لم يتسرب الكثير عن اجتماع وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لو دريان ونظيره الإيراني محمد جواد ظريف بعد لقائه المبعوث الدولي إلى سوريا ستيفان دي ميستورا، لكن اللقاءين اللذين تناولا سوريا مهمان لسببين: الأول؛ أنهما حصلا قبل أيام قليلة من استحقاقات أساسية متصلة بالملف السوري. الثاني، متعلق بالمساعي الفرنسية لبلورة ما سماها الرئيس إيمانويل ماكرون في 22 يونيو (حزيران) الحالي «خريطة طريق سياسية ودبلوماسية»، هي في الواقع خطة للخروج من الحرب وتسوية المسألة السورية.
وبحسب مصادر فرنسية رفيعة المستوى تحدثت إليها «الشرق الأوسط»، لم تصل باريس بعد إلى «مرحلة نضوج» خطتها. وما زالت الدبلوماسية الفرنسية ماضية في اتصالاتها. لهذا السبب، فإن المسؤولين الفرنسيين، في تصريحاتهم يتوقفون عند المبادئ العامة لما يريدونه، وهو ما فعله لو دريان في حديث خص به صحيفة «لو موند» المستقلة ونشر في عدد أمس.
ويحدد لو دريان «قاعدة مبادئ»؛ أولها، الحرب ضد كل أنواع الإرهاب. ثانيها، منع استخدام السلاح الكيماوي منعا مطلقا. ثالثًا، إيصال المساعدات الإنسانية. رابعاً، التوصل إلى حل سياسي «يضم كل المكونات السورية بدعم من مجلس الأمن، خصوصا الدول دائمة العضوية وبلدان المنطقة». ويضيف الوزير الفرنسي أنه يتعين تشجيع إقامة مناطق «خفض التصعيد» واستكشاف كل الوسائل المفضية إلى الحوار بين الأطراف السورية وإطلاق مسار انتقالي مع كل الملتزمين بهذه المبادئ. ويلاحظ لو دريان أن الحرب على الإرهاب تتقدم بينما المستوى السياسي يتسم بالجمود.
واضح أن لو دريان يتعمد الغموض فيما خص الحل السياسي، ذلك لسببين: الأول، حاجة باريس لمزيد من المشاورات، خصوصا مع الجانبين الأميركي والروسي؛ حيث يشكل مجيء الرئيس دونالد ترمب إلى باريس يومي 13 و14 من الشهر المقبل لحضور العرض العسكري فرصة لفهم معمق للمواقف الأميركية، خصوصا أن فرنسا ما زالت تشكو من «ضبابيته» و«استطالة» عملية إعادة النظر في السياسة الأميركية التي طلبها ترمب من وزارتي الدفاع والخارجية. الثاني، أن خيار توقيت المبادرة الفرنسية وكشف تفاصيلها متروك للرئيس ماكرون.
وأكدت مصادر لـ«الشرق الأوسط» أن باريس تريد «محفلا جديدا» غير منصتي جنيف وآستانة لأن باريس ترى أنهما «لم يؤديا المهمة» من جهة؛ ومن جهة، تراوح جنيف مكانها، وزيارة دي ميستورا إلى العاصمة الفرنسية كانت لعرض التطورات ورصد العناصر الجديدة. وكشف المبعوث الدولي لوزير الخارجية، بحسب مصادر لـ«الشرق الأوسط»، أن أحد أسباب تعثر «آستانة» أن النظام السوري «رافض» لوجود قوات تركية في إطار القوات الدولية التي ستولج مهمة الإشراف على إحدى مناطق خفض العنف وهو يعدها «قوة احتلال». وتابعت المصادر أن سبب التعثر الآخر أن تركيا «تريد ضمانات» روسية لجهة امتناع قوات النظام عن مهاجمة قواتها أو قوات المعارضة الحليفة التي تعمل معها شمال البلاد.
من هنا، من المنتظر أن تطرح باريس، في إطار مبادرتها «صيغة جديدة» تشكل إطارا خارجيا للحل، وتضم فقط الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن والدول الإقليمية الرئيسية المعنية: «السعودية وتركيا وإيران والأردن وقطر والإمارات». وفائدة هذه الصيغة أنها تشكل انقطاعا مع صيغة «أصدقاء الشعب السوري» التي أصبحت «مهلهلة» بسبب تراميها، كما أنها تختلف عن صيغة «النواة الصلبة» الداعمة للمعارضة التي تغيب عنها، بطبيعة الحال، روسيا وإيران.
وما قاله لو دريان «يوضح» بعض الغموض الذي أثارته تصريحات ماكرون حول بشار الأسد؛ سواء لجهة بقائه في السلطة أو لجهة شرعيته. وكان الرئيس الفرنسي أعلن أنه لم يعد يعتبر أن رحيل الأسد شرط وأن «لا أحد قدم له بديلا عنه يتمتع بالشرعية». وبحسب لو دريان، فإن رؤية باريس تتسم بواقعية «مزدوجة؛ وجهها الأول التخلي عن رحيل الأسد شرطا مسبقا للمفاوضات، ووجهها الثاني اعتبار أنه لا يمكن الوصول إلى حل يدور حوله». أما في موضوع العمل مع الأسد في الحرب على الإرهاب، فإن لو دريان نفى ذلك بقوله إنه «لم ير شيئا» يمكنه من الاعتقاد بأنه أمر يمكن أن يحصل. وكان ماكرون أشار في 22 من الشهر الحالي إلى «الحاجة لتعاون الجميع في الحرب على الإرهاب» ما دفع بعض المعلقين إلى جعل قوات النظام السوري من بينها.
تبدو باريس «متشجعة» من قدرتها على تحقيق شيء ما في الملف السوري، وهي ترى أن بوسعها التحرك بين الأميركيين والروس. وقال لو دريان إن هناك «نافذة مواتية» للتحرك والعمل مع روسيا، لكنه رفض الخوض في التفاصيل. وكانت مصادر أبلغت «الشرق الأوسط» شرحا مسهبا للأسباب التي تدعوهم للتفاؤل بوجود تغير في مقاربة موسكو التي تعول عليها باريس للعودة إلى الملف السوري. وتساءل لو دريان بصيغة النفي: «هل سمعتم الروس يقولون (يوما) إن الأسد يمكن أن يشكل مستقبل سوريا؟».
من العوامل المشجعة اعتبار فرنسا أن إحدى ثوابت المقاربة الأميركية في الشرق الأوسط «احتواء» إيران، وأن ترجمته ستبدأ من الملف السوري، بالتالي، فإن السير بحل سياسي سيكون عاملا مساعدا لروسية التي تعي أن الحسم العسكري غير ممكن وأن مصالحها الاستراتيجية يمكن أن تؤمن من غير الغرق في الملف السوري إلى ما لا نهاية. وقال لو دريان إن «اعتماد منهج جديد والانطلاق من مبادئ قوية لا خلاف عليها والامتناع عن فرض شروط مسبقة بلاغية الطابع والعمل على إيجاد جسور تواصل، من شأنه أن يمكننا من إحراز تقدم».
وفق هذا التصور، تعتقد مصادر فرنسية أن باريس يمكن أن تلعب اليوم دور «الوسيط» بين الأطراف الرئيسية، خصوصا بين واشنطن وموسكو. وتضيف هذه المصادر أن المبادرات التي يقوم بها الرئيس ماكرون تصب كلها في هذا الاتجاه. ماكرون بين أنه يطمح للعب دور فاعل على المسرح العالمي؛ فأوروبياً، هو الوحيد اليوم القادر على القيام بمبادرات بينما رئيسة وزراء بريطانيا عالقة في «البركسيت»، والمستشارة الألمانية منشغلة بالانتخابات التشريعية في سبتمبر (أيلول) المقبل. وفي جانب آخر، يعد أن الرئيس ترمب ضعيف بسبب مشكلاته الداخلية، بينما نظيره الروسي في حاجة إليه للتقارب مع أوروبا والولايات المتحدة الأميركية. إنها فرصة جديدة، لكن النجاح فيها غير مكفول، لأنه رهن عوامل كثيرة لا تتحكم باريس بها، ولأن الملف السوري بلغ حدا بعيدا من التعقيد بسبب تداخل المصالح والعوامل بين ما هو محلي وإقليمي ودولي.
باريس تسعى لـ«التوسط» بين واشنطن وموسكو في الملف السوري
دمشق ترفض نشر مراقبين أتراك في إدلب
باريس تسعى لـ«التوسط» بين واشنطن وموسكو في الملف السوري
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة