من الصعوبة الإشارة إلى كتاب بعينه، فيقول المرء: هذا الكتاب، أكثر من غيره، قد غيّر مسيرة حياتي. قد يكون هناك أكثر من كتاب يؤثر في صياغة تفكير المرء، وسلوكه، وأحياناً - بل ربما معظم الأحيان - بطرائق مباشرة وغير مباشرة، وبوعي ومن دون وعي، إذ تكون التأثيرات مبثوثة، كامنة، تنتظر وقت تبلورها وتأثيراتها.
فالكتب، كأحداث الحياة، تؤثر في لحظات وسياقات معينة، وتُستعاد من منظورات مختلفة. وقد تكون هناك كتب قرأها المرء سابقاً، فلم تؤثر فيه كثيراً ويعيد قراءتها في مكان وزمان آخر، فإذا هي ذات تأثير قوي غير مسبوق، والعكس صحيح، فربما قرأنا كتباً أثرت فينا بقوة، ثم تلاشت أو قلّت قوة هذا التأثير بحكم تجارب حياتية عملية جديدة أو بقراءات كتب أخرى. ومع كل ذلك، وربما لحميمية العلاقة مع الكتب، لا يتحرج كثير من المثقفين والكتاب، من تحديد كتاب بعينه والقول إنه كان أكثر تأثيراً من غيره، مع صعوبة قياس أو إثبات التأثير. هذا حالي مع الكتب كان بين مد وجزر، وصيرورة حياتية وفكرية.
أما الكتاب الذي أستعيد معه على الدوام تاريخ علاقاتي بالمعنى والصيرورة والحياة ومغزاها، فهو «القرآن الكريم». فمنذ كنت في الخامسة من عمري أردد في مدرسة سيهات الأولى، بلا تشجيع على السؤال، وسامح الله المدرسة والمنهج والمعلمين، آيات من القرآن الكريم، وإلى اليوم وأنا أستعيد بين فترة وأخرى مسألة معنى الصوت والآيات والمضامين. كان هاجسي وشاغلي هو: لماذا؟ وكان السؤال مقموعاً.
في المرحلة المتوسطة، أخذني الوالد (يرحمه الله)، إلى كرسي قراءة القرآن بعد الإفطار في شهر رمضان في بيت (أبو ناجي المشامع) بمدينتي سيهات. كنتُ أيضاً أردد في ليالي الشهر الكريم الآيات العزيزة وأتساءل.
في الثانوية، كانت اهتمامي بالقراءات والمقامات الصوتية تتشكل. في الجامعة، بدأت الأسئلة الكبرى تتسع وتتشابك في علاقة المعنى بالصوت بالترتيب بالمعاني الإنسانية الخالدة التي أراد رب العالمين الرحمن الرحيم لبني البشر أن يتقاسموها ويعيشوها.
من هنا ونفسي شغوفة بدراسات علم اللغة الاجتماعي والتربية، وجدت نفسي شغوفاً بالترجمة. كنتُ أنظر إلى الترجمة كفعل أنطولوجي سار في الوجود، نوع من التسبيح. كنتُ أعود إلى القرآن فأقرأ: «وإن من شيء إلّا يسبح بحمده، ولكن لا تفقهون تسبيحهم». تقودني المفاهيم اللغوية والاجتماعية والأنطولوجية للترجمة إلى مشروع الموسوعة العربية العالمية.
تمر السنوات وتتناسل الحكايات. وأعود إلى هذا الكتاب الكريم باستمرار في محاولات للتأمل الجديد.
تفاجئ «داعش» العالم. وتسيل الدماء وتملأ الأحزان والمآسي أصقاعاً كثيرة من هذا العالم العربي والإسلامي. أحياناً، يمارسون الخراب والدمار باسم القرآن وباسم منزل القرآن... والكل يقرأ القرآن. هذا يحتاج بدوره إلى عودة جديدة تماماً إلى النص القرآني الشريف، وإلى مسائل المعنى وعمارة الأرض ومحبة الإنسان واحترام الديانات والثقافات والمعتقدات، وإلى مسائل الحرية والكرامة البشرية. هذه مسألة تعليم وثقافة في المقام الأول.
* عضو مجلس الشورى
مدير عام الموسوعة العربية العالمية
تعلمتُ من «القرآن الكريم» أن أكون شغوفاً بالترجمة السارية في الوجود
تعلمتُ من «القرآن الكريم» أن أكون شغوفاً بالترجمة السارية في الوجود
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة