يفتح فيلم جان - بيير ملفيل Le Samouraï على بطله جف كوستيللو (ألان ديلون) وهو مستلق في غرفته الصغيرة في فندق بالغ التواضع. المشهد داكن. تكاد لا ترى فيه جف وهو مستلق على السرير لولا تلك السيجارة التي في يده. لولاها أيضاً لجاز لنا الاعتقاد بأن الشخص الجاثم هناك بلا حركة ميّت.
المشهد تمهيدي لمصير جف لاحقاً، ولن يتبدّى ذلك إلّا مع النهاية ولمن يفيق من تحت تأثير المعالجة الرائعة من مخرج أمّ السينما التشويقية بجدارة الفنان. ليس الوحيد في ذلك، لكنه فرنسي على الأقل - الأكثر التصاقاً بفن الرواية البوليسية الداكنة، تلك التي أطلق عليها النقد الفرنسي في الأربعينات، مباشرة بعد الحرب العالمية الثانية، لقب «فيلم نوار» («فيلم أسود») ولو أنّ الموصوف لم يكن أي فيلم فرنسي، بل جملة من الأفلام البوليسية الداكنة التي شملت المدرسة التعبيرية والأدب البوليسي ممتزجان بتصوير يجعل الظل ملازماً لآخر داخل أبطالها. في الواقع، «الساموراي» ليس بعيداً عن تركيبة فيلم نوار أميركي قام فرانك تاتل بإخراجه سنة 1942 بعنوان «هذا المسدس للأجرة» (The Gun for Hire). بداية ذلك الفيلم هي أيضاً في فندق ينزل فيه بطله فيليب (ألان لاد) الذي مثل جف كوستيللو قاتلاً مأجوراً ينتظر عمليته المقبلة. المعطف الشتوي هو ذاته. القبعة متشابهة.
لكن النقل هو النقيصة وليس الاستحياء. ونقاط التشابه تنتهي هنا لينفصل فيلم ملفيل عن أي شبه آخر إلّا بأفلام المخرج الفرنسي ذاته.
«الساموراي»، على صعيد الحكاية هو فيلم عن عملية قتل سيقوم بها جف لكي يجهز على ضحيته الذي يدير ملهى ليلياً. سينهض جف من موته وسيتبدى لنا أنّه رجل بلا مشاعر. يحمي نفسه من الآخرين بعدم السماح لقلبه أن ينبض. شخص يؤم عملياته من دون أن يتورط فيها. يأتيه الطلب. ينفذه. يقبض ثمنه. ينتظر المهمّة التالية.
ما لا يعرفه، ولا المشاهد، هي أن هذه المهمّة التي سيترك جف سريره ليقوم بها ستكون الأخيرة، وبعض ذلك مردّه إلى أن قلبه أخذ ينبض غصباً عنه. لم يقع في الحب، لكنّ إحساساً دفيناً بالضعف انتابه عندما ارتكب خطأ دل عليه. قاد البوليس لمطاردته في أنفاق المترو والإجهاز عليه فيما بعد. هذا الخطأ هو أنّه لم يقتل الشاهدة الوحيدة التي اعترضت طريقه (كاثي روزييه) وهو خارج من المكتب الذي ارتكب فيه جريمته. تردد ومضى. حين تم جلبه لكي يتعرف عليه شهود العيان، ومن بينهن تلك المرأة (تعمل في الملهى كعازفة بيانو) لم تشأ أن تشي به. نتيجة ذلك تشبه حال سيارة تنزلق على الطريق السريع فجأة. لم يحدث لجف أن واجه هذا الوضع حيث يمنح أحداً الحياة فيمنحه ذلك حريته في المقابل. الدقائق العشرون الأولى تمر صامتة بلا حوار يُذكر. السبب هو أن تقديم ملفيل لبطله أريد له التأكيد على وحدته. شخص معزول لأنه يريد أن يبقى كذلك. لا حل آخر لديه ولا يستطيع أن يفكر بوسيلة عيش أخرى. كل ما يحتاجه من الجنس الآخر متمثل بالمرأة التي يلتقي بها في شقتها لا حباً بها (رغم أنّها تشعر صوبه بعاطفة طيبة)، بل لكي يمنحه وجودهما معاً برهانه على أنّه لم يكن موجوداً في مكان الجريمة عندما وقعت.
من ناحية أخرى، سيناريو الفيلم الذي شارك بكتابته جورج بيليرين، هو أفضل رد على الذين يعتقدون أنّ على الفيلم تقديم خلفية لشخصيته الرئيسية تبرر اختياراته. الحقيقة أنّ هذا يتوقف على الفيلم. بعض الأفلام لا يمكن أن تتقدم مبهمة وبعضها الآخر لا بد من أن ينتقل ضمن شرنقته من الغموض كما الحال هنا.
إذ يبدأ الفيلم ببطله في الزمن الحاضر، يغيّب المخرج بعد ذلك عن بطله (وعن المشاهدين) أي زمن سابق. يلغي المرجعيات والمسببات ويدفع ببطله ما بين نقطتين مفصولتين بـ105 دقائق من العرض. نقطة تماثل الموت إلى نقطة الموت ذاتها.
سنوات السينما
«الساموراي» (1967) من موت لآخر
سنوات السينما
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة