تحت خيمة صغيرة لا تقي من أشعة شمس الصيف الحارقة وسط ارتفاع درجات الحرارة لمعدلات قياسية، جلس جاسم العلي (52 عاماً) مع زوجته سعاد وبناته الثلاثة، وابني عمومته ماجد وخلف اللذين كانا بضيافته، في مخيم بلدة عين عيسى الخاص بالنازحين الهاربين من مدينة الرقة، يتبادلون الأحاديث ويستعيدون بذاكرتهم لحظات فرارهم من مدينتهم قبل نحو شهر.
تنحدر العائلة من حي الرميلة الواقع في الجهة الشرقية لمدينة الرقة، وتشرح سعاد (48 عاماً) لـ«الشرق الأوسط»، أنه في بداية شهر يونيو (حزيران) الماضي تواترت الأخبار عن تقدم قوات سوريا الديمقراطية نحو الرقة، «وقتها قررنا الفرار إلى منطقة قريبة من الاشتباكات، كانت فكرة جنونية أن ننزح إلى مناطق المعارك لكن ذلك كان أملنا الأخير، هربنا سراً إلى مزرعة الجزرة، يومها كانت تخضع لمسلحي (داعش)، بقينا فيها 11 يوما ننتظر بدء الاشتباكات».
وأيقنت العائلة بعد سماع أصوات الاشتباكات تقترب منهم، ومشاهدة طيران التحالف الدولي يقصف مقرات التنظيم، أن المعركة قد بدأت وحان وقت الهروب، وتضيف سعاد: «بقينا أياماً وليالي ما ذقنا طعم النوم، متنا من الجوع والعطش، هربنا تحت زخ الرصاص وقصف الطيران وقناصة (داعش) التي كانت تستهدف كل شيء يتحرك، بس الحمد لله وصلنا بخير وسلامة».
بعدها تسللت العائلة سراً إلى منطقة صحراوية، وتمكنت من الهرب إلى مزرعة الخاتونية الواقعة أقصى غرب الرقة التي كانت تخضع وقتها لسيطرة قوات سوريا الديمقراطية، وتم نقلهم إلى مخيم عين عيسى.
وأثناء تبادل الأحاديث؛ أخرج جاسم علبة الدخان من جيبه وأشعل سيجارة، قال إن هذه الحركة كان محروماً منها طوال 3 سنوات بسبب منع عناصر تنظيم داعش المتشددّ للتدخين، وتابع: «دوريات التنظيم كانت تجوب الشوارع وتفتش عن المدخنين، بلغ بهم الأمر درجة أنهم كانوا يشمون رائحة الفم لمعرفة إذا كان الشخص يدخن أم لا». إلا أن جاسم كان يخدعهم بوضع العطور على ذقنه ووجهه كي لا يكتشفوا أمره.
وتتدفق مئات العائلات يومياً من مدينة الرقة إلى مخيم عين عيسى، الواقع على بعد نحو 50 كيلومتراً شمال مدينة الرقة، هرباً من قبضة عناصر التنظيم المتطرف، وسط مشاعر الرعب التي تتملكهم بعد أن تقطعت أوصال أسرهم وتدهور إيقاع حياتهم مع احتدام المعركة التي تستهدف طرد عناصر التنظيم من أبرز معاقله في سوريا.
ويشترك غالبية النازحين الفارين من مدينة الرقة، عند وصولهم إلى مخيم عين عيسى بخيمة واحدة مع نازحين آخرين، إلى أن يتم فرزهم على خيمة خاصة، وقد تتقاسم عائلتان الخيمة نفسها.
منير المحمود (47 عاماً) أحد هؤلاء الفارين، ينحدر من حي الدرعية الواقع شمال غربي الرقة. كشف أنه كان يخطط منذ ستة أشهر للهرب وكان ينتظر ساعة الصفر، وفي بداية الشهر الحالي وصلت المعارك إلى الأحياء المتاخمة للدرعية، وتمكن برفقة زوجته وأطفاله الأربعة ووالدته الطاعنة في السن، من أن ينجوا بحياتهم، حيث بقوا عدة أيام يتنقلون من مكان إلى آخر وسط المعارك الدائرة في مسقط رأسه، إلى أن نجحوا في الوصول إلى الأحياء المحررة.
وتتقدم قوات سوريا الديمقراطية المدعومة جواً من التحالف الدولي والولايات المتحدة، داخل الأحياء الشرقية والشمالية للمدينة، منذ بداية شهر يونيو الماضي حيث تمكنت من طرد مقاتلي تنظيم داعش من هذه المناطق وباتت تسيطر على ثلث مساحة المدينة.
منير كان يعمل في الرقة كسائق «تاكسي»، وفي أحد أيام شهر أبريل (نيسان) الماضي وبينما كان يسير بالقرب من دوار النعيم وسط المدينة، شاهد أطفالاً يلعبون بشيء غريب لا يشبه كرة القدم أو السلة، ركن سيارته جانباً وترجل منها واتجه نحوهم ليُصدم بالمشهد، وقال: «بأم عيني شفت أطفالاً لا يتجاوزون سن العاشرة يلعبون برأس شخص مقطوعة كانت جثته ملقاة على قارعة الطريق». الصورة كانت من أقسى المشاهد التي سيتذكرها منير بقية حياته، وأكد أن الجثة بقيت مرمية عدة أيام دون أن يدفنها أحد إلى أن أكلتها الكلاب.
أما وليد (20 عاماً) فهو شاب في مقتبل عمره، يعمل متطوعاً مع منظمة «أطباء بلا حدود» التي تقدم الخدمات للنازحين من أبناء مدينته. أخبر أنه رفض مبايعة التنظيم المتشددّ وتمكن من الهرب عن طريق مهرب مقابل دفع مبلغ مائة ألف ليرة سورية (200 دولار أميركي). وذكر أنه شاهد في إحدى المرات عناصر من جهاز الحسبة يسحبون شاباً معصوب العينين مكبل اليدين، في ساحة الساعة وسط مدينة الرقة، ويبدو عليه أنه مخدر ونفذوا بحقه حكم حد السرقة وقطعوا يده اليمنى.
وأثناء تجوالنا في «مخيم عين عيسى»، التقينا بعائشة (38 عاماً) التي حولت خيمتها إلى محل لبيع الألبسة ومستحضرات التجميل، فغالبية النازحين سيما النساء والفتيات منهنّ فروا بملابسهم التي عليهم. تقول لنا: «أبيع الألبسة الملونة والمزركشة، كنا نحلم نحن النساء، تحت حكم (داعش)، بلبسها، لأن عناصر التنظيم كان يجبروننا على ارتداء السواد والخمار والنقاب، حتى أنهم كتبوا ذلك على جدران مدينتنا وشاخصات الإعلانات، ونبهونا على التقيد بما أسموه بـ(اللباس الشرعي)».
أما خديجة (32 عاما) فكانت قد وصلت قبل عدة أيام إلى مخيم عين عيسى، عندما التقينا بها. وعلى الرغم من وجودها وعائلتها في خيمة مشتركة مخصصة للوافدين الجدد وتفتقر لأدنى مقومات الحياة، فإن مشاعر الارتياح ارتسمت على وجهها وهي تتحدث إلينا، وعبرت عن سعادتها بالقول: «كنت أعيش في الجحيم، إذ صادف أنه كان مقابل بيتي بالرقة مقر لتنظيم داعش، أشاهد عناصره يومياً وأسمع آهات المعذبين وصراخ الجلادين، وختمت حديثها بالقول: «أما اليوم فنحن سعداء فقد نجوت من التنظيم برفقة زوجي وأطفالي، ونفضل السكن تحت في ظل هذه الخيمة على العيش تحت حكم الدواعش».
«الشرق الأوسط» في مخيم «عين عيسى» تلتقي الفارين من جحيم «داعش»
مدنيون نزحوا من الرقة هرباً من الرؤوس المقطوعة
«الشرق الأوسط» في مخيم «عين عيسى» تلتقي الفارين من جحيم «داعش»
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة