الشاعرة الاسكوتلندية كارول آن دوفي هي «شاعرة البلاط البريطاني»، وهو منصب فخري، وتقليد بريطاني جار العمل به منذ القرن السابع عشر، وبالتحديد منذ 1668، حين شغله واحد من أعظم الشعراء الإنجليز وهو جون درايدن، لمدة سنتين. وأعقبه طوال هذه القرون شعراء ليسوا بالضرورة هم الأفضل في جيلهم، إذ إن اعتبار «الشعبية» يأخذ بالحسبان. أما «الولاء» للتاج والحكومة، على طريقتنا، فلا اعتبار له.
ومن الشعراء الذي احتلوا هذا المنصب هنري جيمس باي، وربرت سوثس، وألفريد تنيسون، وأفريد أوستن، وصولا إلى القرن العشرين، حين شغله شعراء مثل جون مانسفيلد، وسيسل داي لويس، وجون بتجمان، وتيد هيوز، وأندرو مشن، وأخيرا كاروال آن دوفي، التي ما تزال تحتل هذا المنصب، ذا القيمة الرمزية الكبيرة. وبالطبع، هناك شعراء رفضوا اختيارهم له مثل توماس غراي، وصموئيل روجرز، ووالتر سكت، والآيرلندي شيموس هيني، الحاصل على جائزة نوبل للآداب عام 1995.
والبلاط بالطبع ليس له دور في اختيار هذا الشاعر أو ذاك، وإنما يأتي الترشيح من رئيس أو رئيسة الوزراء، حسب توصية المستشارين، كما في شؤون البلاد الأخرى.
مناسبة الحديث هنا، هي قصيدة لآن دوفي نشرتها صحيفة «الغارديان» البريطانية أول أمس على صدر صفحتها الأولى! القصيدة القصيرة، المعنونة «حملة»، (إشارة إلى حملة رئيسة الوزراء في الانتخابات الأخيرة)، هي قصيدة هجاء مقذع، بل تجريح، على طريقة شعرائنا القدامى، لتيريزا ماي بعد رهانها الانتخابي الخاسر، الذي سبب لها إهانة كبيرة، وأدخل حزبها وبلادها في أزمة لا يعرف أحد كيف ستنتهي. دوفي تصف جسم ماي، أثناء الحملة الانتخابية، بأنه «علامة استفهام تستفهم أكاذيبها. وفمها صندوق اقتراع يعض اليد التي غذته». أما عيناها فـ«تدوران بحثا عن جائزة اليانصيب الكبرى، بينما قلبها محفظة نقود مسروقة»!
ثم تصف دوفي لغة رئيسة الوزراء البريطانية «الطنّانة»، أو خطابها بشكل عام، بأنها «بيت قس فارغ»، إشارة إلى وظيفة والد تيريزا ماي، ذو نوافذ مكسورة، وقدمها تنمو حادة مثل خنجر، لكنها خرقاء تعوزها المرونة، ولا تعرف كيف تتحرك.
ويصل التجريح إلى ذروته حين تصف دوفي تيريزا ماي بما لا يمكن نشره في هذه الجريدة. وفحواه أنها فقدت أنوثتها، واكتسبت بعض الأعضاء الرجولية. وهو وصف غير موفق أخلاقيا واجتماعيا، ولا يخدم غرض القصيدة، بل يقلل كثيرا من قيمتها الفنية. لكن الشاعرة، في السطور الأخيرة، تنتقل بالمشهد الحسي، الذي عكسته بلغة شبه نثرية، من الخاص إلى العام، ومن المحسوس إلى التجريد، بسوية فنية أعلى:
عندما استيقظت كان أنفها دمويا، صعبا.
وكان الشباب الغاضبون يركضون باتجاهها
عبر حقول القمح.
وخارج القصيدة والشاعرة، يستوقفنا هنا أمران. الأول هو أن الهجاء ظاهرة غريبة ليس فقط على الشعر البريطاني منذ شكسبير حتى وقتنا الحالي، بل على عموم الشعر الأوروبي والأميركي أيضاً، ونكاد نقول الديوان الشعري لأغلب الأمم إن لم يكن كلها، ما عدا الديوان الشعري العربي القديم، الذي يحتل فيه فن الهجاء مساحة واسعة، قد يكون هو أسوأ ما في هذا الديوان، وأقله اخضرارا وبقاء. ومن هنا، تبدو قصيدة دوفي، إذا سميناها قصيدة، استثناء نادرا في ديوان الشعر الغربي، وهو استثناء غير محمود. والأمر الثاني، هو نشر هذه القصيدة على الصفحة الأولى في جريدة واسعة الانتشار عالميا مثل جريدة «الغارديان». وهو شيء محمود يستحق رفع القبعات له كما يقول الإنجليز، بغض النظر عن المناسبة، رغم صعوبة إنكار تأثيرها على القرار الذي اتخذته إدارة الجريدة بنشر القصيدة على صفحتها الأولى. وقد سبق لـ«الغارديان» أن فعلت ذلك في مناسبات كثيرة. وهذا يذكرنا بصحف عربية، في أيام الخير، اعتادت نشر الشعر على صفحاتها الأولى، ومنها صحيفة «الأهرام» المصرية، التي نشرت عدة قصائد لأحمد شوقي، وصحيفة «البلاد» العراقية التي كانت تزيّن صفحاتها الأولى قصائد محمد مهدي الجواهري أيام المد الثوري في الأربعينات والخمسينات.
لم يتكرر هذا الأمر عربيا، وربما لن يتكرر، بعدما طغى الخبر السياسي، حتى لو كان رثاً، على صدور صحفنا. ولا يتوقف الأمر عند ذلك فقط، بل باتت حتى الصفحات الثقافية لا تجرؤ على نشر قصيدة كموضوع رئيسي، بل مكانها دائماً هناك.. في أسفل الصفحة!
شاعرة البلاط البريطاني تهجو رئيسة الوزراء
شاعرة البلاط البريطاني تهجو رئيسة الوزراء
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة