سنوات السينما

«الساموراي» (1967) من موت لآخر

آلان ديلون في «لا ساموراي»
آلان ديلون في «لا ساموراي»
TT

سنوات السينما

آلان ديلون في «لا ساموراي»
آلان ديلون في «لا ساموراي»

يفتح فيلم جان - بيير ملفيل Le Samouraï على بطله جف كوستيللو (ألان ديلون) وهو مستلق في غرفته الصغيرة في فندق بالغ التواضع. المشهد داكن. تكاد لا ترى فيه جف وهو مستلق على السرير لولا تلك السيجارة التي في يده. لولاها أيضاً لجاز لنا الاعتقاد بأن الشخص الجاثم هناك بلا حركة ميّت.
المشهد تمهيدي لمصير جف لاحقاً، ولن يتبدّى ذلك إلّا مع النهاية ولمن يفيق من تحت تأثير المعالجة الرائعة من مخرج أمّ السينما التشويقية بجدارة الفنان. ليس الوحيد في ذلك، لكنه فرنسي على الأقل - الأكثر التصاقاً بفن الرواية البوليسية الداكنة، تلك التي أطلق عليها النقد الفرنسي في الأربعينات، مباشرة بعد الحرب العالمية الثانية، لقب «فيلم نوار» («فيلم أسود») ولو أنّ الموصوف لم يكن أي فيلم فرنسي، بل جملة من الأفلام البوليسية الداكنة التي شملت المدرسة التعبيرية والأدب البوليسي ممتزجان بتصوير يجعل الظل ملازماً لآخر داخل أبطالها. في الواقع، «الساموراي» ليس بعيداً عن تركيبة فيلم نوار أميركي قام فرانك تاتل بإخراجه سنة 1942 بعنوان «هذا المسدس للأجرة» (The Gun for Hire). بداية ذلك الفيلم هي أيضاً في فندق ينزل فيه بطله فيليب (ألان لاد) الذي مثل جف كوستيللو قاتلاً مأجوراً ينتظر عمليته المقبلة. المعطف الشتوي هو ذاته. القبعة متشابهة.
لكن النقل هو النقيصة وليس الاستحياء. ونقاط التشابه تنتهي هنا لينفصل فيلم ملفيل عن أي شبه آخر إلّا بأفلام المخرج الفرنسي ذاته.
«الساموراي»، على صعيد الحكاية هو فيلم عن عملية قتل سيقوم بها جف لكي يجهز على ضحيته الذي يدير ملهى ليلياً. سينهض جف من موته وسيتبدى لنا أنّه رجل بلا مشاعر. يحمي نفسه من الآخرين بعدم السماح لقلبه أن ينبض. شخص يؤم عملياته من دون أن يتورط فيها. يأتيه الطلب. ينفذه. يقبض ثمنه. ينتظر المهمّة التالية.
ما لا يعرفه، ولا المشاهد، هي أن هذه المهمّة التي سيترك جف سريره ليقوم بها ستكون الأخيرة، وبعض ذلك مردّه إلى أن قلبه أخذ ينبض غصباً عنه. لم يقع في الحب، لكنّ إحساساً دفيناً بالضعف انتابه عندما ارتكب خطأ دل عليه. قاد البوليس لمطاردته في أنفاق المترو والإجهاز عليه فيما بعد. هذا الخطأ هو أنّه لم يقتل الشاهدة الوحيدة التي اعترضت طريقه (كاثي روزييه) وهو خارج من المكتب الذي ارتكب فيه جريمته. تردد ومضى. حين تم جلبه لكي يتعرف عليه شهود العيان، ومن بينهن تلك المرأة (تعمل في الملهى كعازفة بيانو) لم تشأ أن تشي به. نتيجة ذلك تشبه حال سيارة تنزلق على الطريق السريع فجأة. لم يحدث لجف أن واجه هذا الوضع حيث يمنح أحداً الحياة فيمنحه ذلك حريته في المقابل. الدقائق العشرون الأولى تمر صامتة بلا حوار يُذكر. السبب هو أن تقديم ملفيل لبطله أريد له التأكيد على وحدته. شخص معزول لأنه يريد أن يبقى كذلك. لا حل آخر لديه ولا يستطيع أن يفكر بوسيلة عيش أخرى. كل ما يحتاجه من الجنس الآخر متمثل بالمرأة التي يلتقي بها في شقتها لا حباً بها (رغم أنّها تشعر صوبه بعاطفة طيبة)، بل لكي يمنحه وجودهما معاً برهانه على أنّه لم يكن موجوداً في مكان الجريمة عندما وقعت.
من ناحية أخرى، سيناريو الفيلم الذي شارك بكتابته جورج بيليرين، هو أفضل رد على الذين يعتقدون أنّ على الفيلم تقديم خلفية لشخصيته الرئيسية تبرر اختياراته. الحقيقة أنّ هذا يتوقف على الفيلم. بعض الأفلام لا يمكن أن تتقدم مبهمة وبعضها الآخر لا بد من أن ينتقل ضمن شرنقته من الغموض كما الحال هنا.
إذ يبدأ الفيلم ببطله في الزمن الحاضر، يغيّب المخرج بعد ذلك عن بطله (وعن المشاهدين) أي زمن سابق. يلغي المرجعيات والمسببات ويدفع ببطله ما بين نقطتين مفصولتين بـ105 دقائق من العرض. نقطة تماثل الموت إلى نقطة الموت ذاتها.



8 أفلام عن أزمات الإنسان والوطن المُمزّق

«من المسافة صفر» (مشهراوي فَنْد)‬
«من المسافة صفر» (مشهراوي فَنْد)‬
TT

8 أفلام عن أزمات الإنسان والوطن المُمزّق

«من المسافة صفر» (مشهراوي فَنْد)‬
«من المسافة صفر» (مشهراوي فَنْد)‬

تُحرّك جوائز «الأوسكار» آمال العاملين في جوانب العمل السينمائي المختلفة، وتجذبهم إلى أمنية واحدة هي، صعود منصّة حفل «الأوسكار» وتسلُّم الجائزة وإلقاء ما تيسَّر له من تعابير فرحٍ وثناء.

لا يختلف وضع العام الحالي عن الوضع في كل عام، فجميع آمال العاملين في هذه الصّناعة الفنية المبهرة يقفون على أطراف أصابعهم ينتظرون إعلان ترشيحات «الأوسكار» الأولى هذا الشهر. وحال إعلانها سيتراجع الأمل لدى من لا يجد اسمه في قائمة الترشيحات، وترتفع آمال أولئك الذين سترِد أسماؤهم فيها.

يتجلّى هذا الوضع في كل مسابقات «الأوسكار» من دون تمييز، لكنه أكثر تجلّياً في مجال الأفلام الأجنبية التي تتقدّم بها نحو 80 دولة كل سنة، تأمل كل واحدة منها أن يكون فيلمها أحد الأفلام الخمسة التي ستصل إلى الترشيحات النهائية ومنها إلى الفوز.

«ما زلت هنا» لوولتر ساليس (ڤيديو فيلمز)

من المسافة صفر

لا يختلف العام الحالي في شكل التنافس وقيمته بل بأفلامه. لدينا للمناسبة الـ97 من «الأوسكار» 89 دولة، كلّ واحدة منها سبق أن تنافست سابقاً في هذا المضمار. لكن المختلف هو بالطبع الأفلام نفسها. بعض ما شُوهد منها يستحق التقدير، والفرق شاسع بين ما يستحق التقدير وبين ما يستحق الترشيح والوصول إلى التّصفية.

الحلمُ في تحقيق هذه النقلة يسيطر على المخرجين والمنتجين العرب الذين نفّذوا أعمالهم الجديدة خلال هذه السنة وسارعوا لتقديمها.

من بينهم المخرج الفلسطيني رشيد مشهراوي، الذي وفّر خلال العام الحالي فيلمين، واحدٌ من إخراجه بعنوان «أحلام عابرة»، والثاني بتوقيع 22 مخرجاً ومخرجة أشرف مشهراوي على جمع أفلامهم في فيلم طويل واحد بعنوان «من المسافة صفر»، وجميعها تتحدّث عن غزة، وما حدث فيها في الأسابيع الأولى لما يُعرف بـ«طوفان الأقصى». بعض تلك الحكايا مؤثرٌ وبعضها الآخر توليفٌ روائي على تسجيلي متوقع، لكنها جميعها تكشف عن مواهب لو قُدِّر لها أن تعيش في حاضنة طبيعية لكان بعضها أنجز ما يستحق عروضاً عالمية.

لا ينحصر الوضع المؤلم في الأحداث الفلسطينية بل نجده في فيلم دانيس تانوفيتش الجديد (My Late Summer) «صيفي المتأخر». يقدم تانوفيتش فيلمه باسم البوسنة والهرسك، كما كان فعل سنة 2002 عندما فاز بـ«الأوسكار» بصفته أفضل فيلم أجنبي عن «الأرض المحايدة» (No Man‪’‬s Land). يفتح الفيلم الجديد صفحات من تاريخ الحرب التي دارت هناك وتأثيرها على شخصية بطلته.

«صيفي الأخير» لدانيس تانوفيتش (بروبيلر فيلمز)

مجازر كمبودية

تختلف المسألة بالنسبة للاشتراك الصّربي المتمثّل في «قنصل روسي» (Russian Consul) للمخرج ميروسلاڤ ليكيتش. في عام 1973 عندما كانت يوغوسلاڤيا ما زالت بلداً واحداً، عاقبت السلطات الشيوعية هناك طبيباً إثر موت مريض كان يعالجه، وأرسلته إلى كوسوڤو حيث وجد نفسه وسط تيارات انفصالية مبكرة ونزاع حول الهوية الفعلية للصرب. حسب الفيلم (الاشتراك الثاني لمخرجه للأوسكار) تنبأت الأحداث حينها بانهيار الاتحاد السوفياتي و«عودة روسيا كروسيا» وفق قول الفيلم.

التاريخ يعود مجدداً في فيلم البرازيلي والتر ساليس المعنون «ما زلت هنا» (I‪’‬m Still Here) وبطلته، أيضاً، ما زالت تحمل آلاماً مبرحة منذ أن اختفى زوجها في سجون الحقبة الدكتاتورية في برازيل السبعينات.

في الإطار نفسه يعود بنا الاشتراك الكمبودي (التمويل بغالبيته فرنسي) «اجتماع مع بُل بوت» (Meeting with Pol Pot) إلى حقبة السبعينات التي شهدت مجازرعلى يد الشيوعيين الحاكمين في البلاد، ذهب ضحيتها ما بين مليون ونصف ومليوني إنسان.

وفي «أمواج» (Waves) للتشيكي ييري مادل، حكاية أخرى عن كيف ترك حكمٌ سابقٌ آثاره على ضحاياه ومن خلفهم. يدور حول دور الإعلام في الكشف عن الحقائق التي تنوي السلطة (في السبعينات كذلك) طمسها.

تبعات الحرب الأهلية في لبنان ليست خافية في فيلم ميرا شعيب «أرزة»، الذي يدور حول أم وابنها يبحثان عن سارق دراجة نارية ويتقمصان، في سبيل ذلك، شخصيات تنتمي إلى الطائفة التي قد تكون مسؤولة عن السرقة. هما سنّيان هنا وشيعيان هناك ومسيحيان أو درزيان في مواقع أخرى وذلك للتأكيد على أن التربة الطائفية ما زالت تنبض حية.

حتى كوريا الجنوبية ما زالت تحوم حول الانقلاب (وهي تعيش اليوم حالة مشابهة) الذي وقع في مثل هذا الشهر من سنة 1979 عندما اغتيل الرئيس بارك على يد رئيس شعبة الدفاع لي تايدو-غوانغ (أُلقي القبض عليه لاحقاً وأُعدم). هذا هو ثالث فيلم شاهده الناقد كاتب هذه الكلمات حول الموضوع نفسه.