أكبر صانعي السياسات المالية العالمية يعايشون «لحظات عصيبة»

مزيج مزعج من الضغوط على البنوك المركزية... والكل ينتظر «تغييرات»

أكبر صانعي السياسات المالية العالمية يعايشون «لحظات عصيبة»
TT

أكبر صانعي السياسات المالية العالمية يعايشون «لحظات عصيبة»

أكبر صانعي السياسات المالية العالمية يعايشون «لحظات عصيبة»

يعايش عالمنا اليوم لحظة دقيقة يحاول خلالها صناع السياسات المالية مواجهة طوفان من المتغيرات العالمية التي تعمل على قلب الموازين الاقتصادية من خلال الضغط على كبريات البنوك المركزية المتحكمة في محركات الاقتصاد العالمي، خصوصاً مع اقتراب نهاية «حقبة» التيسير الكمي في كل من الاحتياطي الفيدرالي (البنك المركزي الأميركي) والبنك المركزي الأوروبي وبنك إنجلترا (المركزي البريطاني)، مع غموض في موقف بنك اليابان المركزي، بالتزامن مع ضعف نمو الأجور في الاقتصادات المتقدمة ومزيج «مزعج» من الضغوط في سوق الأسهم العالمية. ويتحرك المصرفيون المركزيون معاً لتحسين النمو والتضخم بشكل عام في بلادهم، فضلا عن أسباب خاصة حول وضع كل اقتصاد منهم على حدة. فالولايات المتحدة الأميركية تقترب من معدل التشغيل الكامل، في حين أن الأجور لا تزال راكدة في منطقة اليورو، وتحاصر مخاوف الركود المملكة المتحدة، فيما تحاول الصين كبح التحفيز مع تجنب الهبوط العسر، بالإضافة إلى مساعي حكومتي الصين وأميركا إلى «تطبيع السياسات المالية». ولكن العامل الأكثر تأثيراً هو أن الآثار الجانبية للسياسة «الفضفاضة» أصبحت أكثر وضوحاً، ولم تعُدْ مقبولةً سياسياً بعد تخطي آثار الأزمة المالية العالمية خلال السنوات القليلة الماضية، وفرض ذلك واقعاً جديداً في ظل المتغيرات الحالية، سواء اقتصادية أو سياسية أو اجتماعية أو جيوسياسية.
وعلى سبيل المثال، قالت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، الأسبوع الماضي، إن سياسة المركزي الأوروبي «لن تساعد على وصولنا إلى حيث نريد».

علاجات سطحية:
وحالت سياسات التيسير الكمي دون تفاقم الأزمة، ولكنها لم تحل أسبابها الجذرية. وارتفعت مستويات الدين العالمية بنسبة وصلت إلى 276 في المائة، لتصل إلى 217 مليار دولار في عام 2016، أي ما يوازي 327 في المائة من إجمالي الناتج المحلي العالمي وفقاً لتقرير المعهد الدولي للتمويل. كما ساعدت سياسات التيسير «الفضفاضة» في تعزيز الفارق بين أصحاب الأصول وذوي الدخول، والأسواق المالية وبقية الاقتصاد.
ويؤدي التشديد الكمي، الذي يحاول واضعو السياسات المالية في البنوك المركزية الاتجاه إليه أخيراً، إلى وضع حد لأسعار الأصول العالية التي يمكن أن تؤدي إلى زعزعة استقرار النظام المالي، فضلاً عن الحد من تزايد عدم المساواة في الثروة، خلافاً لذلك يمكن الحد من عدم المساواة عن طريق رفع الضرائب والاستثمار في التكنولوجيا والتعليم وتحسين زيادة الإنتاجية.
وعادة ما تحدث حالات الركود وانكماش الأسواق عندما تقرر البنوك المركزية والحكومات السيطرة على معدلات التضخم إلى «مسار معين»، وتتجادل البنوك المركزية حول متى وكيف تعود إلى مسار ارتفاع أسعار الفائدة وخفض حيازات السندات.
وفي أعقاب الأزمة المالية العالمية تصاعدت المطالب بمزيد من النقد وضخ المزيد من رؤوس الأموال، فاستجابت البنوك المركزية لتعويض النقص بشراء السندات وخفض أسعار الفائدة لتجنب «جفاف» السيولة في القطاع الخاص وإبقاء نمط نموه مستمرّاً.
أما حالياً، فقد بدأت معنويات المستثمرين مع زيادة توقعات ارتفاع أسعار الفائدة في اقتصادات العالم المتقدم مع دفع التحول عن إجراءات التحفيز، حيث أظهر استطلاع «بنك أوف أميركا ميريل لينش» أن 48 في المائة من المستثمرين يعتقدون أن السياسة العالمية أصبحت «شديدة التحفيز». وأظهر استطلاع لـ«الشرق الأوسط»، في عينة قوامها 207 من مديري الاستثمار ومديري إدارة الأصول للشركات العالمية، أن 52 في المائة من المستثمرين الأوروبيين يرجحون أن تحول البنوك المركزية عن سياسات التحفيز الكمي «أمر ضروري» في الوقت الراهن. وأعرب 27 في المائة من المستثمرين في الاستطلاع عن مخاوفهم من تأثير الخطوات التالية من قبل مجلس الاحتياطي الفيدرالي والمركزي الأوروبي على الموجات التصحيحية للبورصات العالمية التي استمرت في أعقاب الأزمة المالية العالمية.
وقال جون غون، مدير إدارة الأصول في شركة «غلوبال» البريطانية لإدارة الاستثمارات، لـ«الشرق الأوسط» إن «الارتفاعات المقبلة للاحتياطي الفيدرالي قد تكون محفزاً (سلبياً) محتملاً للأسواق العالمية».

الفيدرالي الأميركي:
اتخذ مسؤولو الاحتياطي الفيدرالي خطوات جريئة لمحاربة الأزمة المالية العالمية وآثارها التي تمثلت في «الكساد الكبير»، وكانت الخطوة الأكثر جرأة آنذاك شراء تريليونات الدولارات من السندات في محاولة غير مسبوقة لتعزيز النمو الاقتصادي. أما الآن، ومع اقتصاد أكثر «صحة»، تختلط الآراء حول المقدار المناسب من شراء السندات، والتكيف حول شدة السياسة المالية للفيدرالي من أجل خفض مخزون ضخم من الأصول يقدر بنحو 4.5 تريليون دولار. ويأمل صناع القرار في المركزي الأميركي من التخلص التدريجي من حيازة السندات، التي وصلت إلى أربعة أضعاف ما كانت عليه قبل الأزمة المالية العالمية بشكل تدريجي وبسلاسة لمحاربة الركود في المستقبل.

بنك إنجلترا:
«الركود» ليس السيناريو الذي يتمناه المركزي البريطاني في الوقت الراهن، لكن مخاطره آخذة في الازدياد في ظل خلفية سياسية متقلبة ومفاوضات غير قابلة للتنبؤ بنتائجها مع خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، إضافة إلى ارتفاع حالة عدم اليقين.. ولا تزال أسباب توقع حدوث «ركود» بعد استفتاء يونيو (حزيران) الماضي تطارد اقتصاد المملكة المتحدة.
ورغم أن استقرار الاقتصاد البريطاني عكس التوقعات بالركود في أعقاب التصويت، فإن هناك ضغوطاً على الإنفاق الاستهلاكي والاستثمارات التجارية الضعيفة نتيجة لعدم اليقين من خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. ومن المرجح أن تستمر الضغوط في ظل علاقة مستقبلية غير واضحة المعالم حتى الآن بين المملكة المتحدة وأوروبا.
وتوقع بنك «كريدي سويس» وقوع الاقتصاد البريطاني في «الركود» في وقت لاحق من العام الحالي، مع استمرار اقتصاد البلاد في التباطؤ، وتوقع البنك أيضاً أن تظهر أرقام الناتج المحلي الإجمالي (التي ستصدر في وقت لاحق خلال الأسبوع المقبل) أن الاقتصاد البريطاني نما بنحو 0.2 في المائة فقط في الربع الثاني، مما يتناسب مع الأداء الضعيف في الأشهر الثلاثة الأولى من عام 2017. أما بالنسبة لبقية العام، فإن البنك توقع أن يظل النمو ضعيفاً حول ما بين 0.2 إلى 0.3 في المائة لكل فصل خلال العام.
ويرجع كريدي سويس التباطؤ إلى انخفاض الإنفاق الاستهلاكي، وحالة عدم اليقين الناجمة عن «بريكست»، ويشكل القطاع الخدمي ما نسبته 78 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي.

المركزي الأوروبي:
سيعلن المركزي الأوروبي قراره الأخير بشأن السياسة النقدية اليوم الخميس، ومن المتوقع أن يبقى المجلس على أسعار الفائدة على ما هي عليه حالياً، في حين يترقب المستثمرين إعلاناً «شبه مؤكد» بـ«تغيير ما» في برنامج شراء السندات الشهري للبنك.
وعن حديثه اليوم، ستعد هذه هي المرة الأولى التي يتكلم فيها ماريو دراغي رئيس المركزي الأوروبي علنا عن السياسة النقدية منذ تصريحاته في يونيو الماضي عن ارتفاعات الأسواق الأوروبية، حيث ارتفعت الأسواق في نهاية يونيو بعد تلميحات دراغي إلى تغيير نظام شراء السندات الذي بدء منذ مارس (آذار) 2015، وانتعش على أثره اليورو أمام سلة العملات مع انخفاض معتدل لمعدلات البطالة، في ظل ضغوط تضخمية ضعيفة. ويتحسس دراغي «كلماته العامة» خشية إثارة نوبات قلق للأسواق بشأن تغير السياسة النقدية في الوقت الراهن.
من جانبه، لَمّح فيليروي دي غالهاو محافظ بنك فرنسا وعضو مجلس المركزي الأوروبي أمس أمام النواب الفرنسيين بأن المركزي الأوروبي سيتخذ نهجا «حذراً» في اجتماع هذا الأسبوع، وأكد أن «المركزي» هزم «الانكماش».
وقال غالهاو إنه من السابق لأوانه إنهاء خطة شراء الأصول أو رفع أسعار الفائدة من أدنى مستوياتها الحالية، مضيفاً: «لقد حققنا تقدماً، لكننا لم نصل بعد إلى الهدف... لذلك لا تزال هناك حاجة إلى سياستنا النقدية التكيفية، ونحن نعمل على تكييف شدة السياسات اعتماداً على الوضع الاقتصادي والتقدم نحو الهدف».

بنك اليابان المركزي:
من المتوقع أن ينتهي بنك اليابان المركزي من تأكيد التزامه بسياسة نقدية «فضفاضة» بانتهاء اجتماع لجنة السياسة النقدية للبنك اليوم (الخميس)، ويشتري بنك اليابان حالياً 80 تريليون ين من السندات سنوياً بأسعار فائدة سلبية، ويحاول البنك الحفاظ على تكاليف الاقتراض الحكومية طويلة الأجل حول مستوى «الصفر» في المائة في محاولة لدفع التضخم والنمو.
ومع استمرار التضخم الضعيف، فإنه من المرجح أن يبقى المركزي الياباني على تباطؤ التحلل من برنامج التحفيز، في الوقت الذي بدأت فيه معظم البنوك الرئيسية تشديد الإمدادات النقدية، بينما لم تتمكن سياسة «آبينومكس» (نسبة إلى رئيس الوزراء الياباني تشينزو آبي) من زيادة معدل التضخم إلى هدف المركزي حول 2 في المائة. ولا يلوح في الأفق النجاح في هذا الهدف خلال العام المالي 2017 - 2018 (يبدأ العام المالي في اليابان أول أبريل/ نيسان، وينتهي في مارس من العام التالي). وتتركز أهدف المركزي الياباني في الوقت الراهن حول تثبيت عوائد السندات الحكومية لمدة 10 سنوات عند المعدل الصفري.

يأمل صناع القرار في المركزي الأميركي بالتخلص التدريجي من حيازة السندات (أ.ف.ب)



«الفيدرالي» على وشك خفض الفائدة مجدداً يوم الأربعاء

مبنى «الاحتياطي الفيدرالي» في واشنطن (رويترز)
مبنى «الاحتياطي الفيدرالي» في واشنطن (رويترز)
TT

«الفيدرالي» على وشك خفض الفائدة مجدداً يوم الأربعاء

مبنى «الاحتياطي الفيدرالي» في واشنطن (رويترز)
مبنى «الاحتياطي الفيدرالي» في واشنطن (رويترز)

من المتوقع على نطاق واسع أن يخفض بنك الاحتياطي الفيدرالي تكاليف الاقتراض خلال اجتماعه، يوم الأربعاء المقبل، مع احتمال أن يسلط المسؤولون الضوء على كيفية تأثير البيانات الاقتصادية الأخيرة على قراراتهم بشأن أسعار الفائدة في العام المقبل.

وتضع الأسواق المالية في الحسبان احتمالات بنسبة 97 في المائة أن يخفض بنك الاحتياطي الفيدرالي سعر الفائدة على الأموال الفيدرالية بمقدار ربع نقطة مئوية، ليصبح النطاق بين 4.25 في المائة و4.5 في المائة، وفقاً لأداة «فيد ووتش».

ومع ذلك، تضاءل مبرر بنك الاحتياطي الفيدرالي لخفض الفائدة مؤخراً بعد التقارير التي تشير إلى أن التضخم لا يزال مرتفعاً بشكل مستمر مقارنةً بالهدف السنوي لـ«الفيدرالي» البالغ 2 في المائة، في حين أن سوق العمل لا تزال قوية نسبياً. وكان البنك قد خفض أسعار الفائدة في سبتمبر (أيلول) ونوفمبر (تشرين الثاني) بعد أن أبقاها عند أعلى مستوى في عقدين طوال أكثر من عام، في محاولة للحد من التضخم المرتفع بعد الوباء.

ويؤثر سعر الأموال الفيدرالية بشكل مباشر على أسعار الفائدة المرتبطة ببطاقات الائتمان، وقروض السيارات، وقروض الأعمال. ومن المتوقع أن تكون أسعار الفائدة المرتفعة في الوقت الحالي عقبة أمام النشاط الاقتصادي، من خلال تقليص الاقتراض، مما يؤدي إلى تباطؤ الاقتصاد لتخفيف الضغوط التضخمية والحفاظ على الاستقرار المالي.

لكن مهمة بنك الاحتياطي الفيدرالي لا تقتصر فقط على مكافحة التضخم، بل تشمل أيضاً الحد من البطالة الشديدة. وفي وقت سابق من هذا الخريف، أدى تباطؤ سوق العمل إلى زيادة قلق مسؤولي البنك بشأن هذا الجزء من مهمتهم المزدوجة، مما دفعهم إلى خفض أسعار الفائدة بمقدار 50 نقطة أساس في سبتمبر. ورغم ذلك، تباطأ التوظيف، فيما تجنب أصحاب العمل تسريح العمال على نطاق واسع.

توقعات الخبراء بتخفيضات أقل في 2025

تدور الأسئلة المفتوحة في اجتماع الأربعاء حول كيفية موازنة بنك الاحتياطي الفيدرالي بين أولويتيه في مكافحة التضخم والحفاظ على سوق العمل، وكذلك ما سيقوله رئيس البنك جيروم باول، عن التوقعات المستقبلية في المؤتمر الصحفي الذي سيعقب الاجتماع. وبينما تبدو التحركات المتعلقة بأسعار الفائدة في الأسبوع المقبل شبه مؤكدة، فإن التخفيضات المستقبلية لا تزال غير واضحة.

وعندما قدم صناع السياسات في بنك الاحتياطي الفيدرالي آخر توقعاتهم الاقتصادية في سبتمبر، توقعوا خفض المعدل إلى نطاق يتراوح بين 3.25 في المائة و4.5 في المائة بحلول نهاية عام 2025، أي بتقليص بنسبة نقطة مئوية كاملة عن المستوى المتوقع في نهاية هذا العام.

وتوقع خبراء الاقتصاد في «ويلز فارغو» أن التوقعات الجديدة ستُظهر ثلاثة تخفيضات ربع نقطة فقط في عام 2025 بدلاً من أربعة، في حين توقع خبراء «دويتشه بنك» أن البنك سيُبقي على أسعار الفائدة ثابتة دون خفضها لمدة عام على الأقل. فيما تتوقع شركة «موديز أناليتيكس» خفض أسعار الفائدة مرتين في العام المقبل.

التغيير الرئاسي وتأثير التعريفات الجمركية

يشكّل التغيير في الإدارة الرئاسية تحدياً كبيراً في التنبؤ بمستقبل الاقتصاد، حيث يعتمد مسار التضخم والنمو الاقتصادي بشكل كبير على السياسات الاقتصادية للرئيس المقبل دونالد ترمب، خصوصاً فيما يتعلق بالتعريفات الجمركية الثقيلة التي تعهَّد بفرضها على الشركاء التجاريين للولايات المتحدة في أول يوم من رئاسته.

وتختلف توقعات خبراء الاقتصاد بشأن شدة تأثير هذه التعريفات، سواء كانت مجرد تكتيك تفاوضي أم ستؤدي إلى تأثيرات اقتصادية كبيرة. ويعتقد عديد من الخبراء أن التضخم قد يرتفع نتيجة لنقل التجار تكلفة التعريفات إلى المستهلكين.

من جهة أخرى، قد تتسبب التعريفات الجمركية في إضعاف الشركات الأميركية والنمو الاقتصادي، مما قد يضطر بنك الاحتياطي الفيدرالي إلى خفض أسعار الفائدة لدعم الشركات والحفاظ على سوق العمل. كما يواجه البنك تحدياً في فصل تأثيرات التعريفات الجمركية عن العوامل الأخرى التي تؤثر في التوظيف والتضخم.

وتزداد هذه القضايا غير المحسومة وتزيد من تعقيد حسابات بنك الاحتياطي الفيدرالي، مما قد يدفعه إلى اتباع نهج أكثر حذراً بشأن تخفيضات أسعار الفائدة في المستقبل. كما أشار مات كوليار من «موديز أناليتيكس» إلى أن التغيرات المحتملة في السياسة التجارية والمحلية تحت إدارة ترمب قد تضيف طبقة إضافية من عدم اليقين، مما يدعم الحاجة إلى نهج الانتظار والترقب من لجنة السوق المفتوحة الفيدرالية.