لم يكن الموت ليخون الروائي والشاعر الإسباني الأشهر خلال الخمسين سنة الأخيرة خوان غويتيسولو فيعاجله في فضاء آخر غير الذي عشق، ليغمض عينيه يوم الأحد الماضي في مراكش بالمغرب، المدينة التي يهواها من دون كل المدائن، وحيث عاش جلّ الربع الأخير من حياته المديدة.
غويتيسولو الذي تصوَّر نفسه «خائناً إسبانياً» يفتح أسوار مدينته للغزاة العرب، اعتبر دائماً أشد منتقدي إسبانيا الشوفينيّة التي هي بالضرورة كاثوليكيّة بيضاء تُشرعن هويتها حول إلغاء المكوّن الأندلسي للبلاد، وكتب عشرات المقالات في صحف باريس ضد حكم الجنرال فرنكو الفاشي. «أنا فهمت اللغة الإسبانيّة فعلا عندما تعلمت العربيّة من الحكواتيين في ساحة جامع الفنا بمراكش». هذا الموقف المبدئي من الانفتاح على الآخر جعله يعيش وكأنه غجري بوهيمي وطنه العالم يتنقل بين فضاءات مكانية ملهمة تشبهه على نحو أو آخر: باريس وطنجة ومراكش، وتسبب ذلك بمنع كتبه من التداول في بلده الأم طوال حكم فرنكو الطويل، وتجاهل الأوساط الثقافيّة الأميركيّة الشماليّة له.
مشروع غويتيسولو الأدبي - المتناثر بين الرّوايات والقصائد والمقالات والمذكّرات ونصوص أخرى تائهة ما بين تلك الأنواع الأدبيّة كلّها - وكأنه ثورة تامة على كل مكونات الهويّة التي ولد بها: ثورة ضد عائلته وطبقته وتربيته وجنسيته وتاريخ بلاده الرسمي وحتى لغته ذاتها - فعاش ومات كآيرلندي روحه محاصرة بلغة مضطهديه كما وصفه أحد أصدقائه - ورغم عمره المديد وتجاربه الإنسانيّة الوافرة فإنه ظل عالقاً بتلابيب الحرب الأهليّة الإسبانيّة (1936 – 1939) وكأنه خرج من رحمها لا من رحم إسبانيا أو حتى أمه البيولوجية. تلك المرحلة شكلت وجدانه وكشفت عن مدى تصدّع روح بلاده التي رآها تعيش مأساة سرّية مستمرة منذ قرون. تلك الحرب أفقدته أمه إثر قصف طائرات اليمين الفاشي، على الرغم من إصرار والده المناصر لفرنكو أنها لقيت حتفها على يد المارقين الحمر - أي اليساريين الذين كانوا يقاتلون من أجل جمهوريّة جديدة. وبالفعل فإن تلك الحرب المؤلمة تبدو كهاجس مشترك يربط بين أعماله الروائيّة تحديداً والمتسمة جميعها بإحساس عميق واستثنائي بالتاريخ جعلته ينفذ إلى عمق الأشياء بعين صقر فلا يُفوّت يباس وجهٍ جائعٍ أو خوف طفل من رذاذ الرصاص.
ولد غويتيسولو لعائلة برجوازيّة كلاسيكيّة في برشلونة عام 1931. قتلت والدته بينما كان في السابعة، فكبر يتيماً ثالث أربعة أخوة اشتهر اثنان منهم في عالم الكتابة الأدبيّة: خوسيه (الذي صار شاعراً) ولويس (الذي يعتبر من أهم الروائيين الإسبان المعاصرين). أرسله والده لاحقاً إلى مدرسة رهبان متزمتة جعلته يكره التعليم المدرسي ويعادي رجال الدّين ويؤمن بالهرب طوال حياته. في الجامعة درس القانون قبل تحوله إلى الكتابة الأدبيّة فنشر أول رواياته عام 1954 (القتلة الصغار). لم يطق غويتيسولو العيش في ظل النظام القمعي فهاجر إلى فرنسا عام 1956. وعمل مراجعاً ومقيّماً للأعمال الأدبيّة بالإسبانيّة لدى دار غاليمار المعروفة. هناك تعرّف على رفيقته ولاحقاً زوجته - الروائية والمحرّرة - مونيك لانج (توفيت عام 1996) التي عرفته على نجوم الثقافة الفرنسيّة اليسارية آنذاك: جان بول سارتر وسيمون دي بوفوار وألبير كامو وجاي ديبور، كما التقى هيمنغواي. غويتيسولو كان يساريّاً بالفطرة، فهو رغم اطلاعه على أعمال كارل ماركس ولينين، ورغم قربه الشديد من الحزب الشيوعي الإسباني فقد اتخذ مسار التضامن مع المضطهدين والمهمشين فقط عندما عرف من وثائق عائلته أن ثروة جدّه الأكبر جمعها من خلال استغلال العبيد في مزارع السكّر بكوبا قبل الثورة، لكن اليسار اعتبره خائناً عندما كتب مقالة تنبأ فيها بسقوط نظام فرنكو ليس بسبب نضالات الشيوعيين، وإنما بفضل قوى السوق التي فتحت النوافذ لإسبانيا جديدة تسعى إلى العصرنة، وتعتاش من استقبالها الأجانب سائحين. وفعلا سقط نظام فرنكو، لكن قطار حياة هذا (الغجري الفخري) كان قد تجاوز محطته الإسبانية.
تأثر غويتيسولو بالقامات الأدبيّة الفرنسيّة التي تعرّف عليها، لكن جان جينيه بالذات تحول بالنسبة إليه مرشداً روحياً، وبوصلة أخلاقيّة شديدة الوضوح في انحيازها لمعذبي الأرض ومهمشيها، فرفع صوته عالياً في تأييد حرب الاستقلال بالجزائر ونضالات الفلسطينيين. جينيه المعروف بميوله الجنسيّة الشاذّة وكذلك فرنسا بأجوائها المتحررة أقله مقارنة بإسبانيا المتزمتة ربما يفسران دخوله إلى عالم المثليين، وهو عندما اعترف بذلك لزوجته لانج، أصيبت بخيبة أمل قاهرة لم تثنها عن البقاء إلى جانبه في علاقة مفتوحة، لكنه ظل دائماً شغوفا بها كحبيبته الوحيدة الأبدية.
تتجاوز كتب غويتيسولو الأربعين كتاباً، نشر أغلبها - ولحين وفاة فرنكو - عبر ناشرين في المكسيك والأرجنتين، وترجمت إلى كل اللغات الحيّة لكن أشهرها للناطقين بالإسبانيّة كان ثلاثيّة «علامات الهويّة» وفيها يتخيّل إسبانيا وقد تخلصت من كل التراث الموريسكي الأندلسي فلم يعد بها زراعة أو عمارة أو منسوجات أو موسيقى أو حتى أطباق طعام تقليديّة. هذا الهمّ الأندلسي تحول إلى طابع وسم معظم أعماله اللاحقة، معتبراً أن فرنكو نفسه ما هو إلا نتاج إسبانيا الصليبية التي أقصت مسلميها بلا رحمة بعد سقوط غرناطة «فذهبت إسبانيا بعدها في إجازة طويلة من التاريخ»، بل وصَدَم القوميين الإسبان بإصراره على أن سيرفانتيس نفسه كان يهوديّاً تكثلك، وأن (دون كيخوتيه)، روايته المؤسِسة للأدب الإسباني، تأثرت على نحو عميق بألف ليلة وليلة التي اطلع عليها سيرفانتيس في كتب الموريسكيين الإسبان. تطوّر نثره من أجواء الواقعيّة الجديدة في الخمسينيات إلى أجواء تجريب أدبي منذ الستينيات ولذلك أصبحت أعماله صعبة المراس ولا تقدّم أي تنازلات للقارئ العادي. يقول النقاد إن أعمق أعماله ربما تكون رواية «حالة حصار - 2002» التي استوحاها من أجواء حصار سراييفو. كما نشر مذكراته الشديدة الصراحة والإباحيّة في منتصف الثمانينات فأصاب المجتمع الإسباني المحافظ بالصدمة. تراجعت حظوظ الرواية عنده شيئا فشيئاً لمصلحة الشعر حتى أعلن رسميّاً توقفه عن تعاطي الرواية «لأنني قلت كل ما يمكن قوله، بينما الشعر يبقى أقرب لثقافة الحكي المسموع». غويتيسولو مغرم بثقافة الحكي هذه، وأفضل أيامه كانت تلك التي قضاها في ساحة جامع الفنا بمراكش يستمع للحكواتيين غريبي الأطوار وهم يسحرون الناس بقصصهم، وقد قاد حملة عالميّة لحماية أجواء الثقافة الشفاهيّة في فضاء ذلك الجامع الشهير تُوجت بإعلان اليونيسكو المكان كأول محمية عالميّة للتراث الشفاهي.
أوائل التسعينيات، وبتشجيع من صديقته الناقدة المعروفة سوزان سونتاج ذهب غويتيسولو إلى سراييفو المحاصرة، وكتب من هناك لصحيفة «البايس» الإسبانيّة العريقة تقارير أسبوعيّة تدمي القلب عن المذبحة التي كانت تجرى في قلب أوروبا المعاصرة وقضى ضحيتها أكثر من 120 ألف أوروبي مسلم. كانت حرب البوسنة بالنسبة له أشبه بالحرب الأهليّة الإسبانيّة في فظاعاتها، واعتبر أنها قضت على أوهام التفوق الأخلاقي الغربي نهائيّاً. «لقد جعلتني تلك الحرب متشائماً من البشر» يقول غويتيسولو: «نحن فعلاً أشبه ما نكون بحيوانات متعلمة، أو حتى حيوانات لا تتعلم فتعيد ارتكاب جرائمها كما هي تقريباً، دون تعديلات تذكر». وكتب لاحقاً من الشيشان ومن غزة، وأدان غزو بغداد وغطى عندما قارب الثمانينات من العمر ثورة الربيع في تونس وتنبأ بثورة مماثلة في مصر، لكنّه أخبر الشبان وهو يقف معهم على المتاريس بأن الديمقراطيّة عمليّة طويلة تستغرق وقتاً ودماءً كثيرة. «في إسبانيا مثلاً بين أول دستور عام 1812 واليوم مررنا بفترات طويلة من حكم شمولي، ثم ملكيّة دستوريّة، وثلاث حروب أهليّة وأربعة ديكتاتوريّات».
قدّم غويتيسولو برنامجاً وثائقيّاً عن الحضارة الإسلاميّة باللغة الإسبانيّة، وأنتج طارق علي الكاتب والسينمائي اليساري البريطاني المعروف فيلماً وثائقيّاً عن حياته في مراكش، حيث بدا وكأنه عمدة فخري للمدينة يعرفه الجميع ويطلبون مساعدته في قضاء أمورهم مع السلطات المحليّة. وقد عاندته نوبل - لأسباب غير مفهومة - لكنه حاز على أرفع الجوائز الأدبيّة في العالم الناطق بالإسبانيّة بما فيها خوان راؤول - الأهم المكسيك - في 2004 (وتسلمها حينها من غابرييل غارسيا ماركيز) وميغيل دي سيرفانتيس - الأهم في إسبانيا - عام 2014 بالإضافة إلى جائزة محمود درويش الذي كان نشر كثيراً من نصوص غويتيسولو المختارة بالعربيّة في مجلته الأدبيّة المرموقة «الكرمل».
قضى غويتيسولو سحابة عمره فريداً يبني جسراً بين عوالم متناقضة: عالم فيه العواطف متدفقة وتحكمه الكلمة المحكيّة، والسينمات المفتوحة على الهواء الطلق، والمهمشون المتجولون لكنه ينوء تحت الفقر المدقع، والمرض والجهل يقابله عالم آخر فيه انتخابات حرة، ولقاحات تحمي الأطفال من الموت المبكر، وكتب كثيرة لكنه يعاني من تخثر المشاعر. لقد كان يأمل بإكمال بناء ذلك الجسر المعلق في الغيم، ليعيد فتح بوابات العالم لكل المهمشين والمهزومين والمغيبين قسراً عن التاريخ، لكنه رحل دون أن يعبأ أحد فيما يبدو بإكمال تلك المهمة المستحيلة.
غويتيسولو... أراد فتح بوابات العالم للمهمشين
أغمض عينيه بين يدي مراكش التي أحب
غويتيسولو... أراد فتح بوابات العالم للمهمشين
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة