسكار» الأولى هذا الشهر. وحال إعلانها سيتراجع الأمل لدى من لا يجد اسمه في قائمة الترشيحات، وترتفع آمال أولئك الذين سترِد أسماؤهم فيها.

يتجلّى هذا الوضع في كل مسابقات «الأوسكار» من دون تمييز، لكنه أكثر تجلّياً في مجال الأفلام الأجنبية التي تتقدّم بها نحو 80 دولة كل سنة، تأمل كل واحدة منها أن يكون فيلمها أحد الأفلام الخمسة التي ستصل إلى الترشيحات النهائية ومنها إلى الفوز.

«ما زلت هنا» لوولتر ساليس (ڤيديو فيلمز)

من المسافة صفر

لا يختلف العام الحالي في شكل التنافس وقيمته بل بأفلامه. لدينا للمناسبة الـ97 من «الأوسكار» 89 دولة، كلّ واحدة منها سبق أن تنافست سابقاً في هذا المضمار. لكن المختلف هو بالطبع الأفلام نفسها. بعض ما شُوهد منها يستحق التقدير، والفرق شاسع بين ما يستحق التقدير وبين ما يستحق الترشيح والوصول إلى التّصفية.

الحلمُ في تحقيق هذه النقلة يسيطر على المخرجين والمنتجين العرب الذين نفّذوا أعمالهم الجديدة خلال هذه السنة وسارعوا لتقديمها.

من بينهم المخرج الفلسطيني رشيد مشهراوي، الذي وفّر خلال العام الحالي فيلمين، واحدٌ من إخراجه بعنوان «أحلام عابرة»، والثاني بتوقيع 22 مخرجاً ومخرجة أشرف مشهراوي على جمع أفلامهم في فيلم طويل واحد بعنوان «من المسافة صفر»، وجميعها تتحدّث عن غزة، وما حدث فيها في الأسابيع الأولى لما يُعرف بـ«طوفان الأقصى». بعض تلك الحكايا مؤثرٌ وبعضها الآخر توليفٌ روائي على تسجيلي متوقع، لكنها جميعها تكشف عن مواهب لو قُدِّر لها أن تعيش في حاضنة طبيعية لكان بعضها أنجز ما يستحق عروضاً عالمية.

لا ينحصر الوضع المؤلم في الأحداث الفلسطينية بل نجده في فيلم دانيس تانوفيتش الجديد (My Late Summer) «صيفي المتأخر». يقدم تانوفيتش فيلمه باسم البوسنة والهرسك، كما كان فعل سنة 2002 عندما فاز بـ«الأوسكار» بصفته أفضل فيلم أجنبي عن «الأرض المحايدة» (No Man‪’‬s Land). يفتح الفيلم الجديد صفحات من تاريخ الحرب التي دارت هناك وتأثيرها على شخصية بطلته.

«صيفي الأخير» لدانيس تانوفيتش (بروبيلر فيلمز)

مجازر كمبودية

تختلف المسألة بالنسبة للاشتراك الصّربي المتمثّل في «قنصل روسي» (Russian Consul) للمخرج ميروسلاڤ ليكيتش. في عام 1973 عندما كانت يوغوسلاڤيا ما زالت بلداً واحداً، عاقبت السلطات الشيوعية هناك طبيباً إثر موت مريض كان يعالجه، وأرسلته إلى كوسوڤو حيث وجد نفسه وسط تيارات انفصالية مبكرة ونزاع حول الهوية الفعلية للصرب. حسب الفيلم (الاشتراك الثاني لمخرجه للأوسكار) تنبأت الأحداث حينها بانهيار الاتحاد السوفياتي و«عودة روسيا كروسيا» وفق قول الفيلم.

التاريخ يعود مجدداً في فيلم البرازيلي والتر ساليس المعنون «ما زلت هنا» (I‪’‬m Still Here) وبطلته، أيضاً، ما زالت تحمل آلاماً مبرحة منذ أن اختفى زوجها في سجون الحقبة الدكتاتورية في برازيل السبعينات.

في الإطار نفسه يعود بنا الاشتراك الكمبودي (التمويل بغالبيته فرنسي) «اجتماع مع بُل بوت» (Meeting with Pol Pot) إلى حقبة السبعينات التي شهدت مجازرعلى يد الشيوعيين الحاكمين في البلاد، ذهب ضحيتها ما بين مليون ونصف ومليوني إنسان.

وفي «أمواج» (Waves) للتشيكي ييري مادل، حكاية أخرى عن كيف ترك حكمٌ سابقٌ آثاره على ضحاياه ومن خلفهم. يدور حول دور الإعلام في الكشف عن الحقائق التي تنوي السلطة (في السبعينات كذلك) طمسها.

تبعات الحرب الأهلية في لبنان ليست خافية في فيلم ميرا شعيب «أرزة»، الذي يدور حول أم وابنها يبحثان عن سارق دراجة نارية ويتقمصان، في سبيل ذلك، شخصيات تنتمي إلى الطائفة التي قد تكون مسؤولة عن السرقة. هما سنّيان هنا وشيعيان هناك ومسيحيان أو درزيان في مواقع أخرى وذلك للتأكيد على أن التربة الطائفية ما زالت تنبض حية.

حتى كوريا الجنوبية ما زالت تحوم حول الانقلاب (وهي تعيش اليوم حالة مشابهة) الذي وقع في مثل هذا الشهر من سنة 1979 عندما اغتيل الرئيس بارك على يد رئيس شعبة الدفاع لي تايدو-غوانغ (أُلقي القبض عليه لاحقاً وأُعدم). هذا هو ثالث فيلم شاهده الناقد كاتب هذه الكلمات حول الموضوع نفسه.